قراءات نقدية
قراءة في ديوان: رسائل إلى تشي غيفارا للشاعرة د. نادية نواصر
باقة أشعارٍ تتشظى ما بين لهيب الحب والثورة وصقيعِ الحرمان والمنفى.
بتّ من المتابعين لنصوص الشاعرة الجزائرية الفارسة المخملية الدكتورة نادية نواصر، صاحبة الكلمة الراقية اللطيفة النّاعمة القوية المؤثرة. وكان لا بد من وقفة نقدية لشاعرة اشتغلت على شعرها باهتمام وتفان. حتى تمكّنت من اتقان صنعتها، واختطّت لها طريقا مميزة في كتابة قصيدة النثر ما بعد الحداثية. فسعت مثابرة من أجل خوض غمار الرّاهن، ومسايرة وتيرة التّحوّلات الاجتماعية المعاصرة، التي تستوجب أدوات كتابة مغايرة، وذائقة جمالية تختلف أيّما اختلاف عن سابقاتها.وهي التي في أوج قحط المشاعر أمطرت ريهام الغيث العاطفي، فتساقطت بكلمات الرحمة على شغاف أرواحنا التي أرهقها العنف وجفاف العبارات وهمجية التواصل، فطلعت بنا شجرا وارفا بفيىء البلاغة، مزهرا بزهر البديع، متجذرا بأصالة الأمة، مثمرا بغلال الحب، ينبت من تربة الحنين. وفي هذه القراءة المختصرة، سنتعرض لنماذج من قصائدها بالدراسة، قصد امتاع القارئ بإبداعها الأدبي.
من هي الشاعرة نادية نواصر؟
نادية نواصر، قامة أدبية جزائرية صاحبة صالون أدبي بمدينة عنابة، متحصلة على ثلاث شهادات دكتوراه فخرية من العراق ومن سوريا. لها مجموعة من الدواوين المطبوعة. ناضلت لأجل الحرف وهي في عمر الزهور فنقشت اسمها في سجل التاريخ بأحرف من نور. شاعرة مخملية بامتياز، رقيقة ذات حس مرهف وحساسية عالية، تتسرب الى أحلامنا ومشاعرنا، وتلامس شغاف قلوبنا باحساسها الشاعري المبدع. هي من مدينة شطايبي بولاية عنابة الساحلية، موطن الابداع والاصالة، تفتحت شاعريتها منذ نعومة منشئها، تقرض الشعر بكلّ الوانه الوطني والثوري والوجداني الغزلي، وتتسم بالعاطفة الوجدانية، وتكتب عن الحب وهموم الأنثى العاشقة، وتناجي الحبيب بأحلى كلام البوح في غير ابتذال، وتخاطب شاعرها الافتراضي، متمسكة بالأمل والانتصار وبزوغ فجر جديد، ومؤمنة بأن الحياة قصيرة، وبها ما يستّحق أن يعاش. فهي تنقل المتلقي إلى جو النص الشفاف النقي البريء الممتلئ بعبارات الاشباع العاطفي. وما أعجبني في شعرها هو سلاسة الكلمات والعبارات والصور وفخامتها في غير تكلّف، فيخال المتلقي نفسه أمام نصوص طفلة شاعرة، تحمل عقل وقلب امرأة ناضجة. ولعلّ من الصّدف الجميلة أن أتعرف على نادية نواصرالانسانة، من خلال متابعتي لقصائدها التي تنشرها بين حين وآخر في عدد من المواقع الالكترونية، وعلى صفحتها الفيسبوكية، حيث تسترعي الانتباه وتشدنا بمضامينها وصورها ومعانيها وايحاءاتها ودلالتها وأبعادها، وقد استقرأت جلّها، وعشت مع حروفها ومفرداتها وعباراتها المشحونة بالصّدق العفوي.فوجدتني أظفر بمعرفتها عن قرب لأجد فيها تلك الانثى الناعمة والمرأة الصامدة القوية،والأم الرؤوم والاخت الحنون والابنة البارة والزوجة الوفية، والصديقة الصدوقة الطيّبة المعطاء.
