قراءات نقدية
ثلاث روايات عراقيّة تُصّور جحيم تجربة الثوار في الجبل
الوقائع المؤلمة للمجموعات المعزولة غالبا ما يكون رواتها مجهولين، وتتأخر قليلا الذّاكرة الاجتماعيّة في هضمها وتداولها، وسيُبذل الكثير من الجهد والوقت لتكون جزء من السياق التاريخيّ للبلد. وهذا التّضييق، الذي تُكره عليه الذّاكرات المعزولة، لا يعني ضياع الوقائع كليّا، أو تخلي المجموعات عن خصوصيتها وتاريخها، فللحوادث رواتها وللحركات الاجتماعيّة نشطاؤها وادباءُها ومفكروها. وحركة الانصار الشيوعيون التي جرت احداثها (1978-1988) في جبال كردستان العراق هي واحدة من تلك التجارب التي لا حظ كبير لها في الانتشار، رغم احتوائها وقائع مهمة، وتوثيقها من قبل روائيين وسينمائيين ومثقفين قاتلوا من اجل وطنهم. سبب ذلك ليس فقط عزلة الحركة القسريّة بالجبال وابتعادها عن حاضنتها الاجتماعيّة، فلقد ذهبت الأعوام وسأم الناس الحروب وقصص الأبطال، وتحوّل عالم الثوريّين المثير إلى عالمٍ ممل في ظروفٍ سياسيّة\اجتماعيّة معقدة.
روايات الأنصار الشيوعيون، على قلّة ما قدمته، كانت حقول كشف مغايرة لأدب الحرب بالعراق في ثمانينيّات القرن الفائت. مؤلفوها لم يؤرخوا ولم يبحثوا عن مخطوطات تدعم قصتهم، هم كتبوا عن احداث عاشوها، بأسلوب روائي يعكس المناخ العام للعيش بين السياسيّين والقتال بين الفلاحين الكورد. في رواياتهم لم يتبنوا خطابا سياسيّا مجردا ولم يدافعوا عن حزبٍ أو جنرال، وتجاوزوا في كثير من صفحاتهم مفهوم الثورة والعصيان والقتال، إلى حقول ومفاهيم عامة اكتسبت بعدا إنسانيّا من خلال تناولهم حياة الألاف من المقاتلين وفقراء الفلاحين والجنود المهزومين من جحيم الحروب. ومع ذلك سيكون من غير الواقعي إبعاد هذه الروايات عن السياسة، فالحروب والصراعات الاجتماعيّة غالبا ما تقف خلفها دوافع سياسيّة. أردنا القول ان الالتزام بقضايا الإنسان ومشكلاته في الروايات التي تناولت بيئة الثوار في الجبل أعمق من أي التزام، التقط مؤلفوها حالات الجوع والخوف والشجاعة والتوتر والنذالة، دون مواعظ ثورية أو وعود بالخلاص. بدتْ فيها كتاباتهم خالية من استمالة مزاج رفاق السلاح، وهو ما أدى إلى ان يتعامل معها البعض بجفاء، ويجدون فيها كتابات تسيء إلى تجربة عظيمة. الروائيون، موضوع مقالنا، لديهم قلقهم الابداعي والوجودي، فهم قاتلوا وفقدوا أحبة وتجمدت اطرافهم في مواقع الحراسة، وباتوا يكتبون عن موضوعٍ يمسهم شخصيا في المقام الأول، يبحثون فيه عن عزاء بحجم الخراب الذي عاشوه. خلت فيها كتاباتهم من مجاز الانتصار والفخر والتباهي، خلت كذلك من المواقف الرمادية ولفلفة الحقائق وتزْيين الشخوص، والأهم من كل ذلك لم يدعِ أيّا منهم رسم صورة كاملة لتجربة افترشت عشرة أعوام، وأكتفوا برواية المشهد كلٌّ من زاويته.
