قراءات نقدية
رؤساء في مملكة الشعر (2): الفيتنامي هوشي منه
يسرد الكتّاب الفيتناميون الظروف التي أحاطت بزعيمهم هوشي منه ليكتب الشعر، تقول القصة انه كان موفداً إلى الصين أثناء الحرب العالمية الثانية ليتفاوض مع زعيمها في ذلك الوقت (شان كاي شيك)، حول صيغة التعاون بينهما ضد القوات اليابانية التي كانت قد اجتاحت حوالي نصف فيتنام، أُلقي القبض على هوشي منه بعد فشل المفاوضات، وأودع السجون الصينية لمدة عام ونصف.
أتاحت له تلك المدة الهرب من الفراغ المحيط به وما يثقل على قلبه ونفسه، من برودة جدران السجن الرطبة في الليالي الباردة التي يمر فيها الزمن بتثاقل، فلجأ الى الشعر، هنا توهجت باللمعان موهبته الشعرية الكامنة فيه، ووجد في طاقته الفرصة بعد طول حرمان ليتفجر ابداعه الخصب دفعة واحدة، كانت المحصلة أكثر من مائة قصيدة ضمّها ديوانه(ذكريات السجن)، نضجت في لهيب الصراع بين الحرية والعبودية.
الشعب الفيتنامي بطبيعته يحب الشعر ويحترم الشعراء، للشعر في نفوسهم تأثير سحري يبلغ أقصى مداه بمروياتهم التي تقول : ان الشعر هو الوسيلة لازاحة التعب، إذا ردده المسافر والحزين، هو كفيل ان يبعث الراحة لهما، الشعر والاغاني هما تسلية الليالي في فيتنام، حيث عادة الترنم بالشعر متأصلة في نفوس الفيتناميين منذ الأزل، يرددونه في مزارع حقول الرز ويحفظونه، فليس غريباً أن يكون هوشي منه شاعراً يكتب القصائد مثل سائر مواطنيه.
ولد هوشي منه عام 1890 في قرية جبلية شمال فيتنام ذات طبيعة قاسية طبعت أهلها على قوة الاحتمال والصبر ومغالبة الشدائد، وأنبتت في داخلهم الاستعداد للتمرد والنزوع الى الحرية، نهل هوشي منه منذ طفولته من نبع الاساطير، وشغف بقراءة الادب الفيتنامي والصيني القديم، يتذوقه باحساسه الغض، ومما يزيد من عمق هذا الاتجاه ان والده كان اديباً ومثقفاً، مطلعاً على المعرفة، مشاركاً في انتفاضات الشعب الفيتنامي.
كبر هوشي منه ونما معه اهتمامه بالأدب حتى اصبح شغله الشاغل، ومنه دخل عالم السياسة التي صاغت منه فيما بعد المناضل الثوري القائد لحرب التحرير من الاستعمارالفرنسي، ثم الرئيس الأول لفيتنام حتى عام 1969.
البساطة والتواضع صفتان مميزتان في شخصيته، كان يرفض أن ينسب إلى نفسه صفة الشاعر المحترف الذي تقتصر مهمته على أن يعيش في عوالم الخيال الجميلة، الشعر لديه معاناة حقيقة دائماً لنفس شاعرة تخوض بالكلمة تخوم المجهول والواقع تستخرج جوهره وتفتش عن كنهه اذ يقول:
لكنني في دجى السجن لم ألق رفيقاً أفضل/
يعزيني ويعينني على احتمال الوقت/
فنظمت الاشعار أملاً في الحرية
الشاعر يحاول أن يبرر الدافع الرئيس لكتابة القصيدة، فيجده في الفراغ المحيط به، لكنه ينتقل بالقارئ الى خيار آخر فليس أمامه الا أن يكون مقاتلاً أو شاعراً، فاختار الثورة:
انساب ضوء القمر من زجاج نافذتي
تسألني أن اكتب فيها شعراً
لكنني كنت في شغل عنها اذ كنت احمل سلاحي
دفاعاً عن بلادي
فلم استطع ان ألبي الطلب
لم يخمد الشعر في روح الشاعر، انما نضجت ينابيعه في اعماقه ونضجت تجربته وازدادت عمقاً وثراء بعد أن عمّدتها النار وأصقلتها الخبرات القتالية:
كان القدماء يطربون وهم يتغنون بالطبيعة
بالنهار والجبال والدخان والثلج
بالزهور والقمر والرياح
لكننا سندرع بالصلب اشعار هذا الزمان
ونعلم الشعراء كيف يقاتلون
يكاد القارئ يلمس بوضوح الطابع الانساني في قصائد هوشي منه، الانسان موضوعه، والتأمل في المواقف والاحداث المرتبطه بصراعه اليومي، كانت مهمته الاولى أن يعيد المعاني القديمة ليصبح شعره دفاعاً عن الروح الفيتنامية وحماية لغته من السقوط في هستيريا بل الجنون الذي اراده المحتل الفرنسي والامريكي وكتب في إحدى قصائده:
دفعت العيون بالمعاني
من قبل أن ينطق اللسان
وملأت الدموع الأجفان
ياللعذاب......
اذا كانت صورة البطولة في شعر هوشي منه هي صورة فيتنام، فان هذا لا ينفي التجارب الخاصة التي اتخذت صورها من ميدان المواجهة:
هو.. خلف القضبان/وهي... امامه، قريبان غاية القرب/لا يفصلهما سوى شبر واحد/ وعلى البعد تبدو زرقة السماء/فلتخشع كل الأصوات....
كان هوشي منه نفسه مقاتلاً، ومن هذه المعاناة الخصبة لمعنى المقاومة، ومعنى الوطن، جاء شعره بمثابة خط الدفاع الأول عن الروح الفيتنامية، كان يعتقد ان مهمة الشاعر مترادفة مع مهمة المقاتل، كلاهما يمضيان الى آخر الشوط، أهميته ترجع الى انه عبّر عن الانفعال بالتجربة الانسانية العميقة، في محاولة اقتلاع الشاعر عن ارضه، هذه المحاولة تكون في النهاية هي المادة الشعرية التي تأخذ المكان الأول في شعره، المكان يصبح قوة تطالب بتعابير جديدة، يتسع فيها مفهوم الوطن كفكرة، يتسع مع اتساع الشعر، المكان له عمق في قصائد هوشي منه:
تحت ضربات المدّق تئن حبات الأرز/ لكن بعد انقضاء المحنة تعجب لبياضها/وهكذا الناس في هذا العالم/لا يصقلون رجالاً الا تحت ضربات المحن.
في هذا المقطع يبتعد الشاعر عن الخطابية والمباشرة، بمقدار ما يحرص على الوفاء بمضمون العمل الشعري، يحرص في الوقت ذاته على الوفاء بفنية الشعر، في توظيف الرمز، واستدعاء التاريخ، والحقيقة ان هوشي منه وفق في لغته الخاصة ومفردات شعره الذي يتميز بتعدد الصور الجزئية المتناثرة، واللمسات السريعة والاقتراب من اليومي بما يضفي عليه تدفقاً وحيوية يعمقان احساسه الدرامي في الحياة.
في 2 أيلول 1969 توفي الشاعر، وهناك قول يردده أبناء دول جنوب وشرق آسيا التي تنتشر فيها نبتة البامبو: (في سهول البامبو ليس أبهى من زهرة اللوتس)، وفي فيتنام ليس هناك من لا يعرف الأغنية الجميلة التي تقول: في فيتنام كلها ليس أبهى من اسم هوشي منه.
***
جمال العتّابي...