تمتاز شاعرتنا بشفافيتها وتلقائيتها وعفويتها ووضوحها، فنصوصها شفيفة سهلة ورموزها دالّة عميقة المعنى. يطغى عليها الحب وتسيطر الرومانسية على الغاليية منها، فأجمل ما في كتاباتها أسلوبها الشاعري الذي يجعل الكلمات المقروءة تنساب بين أيدينا كالنهر المتدفق.فتتنوّع موضوعات قصائدها ونصوصها النثرية وخواطرها الشعرية، والقصيدة عندها تمتاز بالايحاء الموسيقي الجميل، واللغة الحية الهادئة، والصورة الشعرية الجديدة الزاهية الخلابة، وهذه الصورة هي المحرك الموسيقي الايقاعي لكلماتها المنسابة العذبة، تكتب عن الحب بكل نبضات قلبها ونفثات روحها وارتعاشات جسدها، وتتأجج بالمشاعر الأنثوية العاطفية، بوعي شعري لافت، وحس انساني راق.
اثر هذه المقدمة المختزلة سنحاول قراءة ديوان " رسائل إلى تشي غيفارا "، وليس العنوان وحده ما شدني للاهتمام به، بل المحتوى وموقف الشاعرة ذاتها من الموضوع.حيث صدر حديثا للشاعرة ديوانها الذي نحن بصدد قراءته، عن دار الألمعية، والذي تحكي فيه عن مسيرة الكاتب والشاعر الطبيب " غيفارا" الذي اختار أن يحمل رسالة الشعوب المضطهدة، وينتقم ممن أخطأوا في حق الفرد وسلبوه كرامته، حيث يتضمّن الإصدار حياة الزعيم وسيرته النضالية ونصوص شعرية تتغنى به.على هيأة رسائل بوّبتها في قصائد ضمن الديوان الذي
يقع في ثمانين (80) صفحة، وتقول شاعرتنا: "الكتابة عن الزعماء والثوريين تتطلّب حسابا ثوريا وإيمانا بالثورة والانسان والكينونة، لقد كنت مقاومة بالزعماء ومواقفهم الرجولية ونزعتهم لإنقاذ الانسان من الذل وقبض الجبابرة.. حين كنت أتأمل صورة هذا الرجل الجميل قلت في نفسي كان من الممكن أن يكون ممثلا يتباهى بنجوميته في الشاشات وفي أفخم الفنادق، أو عارض أزياء يبهر الملايين على منصات العرض أو زير نساء يسقط في شباكه أجمل نساء العالم، ولكنه اختار الغابات والعراء والأشواك والأحياء التي أنهكها الفقر والأطفال الذين أتعبهم البكاء لأجل كوب من الحليب، ومضى مسكونا بقضية الانسان ليوفر له خبزا مغمسا بحساء الكرامة، في أرض تقبل الانسان الشامخ، إلا أن الرجل الثوري الجميل أعدمه أعداء الحق، ويظل الحق قضية كل ثوري شامخ رغم مرارته...." حوار جريدة الشعب.
هذا الديوان الثائر الخلاب الشفاف الطافح بالمشاعر العشقية الحنينية الفياضة والعواطف الأنثوية الجياشة، يبعث الدفء في أعماقنا، بما فيه من انفعال وجداني وفيض عفوي ودفقات شعورية شديدة الوضوح، خطته صاحبة الحروف المخملية الانسيابية والكلمات الحريرية الرقراقة، التي يرقد قلبها فوق صخور الليل، وعلى هودج الصمت تمسك نفسها، وتصقل روايتها وقصيدتها على بوابات الفجر.