إنّ المسارعة إلى ربط النصوص التي تتناول الخصومات المسلحة بـــ "أدب الحرب" ليس ناجعا على الدوام، وقد تأخذ من النصوص أكثر مما تعطيها. فالروايات موضوع مقالنا، كصياغات نصْيّة لحركة مسلّحة، لا يمكن حصرها كليّا في هذا المصطلح. فهي توسلت الحرب للكشف عن الاستبداد السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ الذي خيّم على البلد، للكشف عن هشاشة الإنسان وإنْ كان محقّا ومتعلّما ومسلّحا، للكشف عن أعراف وتقاليد ما زالت محمية بجبال بعيدة، للكشف عن أفكارٍ عظيمة ورومانسيّة يستحيل تحقيقها. صحيح إن النهاية غير المقنعة لتجربة الأنصار بالجبال، ومغادرة المقاتلين للمنفى، أنتج حالة تمرد عند الروائييّن، خرجوا فيها عن تقديس الشخوص والمؤسسات السياسيّة، ولكن هذا لا يقلل من حقيقة انهم عاشوا تجارب يومية بدّدت اوهامهم، وجعلتهم يشاهدون عن قرب ما يتركه حمل السلاح من خراب في النفوس. من جهة أخرى نجد ان الروايات التي تناولت ما للكفاح المسلح وما عليه، فضحت كذلك حروب الدولة وتداعياتها. فقبل ظهور كتاباتهم كان الروائيون، موضوع مقالنا، يدعون لإيقاف الحرب العراقيّة\الإيرانيّة، وعندما ظهرت كتاباتهم على الورق كانت مشحونة بالتنديد والادانة لمشعليها، ولم يحدث إن تضمنت شعارا او دعوة للقتال. وهذا الذي نقول ليس حكرا على الروائي، فالمواطن البسيط الذي صعد الجبل يومذاك، هاربا من الجبهات، هو الآخر لم يضع القتل والقتال في سلّم أولوياته. ولا نفشي سرا بالقول انه حتى الحزب الشيوعيّ العراقيّ الذي تجمّع كلّ هؤلاء للقتال تحت رايته لم تكن سياسته تدعو للحرب، فالجميع هرب تحاشيا لخطر الموت المتفشي بالبلد، ثم حملوا السلاح للدفاع عن أنفسهم. ومَنْ يحمل السلاح في بلدٍ مضطرب فهو على الأغلب إمّا قاتل او مقتول (هذه الأرض مصنع تحول الإنسان إلى بقايا إنسان، وأنا مكثت هنا فأما سأكون قاتلا أو مقتولا.. صــ 321 رواية خلف الطواحين)
إنّ الروايات التي سنتناولها هي ثمرة جهد مجموعة من الروائيّين الناجين من الموت، صدرت في فترات متباعدة، لتدوين حكاية مَن لجأوا للجبال هربا من بطش السلطة. روايات لا يمكنها لوحدها تشكيل هوية جماعيّة لآلاف المقاتلين الذين جاؤوا من أماكن مختلفة ومن خلفيّات ثقافيّة واجتماعيّة متباينة، ولكنها جزء من "سرديّة انصاريّة" شارك في توثيقها العديد من الروائيّين والسينمائيّين والسياسيّين والشعراء.. الذين امتلأت بهم المنافي. إنّ اختلاف موضوعات الروايات وأساليبها وتجارب مؤلفيها الحياتيّة لا ينقص من وجود فضاء روائي عام لأحداثها، محدّد مكانيّا بجبال كوردستان العراق، وبفترة زمنية محدّدة بأعوام (1978-1988) وبشخوصٍ يتحركون ويعانون وينشدون اهدافاً مشتركة. وهذا المناخ العام أنتج بدوره ثيمات مشتركة، واقعية، انتجتها مخيّلة مُحاصرة ومُهدّدة. وفي نظرة عامة على كلّ عناوين الروايات سنجد ان لها دلالات عنف وقعت في الجبال، تناولت فيها وقائع ذات طابع جمعيّ "مجزرة