علاقة الثورة بالشعر:
الشعر فن والفنُّ شبيه بالثورة إن لم يكن توأمها. فالفنُّ، بطبيعته، يرفض الواقع ويتوخّى إعادة صياغته برموز وعلامات جديدة، وبمعان متجدّدة، وبقيم متأصّلة، تماماً كالثورة. فالأدب والشعر لن يكونا فنا أصيلا ما لم يتركا الواقع ويحلّقا في أجواء الخيال، لخلق عالم مختلف عن العالم الراهن. إنّ الفن يرمي إلى تغيير الواقع، وبناء عالم جديد وفق نظرة الفنان وإيديولوجيته ورسالته. ولا يتدفق إلهام الفنان فعلا فنيا إلا عندما يبلغ الفنان ــ أديبا أو شاعرا أو رساما ــ درجة عالية من القلق والتوتر، إن لم نقل الهيجان النفسي والجنون. وينبئُنا التاريخ أن الأدب عموما ــ والشعر خصوصا ـــ كان دوما محرّضا على الثورات، وممهِّدا ومؤجِّجا لها، ومتغنيا بها، وممجِّدا لفكرها وشهدائها. ولهذا فإن جلّ الشعراء المخلصين كتبوا للثورة ومجّدوا شهداءها، وتغنوا بأهدافها. وهاهي شاعرتنا نادية نواصر، تتغنّى بالثورة لتمتطي صهوة المجد وتتقمص روح الخلود في هيأة الحضور الغائب، الميت الذي حيا في عالم الكلمات والمعاني بكلّ بهائه الرجولي وبطولاته الخالدة. فتقول
الشاعرة في مستهلّ ديوانها "رسائل إلى تشي غيفار":
أيها الجاثم على جبل الرفض
ارنستو تشي غيفارا
بكل هذا البهاء الرجولي
في يمينك سيف الحق
وعلى يسارك وردة العمر
وهي ترنو إلى ربيع الإنسان
قل لي: يا عصفا يعيد الكلام إلى سنابل الصمت
لماذا تشي غيفارا؟
عند كتابة النص الشعري يسيطر على شاعرتنا المخضرمة هاجس الوطنية المفرطة وحب الوطن وتمجيد الثورة والثوار، ولا غرابة من ذلك كونها جزائرية حتى النخاع وكريمة مناضل مجاهد فذ، ونلاحظ تكرار هذه الظاهرة في الكثير من قصائدها. وحين تقرأ شعرها، تجدها تتحدث عن امرأة ألهمتها ثورة التحرير المظفّرة، وأضناها القهر والحرمان الذي عاناه أبناء وطنها إبّان الاستعمار، حيث نلمس عن قرب نبرة العنفوان المجبول بالحزن جرّاء ما دفعته الشعوب المستعمرة. لذا تجدها تكتب عن الشهداء والثوار، وعن الزعماء الذين دافعوا عن الحق وعن الإنسان والانسانية والأرض، وأن انبهارها بالزعماء والشهداء ودورهم البطولي والانساني جعلها تتوقّف عند حياة تشي غيفارا ونيلسون مانديلا ومظفر النواب وجميلة بوحيرد.. مؤكّدة أن هؤلاء لهم عزيمة ورؤيا وإيمان بالحق والعدالة يختلف عن الانسان الطبيعي، ولهم شجاعة رهيبة لتقديم حياتهم مقابل كرامة الإنسان، وبالتالي تقول : أجدني واقفة على عتبات مسارهم، يغريني أن أتوغل أكثر وأكتب وكأنني أعيش في عصرهم. أدى بها تمجيدها للقيم النبيلة وحبها للعدالة والانسانية إلى اتخاذ الرموز العالمية، مثلا يحتذى به وموضوعا دسما لكتابة قصائدها الابداعية، حتى تظن أنها عاشت في فترتهم وخاطبتهم فعلا لا مجازا، فهي إذ تكتب عن تشي غيفارا البطل، فلأنّه ناضل من أجل الحفاظ على الاستقلالية الفكرية والتنموية للتجربة الكوبية، بل وتجارب كافة الشعوب، وحقهم بالمبادرة والاجتهاد في بناء أوطانهم، دون تبعية،كان نضاله من أجل الانسانية جمعاء وهو الذي قال : "لا أعرف حدودا، فالعالم بأسره وطني.. أحس على وجهي بألم كل صفعة توجّه إلى مظلوم في هذه الدنيا، فأينما وُجد الظلم فذاك وطني..." وأينما وجدت الدعوة إلى الحرية والعدالة تجد شاعرتنا تكتب بل وتبدع جاعلة النموذج المذكور مثلها وقدوتها.