بشتاشان، الضربة الكيمياوية، عملية الأنفال" صار بعضها جزء من وثائق محكمة العدل الدوليّة، وما زال الكثير من ابطالها وضحاياه أحياء. المشترك أيضا بين الروايات وجود السلاح كثيمة رئيسية تلازم كلّ الشخوص. وحتى حين يعود المؤلف بذاكرته للمكان الأول ومقاعد الدراسة، او يتوقف عند هموم الانصار اليوميّة الباحثة عن الطعام والحب والكتاب، يبقى السلاح مكوما في خلفية المشهد. ثيمة أخرى مشتركة بين الروايات هو الغياب الملفت للعلاقات العاطفيّة في حياة المقاتلين، باستثناء ما تختزنه الذاكرة من حكايات حب قديمة، او لحظات تعلّق عابرة في الجبال، تحاكي حياة المقاتلين المرتبطة بالحرمان والتهديد. الغياب العاطفي يستدعي حضوره، نلمسه في محاولة المؤلفين إظهار لحظاته الجميلة، لترطيب الأجواء، ولكن المكان ليس مكانا للحب والعواطف، حتى للمتزوجين منهم. سبب ذلك ليس فقط العزلة وقلّة النساء، بل كذلك سببه أسلوب حياة المفارز القتالية المتنقلة والزاهدة، إضافة إلى تقاليد الفلاحين الكورد التي يسودها التحفظ والخوف من وجود المقاتلين العرب. ملمح آخر بين الروايات هو انها روايات تمرد وحزن وعناد وعتاب ولم تكن روايات هزيمة، بالمعنى العسكريّ للهزيمة. هم يروون معارك انتصار وهزيمة، ويردّدون أفكارا يائسة في مواجهة الديكتاتور، ويعانون انكسارات داخلية في ثقل أعوام العزلة التي أثرت على معنوياتهم كمقاتلين، ولكن على المستوى العام لم يترسخ عندهم مفهوم الهزيمة، على الرغم من النهاية الموجعة لتجربتهم. فكريم كطافة ينهي روايته "حصار العنكبوت" بجلوس القلّة الناجية من الحصار تفكر ببداية جديدة (بهذا الحزام نستطيع على الأقل البداية من جديد صــ 366). المشترك الآخر في الروايات موضع البحث هو أنها تضعنا تارة في التوثيق وتارة أخرى في الرواية وثالثة في السيرة الذاتيّة. وهذا الأمر المثير لفضول القراء الباحثين عن الحقائق والاسرار والأسماء، يعطي الانطباع أحيانا بالضعف الفني. على العموم احداث الروايات رويت بضمير الغائب، كنوع من الحياد الادبي، واستمرار للتواضع ونكران الذات الذي طبع حياة المقاتلين المهووسين بأحلام عظيمة. باستثناء كتابات "سلام إبراهيم" الذي اعتمد على سيرته الذاتيّة موضوعا لرواياته، استخدم فيها ضمير المتكلم. إضافة لهذه الموضوعات المشتركة كان الجبل هو المفردة المركزيّة التي تحتضن أحداث الروايات فتميزت لغة السرد بحملها مفردات البيئة الحاضنة بجملة من الكلمات الدالة على حياة بشر تلك البيئة التي احتضنت الثوار مثل الثلج، ينابيع الماء، شجر الاسبندار، مواقع الحراسة، البندقية، الشروال، حذاء السمسون، الفانوس، الكتاب، العزلة، العدس، الجاجي، الباكَردان، البغل، القمل.. وغيرها من المفردات التي لها قرابة مع حياة المقاتلين الذين ينامون كل ليلة في قرية جبليّة مختلفة.
ينبغي الإشارة إلى ان بعض الموضوعات والمفردات المار ذكرها تُعتبر نمطيّة في حياة الفلاحين الاكراد، وهي ليست كذلك في بيئات أخرى.