النزعة الرومانسية:
أجدني أعزى ظهور النزعة الرومانسية في شعر نادية نواصر، إلى أثر المعاناة التي كان يعانيها اجدادها أثناء الحرب التحريرية، وفي اعقابها، حيث عانى الناس من العذاب، وكبت الحريات، والعواطف، والقيود، مما أدى إلى انطواء الشاعرة على نفسها، والتوجه إلى دنيا الأحلام بين اليأس، والأمل، فنجدها تراوح بين الحزن، والأسى، والمعاناة والفرح أحيانا اخرى، فالهروب إلى الطبيعة مؤشر واضح ينبىء عن روح شاعرتنا الشفافة الصادقة وخيالها الحالم، وبوحها الصادق، حتى لا يكاد يخلو شعرها من تجليات الطبيعة، والركون إلى أحضانها، واستشعار حنانها، وروعة جمالها، ومناجاتها، واعتبارها بمثابة الأم، والملهمة لها، والتماس العزاء منها في حالات الانكسار، وبالتالي فإنَّ هذا يقود ها للوصول إلى فلسفة طبيعيّة قوامها ثنائيّة البشر والطبيعة، وهي التي تطوّع الجبال وتنسب لها صفات البشر باستعارات قوية بليغة سلسة، وتماهى حرية الطيور في صفات البشر، وتستعير تلقائية الراعي لتنسبها إليها في لحظة استسلام أمام شرور المتربصين مقتبسة من أسلوب الشابي الرومنسي الرافض الثائر الصادق وفلسفة روسو الضاربة في عمق الطبيعة.فتقول : " أيها الجاثم على جبل الرفض..".. " ترنو إلى ربيع الانسان "..."...سنابل الصمت "...." كي يعبروا الى شساعة الكون...الاصوات الحرة كاسراب الطيور...."..علموني ان الراعي يتبع خطوات اغنامه... كسرة شعير...."، "لا يغادره نايه...: ".. وأعاد للجبال مرتفعاتها وللسهوب اخضرارها..."، "...أيها المسكون بالثورة..بقوة الطوفان وجريان النهر....."
تشي غيفارا.. أنطولوجيا الثورة:
و بالمقابل تبالغ في تمجيد الثورة التي قامت من رحم امرأة واختزلت ثورات العالم في جنين يتشكل في رحم امراة هي ام البطل. فالثورة والشعر كلاهمها نقد ورفض لجمود الواقع، وكلاهمها عمل معارض لنظم قمعي يحارب الحرية ويضيق الخناق على من يدعو إليها، وكلاهما يهدفان إلى إيقاظ الوعي لدى الانسان للوقوف على حقوقه والمطالبة بها والدفاع عنها، ولذلك أحيانا يكون الشعر سببا لاندلاعالثورة، ومحرضا عليها، ومشعل نيرانها، وكاتب شعارها، وراسم أهدافها، وأحيانا يأتي الشعر وليدا لحراك الجماهير، فتكون الثورة المعين والملهم الذي يستقي منه الشاعر مادته، فيعرب عنها وعن أحداثها.
هرمنطيقا الأمكنة ورمزية النّص:
يعتبر النص الشعري المعاصر حقلا خصبا لإنتاج الحريات التأويلية، ويعدّ المكان في القصيدة منطلقا متينا لولوج خبايا القصيدة، بفعل عوامل مختلفة باتت تشكل سندا انطولوجيا ولغويا سعى فيه الشعراء إلى تثبيت دلالات توحي عن رؤية جمالية وفلسفية لهذه الأماكن، فأنتج ذلك خطابا شموليا خضع لشعرية لغوية وأدبية أبرزت كينونة المكان وفاعليته على مستوى العلاقات التقابلية والضدّية في النص الشعري. والمكان في الشعر يختلف كثيرا عن المكان في الواقع حيث يتشكل عن طريق اللّغة التي تمتلك طبيعة مختلفة من حيث الشكل والمضمون فاللغة لها خاصية وفعالية ذات حضور مزدوج إذ لها حضور طبيعي، كونها مادة بالإضافة الى كونها نظام من العلاقات التي لها آليات ذهنية تتحدد بها. وبما أنّ المكان الشعري لا يعتمد على اللّغة وحدها وذلك لأنّ اللّغة محكومة بالخيال والتجارب الإنسانية المختلفة، ليتسنى للّغة تجاوز حيز الواقع المحكوم بماديته ّالصمّاء لذلك تستنجد بالخيال للولوج الى ما بعد هذا الواقع، بل وتتناقض معه في أحيان كثيرة للبحث عن أماكن جديدة كونه يظل ضمن سياق الواقعي الحقيقي لكنه واقع حلمي مكتشف.