"خلف الطواحين"
موت الوحش والإنسان
رواية "خلف الطواحين - عامر حسين - 500صفحة" هي من أولى الروايات التي ظهرت عن تجربة الأنصار الشيوعيّين (الطبعة الأولى، 1991) وهذه المعلومة الأخيرة وضعناها بين قوسين لأنها الوحيدة التي ذكرتها دار النشر، بعد ان أغفلت اسم الدار وعنوانها. وهي إشارة مبكرة إلى إبقاء هذه الكتابة كصرخة في وادي، لا يسمعها إلا من كان هناك. تبدأ احداث الرواية بمفرزة مقاتلين تائهة في الجبال؛ ماء قليل وشمس حارقة، ومقاتل أناني يغسل مؤخرته بالماء المتبقي، لعدم وجود خرقة.
وسط بيئة ريفيّة قاسية، ومحيط اجتماعيّ يمتدح المقاتلين نهارا ويذمهم ليلا، استلهم المؤلف احداث روايته. بيئة لم يكن فيها السلاح والقتال فقط هما مقياس الشجاعة، فأسلوب التحطيب وربط البغل ومعرفة طرق الجبال وينابيع الماء كلها معايير شجاعة. شخوص الرواية، بأسماء مستعارة، يعانون عزلة مهلكة في الجبل، ويحملون أفكارا لا يمكن تحقيقها. يناضلون وسط خلافات داخلية مع قادتهم "الشيوخ" الذين فشلوا في أدارة الصراع الداخلي، ويعيشون صدامات متكررة مع الواقع السياسيّ القبليّ السائد بين القوى السياسيّة. هذه التراكمات مهدت لاقْتتال دموي بين ضحايا الديكتاتور، جرت تفاصيله في وادي "بشتاشان – خلف الطواحين عام 1983". احداث الرواية تتحرك ببطء اشبه بحياة المقاتلين بالجبل بعد هطول الثلوج، رويت بضمير الغائب، بلغة سهلة وغنية بتفاصيل الواقع. وحتى حين تشط المخيّلة قليلا لغرض التشويق، فإن المؤلف سرعان ما يعود للحفر في مشاعر العزلة والجوع والخراب العاطفي للمقاتلين. مفردات القتال والنضال والنزاع حاضرة في الرواية، تشير إلى خطر الافتتان بفكرة والتضحية من أجلها دون تفكير. فتحويل المبادئ والقناعات السياسيّة إلى عنف مسلّح فيه خطر بعيد على الذات الإنسانيّة وما تحمله من قيّم، لأن (ثقافة الموت التي تشيع الرعب والدم، تحول كل كائن هنا إلى ضحية وجلاد صـــ 96) تجلّى ذلك في اسئلة إشكالية على لسان شخوصه؛ ما جدوى ما نفعله بالجبل؟ لماذا يُقتل الأبرياء بشكل لا إنساني؟ لماذا يتقاتل الضحايا فيما بينهم؟ فالبطل الرئيسي (رحمن) لا يريد ان يكون وحشا، وقد عاش لحظات تردّد عندما فكر بأطلاق رصاصة الرحمة على رأس جندي جريح بعد انتهاء احدى المعارك. ينبغي الإشارة إلى معضلة شائكة تناولتها الرواية عن الجنود الذين ترسلهم الحكومة لقتال الثوار في الجبال، وهم في غالبيتهم من الفقراء الطيبين الأبرياء. هؤلاء الجنود هم ضحايا الحكومة والثوار على حد سواء، نلمسه في قول أب مكلوم على ابنه الجندي (أين سنولي بوجوهنا؟ إن نجونا من الشياطين قتلتنا الملائكة صــ 451) إلى جانب ذلك تجاوزت الرواية خطوطا حمر كان من الصعب التقرب منها في ظروف أخرى، من بينها؛ عدم الصمت على أخطاء القادة السياسيّين، فضح ممارسات الطعن في الظهر التي يمارسها الحلفاء، فضح الحماقات التي يرتكبها المقاتلون. المؤلف اعتمد الواقع للكشف عن هشاشة الذات الإنسانية وخستها، نلمسه في سلوك المقاتليّن "قاسم، عولا" اللذين قتلا اختيهما غسلا للعار، وهربا للجبال لارتداء ثوب الثورة. في إشارة ضمنية إلى ان الثورة ليست على الدوام ناصعة البياض، وليس بالضرورة ان ينتمي إليها فقط الانقياء والشجعان.