إنّ وظيفة المكان في الشعر له أبعاد نفسية وفكرية عالية كونه يشكل أحد أهم الأبعاد الفنية والبنائية في اللغة الشعرية فبدون المكان لا يمكن للشاعر من التغلغل بين خبايها الوجودية والفنية رغم ان هذا الولوج للواقع يكون عبر شحذ حركة الخيال النص المتمثل باللغة الشعرية على نحو يؤدي الى الغاء قانون السببية وإحلال مكانه البعد الروحي والنفسي المحض عبر شحذ المخيلة التي تشتمل على بعد نفسي وموضوعي يظهر على شكل نسق خاص بالشاعر الذي هو جزء من وعي وثقافة المكان التي ينتمي إليها الشاعر. وبناء على كلّ ما نوّهنا به، يظهر جلياّ لدى شاعرتنا وفي ديوانها الذي نحن بصدد دراسته رمزية المكان وتتجلّى في قولها:
" أيّها الجاثم على جبل الرفض...." وترمز الصورة البيانية الاستعارية إلى إصرار البطل على رفض الظلم والاستغلال، والذي من أجل مناهضته دفع حياته مكرسا للصمود، مؤسّسا لثورات الرفض اللاحقة.(رسالة 01)
" على جبل ضارب في العراء....." وترمز الشاعرة إلى الشموخ الممزوج بالإصرار والتضحيات.(رسالة 05)
" أغلب الذين تهيء لهم أرض القلب...." ترمي من خلال توظيفها للاستعارة إلى أن العاشقين لأوطانهم، يحملون أوطانهم في قلوبهم وتسعها أفئدتهم.(رسالة 05)
" هل كان الانسان بينكما القاسم المشترك في صحراء العدل؟...."، بارعة في استعارة الرمز هي شاعرتنا، وهي التي اختزلت معاني الظلم واللاعدل وقحط الانسانية، وجفاف المشاعر في عبارة " صحراء العدل " حيث لا إنبات ولا جدوى من الصحراء كما لا طائل من انتظار العدل في أوطان تبدّدت فيها الرحمة.(رسالة 16) " وانت أيها القادم من مدن الملح والرّياح..."...." إلاّ أنّك دخلت على بلباسك الثوري على مخيمات القهر، ومداشر الجوع والعراء..." استعملت المجاز الدال على تضحيات البطل رغم ما يؤهله له الحظ الموسوم بالتأجيل والإرجاء.(رسالة 14).
رسائل الشغف المؤجل:
تجرأت وأنا أقرأ الديوان فقلت: لو قُدّر لي أن أعيد ترتيب الديوان -كما لو كنت مؤرخة سوسيولوجية - لوضعت القصائد التالية تحت باب “رسائل الشغف المؤجّل ولا غرابة وأن الرسائل كلها موجهة من الشاعرة إلى البطل الذي ملأ زمانه وشغل حاضره وحاضر لاحقيه . بالغت في جرأتي فوضعت عنوانا آخر لبقية القصائد، وهو: آهات نونية ؛ على اعتبار وحدة موضوع القصائد وتنوع صور الوصف والتصوير وتنوع أخيلتها وبيانها. فقصائد الديوان كلها تتجاوز الرسائل والإيقاعات العادية، فلقد أصرّت الشاعرة على أن تجعلها ذات إيقاع منسجم يجذبه مغناطيس العنوان: “رسائل إلى تشي غيفارا ” وأن تجعل إيقاعها الداخلي يتصاعد بوتيرة واحدة مع إيقاعها الخارجي، وفق موسيقى وخيال محكم. والحق أن كل قصيدة في الديوان تحتاج إلى قراءات عدة، فكل قصيدة تفتح أفقا جديدا أمام قارئها، كما تفتح حلما جديدا وأملا جديدا.. علّنا نجد صورة الرجل المثالي بشغفنا الحالي إلى صورة الماضي الجميل بقيمه الراقية الرفيعة النادرة مع التقادم. ففي رسائلها توجه رسالة شاملة ذات غاية سامية مغزاها يلخص فلسفة الحياة فحنين الرجل إلى المرأة حنين الشيء لنفسه، أما حنين المرأة إلى الرجل فهو حنين الشيء لوطنه، وهنا نجد الشاعرة نادية نواصر تبدع في إبراز ذاك الحنين مكابرة، فتخفي شغفها ضمن رسائل تراوح بين البوح والتشفير.
تشي غيفارا....أيها الرجل ذو الحضور الخفّي.. الذي لا يراه ويهتدي به إلا المرأة المتفتحة العارفة، هي شارعرتنا تلك التي أدركت أنك فريد من زمن المستحيل تسعد العين وتثير السكينة على القلب، عطر سيرتك فواح عبق، يعطي عبيره لمن أحسن الاهتمام به، وزرعه بتربة الوطن المعشوق، يا من علّمت البشرية معنى الرجولة والبطولة، فبفضلك صورت لنا الشاعرة الرجولة تُشعر وتُلمس وتُرى، تعيش ملاصقة لصاحبها كظلّه يراها الجميع إلا هو، تحضر معه إن حضر فتضيف لحضوره هيبة وسحرا، ولا تغيب إن غاب فتُطبع في عقول الناس تماما كما تُطبع ملامح صاحبها.. الرجولة أجمل ما يمكن أن يوجد فيك على الإطلاق، أجمل من أجمل ملامح، وأفخم من أفخم لباس، هي ثمرة حكمة العقل وقوة الإيمان وطهارة القلب، وشجاعة الفعل، وصدق القول ليست لأي أحد ولا تليق بأي أحد سواك......"...كان من الممكن ان تكون نجما...." رسالة 05.
يا من كرّست حياتك من أجل الحق والعدل والحرية أيها الفيلسوف المشرع للحياة الكريمة وفلسفة الشرف. يا من رفضت ان تعيش على هامش الحياة هائما على وجهها بلا هدف، حياتك أسمى من أن تتمحور حول نفسك وأكبر من أن تدور في فلك ممتلكاتك السرابية، لا خبز لك في الادعاء ولا تجيد لعبة الأقنعة ولا تكترث كثيرا لاعتبارات البشر، يكفيك أن تبدي ما لديك بصدق ولا يهمك بعد ذلك إن صدقه التاريخ أم لا، يكفيك كلمة حق وموقف حق، ونصرة المظلوم على الظالم مقابل حياتك. وانت الذي قالت فيك شاعرتنا "..حيث تكون الحرية هي المقابل الوحيد...." "...ليس للإنسانية جنسية ولا ديانة ولا حدود...وشتان بين رجل القضية وفداحة الراعي..." " ايها المسكون بالثورة...الكبار يدخلون التاريخ من اكبر الأبواب ويمضون إلى أبديتهم بأجساد مشوهة ومنقوصة ولكن بأرواح طاهرة مطمئنة..." رسالة 11.
نلخص تجربة شاعرتنا في ديوانها هذا، من خلال مقارنة قصائده بقصائد أخرى تحمل نفس طبيعة الموضوع (رسائل إلى نلسون منديلا...)، فنرى كمية التطوير والتجديد في الشعر، ودرجة إفصاحها عن بنية الموضوع.، وبراعة اكتناز أبجدية الشاعرة الأسلوبية، وإبراز خطوطها الشعرية وخطواتها الإبداعية من تجلياتها الأولى، فجاء ديوانها بمثابة خط زمني شعري لاحق للزمن المفقود، لدرجة أنك تستطيع أن تقرأ تجربة الشاعرة من أول نبضها إلى منتهاه بين دفتي هذا الديوان وتغرف من نهر إبداعها، حتى تكاد ترفع شراعه للنسيم الشعري المنساب، فتمخر سفينة عباب أبيات هذا الديوان المتنوعة موسيقاه، والمكتنز بألوان اللآلئ البيانية، والدرر البديعية، في تنوع خلاق، يجمع بين المتشظي من الحب والحرب ومن القديم والجديد، والآمل والغاضب، والطليق والحبيس، والزمان والمكان، في لغة شعرية حية متميزة، ونسق شعري منفتح على كل الأشكال، وممتد بين كل الأجيال، وتدرك ماتختزله من آهات لتقول في النهاية: أن الثائرين أولى بالمعروف.
***
ليلى تباني