إن السواد الذي غطى لوحة حياة المقاتلين في "خلف الطواحين" لم يكن من صنع المخيّلة وحدها، فالمقاتلون في عزلتهم الجبليّة تحولوا بعد أعوام إلى بقايا بشر، يحسدون الخروف على نعجته والبغل على صبره، إذ لا دفء ولا طعام ولا أم ولا حبيبة يغنون لها. حتى (باب العواطف، أياً كان، مفرح أم محزن، لا بد أن يوصد في مثل تلك الظروف. صـــ11) في مثل هذه الظروف، التي لا يعرفها سوى من عاش تفاصيلها، يحضر الحب عنيفا ومشوها، اشبه بحياة الأنصار بالجبل. نلمس ذلك في فصلين حاول فيهما المؤلف رش الماء على قسوة الاحداث ودوي الرصاص، رواهما في الطريق إلى وادي "بشتاشان، خلف الطواحين" عندما كان ذاهبا للعلاج بعد اصابته بإحدى المعارك قرب جبل روست؛ فصلٌ عن الفتاة الجميلة التي جُدع انفها وقُطعت اذنها ليلة عرسها ومن ثم ربطها إلى عمودٍ لتموت وسط الثلوج، اختزل فيها المؤلف الكثير من العلاقات الاجتماعية في البيئة الكردية؛ الضيافة والطعام والحب والرقص والزواج وقيم الشرف. والفصل الآخر تحدث عن المعتوه الذي زوجوه الاخت التؤم للفتاة "المجمدة" تحدث فيه عن قسوة العلاقات العاطفية وعن نذالة السياسي "أبو جقارة" في ابتزازه للعوائل الفقيرة واعتدائه على الصبايا في بيئة محافظة.
احداث الرواية البطيئة تجري وسط سلاسل جبلية قاسية (يئست الغيوم من تسلقها) يتواجد بين أوديتها أسواق مليئة بالبضائع المهربة، يتبضع منها المثقف والفلاح والمهرب والمطلوب عشائريا والهارب من الجندية.. يتصافحون ويبتسمون ويساومون بعضهم البعض في خلطة من المشاعر المتناقضة بحضور الموت. من الحبكات الدالة على أزمة البطل "رحمن" تلك المرتبطة بظهور شخصية "سامان" الذكي واليائس، والهارب مع زوجته لا يدري إلى أين. سامان يتناول حياة الثوريين من الخارج، بمفاهيم إنسانيّة عامة، هي جزء من هذا الخليط الهارب من السلطة وحروبها. يرى زمن ثورات الشعوب قد ولى، وانه، حتى لو حدثت الثورة فأنها ستغير حاكم بحاكم آخر أكثر قسوة، وبالتالي لن يتغير شيء. شخصية سامان لا تتفاعل مع الاحداث الجارية في الجبل، لكنها تنمو مع تدهورها وتأزمها. والملفت ان المناضل الثوري "رحمن" يقف اعزلا امام المنطق اليائس لسامان، ويراه محقا بكلامه. إنّ التناقضات وحالات اليأس التي يعيشها "رحمن" هي جزء من نسيجه كمقاتل ومثقف، عاش اعوام في الجبل لم تمر كما أراد لها ان تمر، ولذلك نجده تارة يحمّل القادة "الشيوخ" وزر معاناته، وتارة أخرى يحمّل القيم الاجتماعيّة البالية ذلك الوزر، وثالثة يحمّل الديكتاتور، ورابعة يبحر بالثورة وما تتركه من امتهان لكرامة الإنسان. إنّ النهاية المأساوية التي وصل إليها البطل "الانتحار" تعكس شخصيته المضطربة؛ فهو (رحمن) مقاتل له تجارب سابقة مع المنظمات الفلسطينية، وفي ذات الوقت هو كتوم وحزين ومنغلق. يعاني خسارة الحلم وفقد الأحبة، إلى جانب ذكريات مريرة في سجون الديكتاتور، الأمر الذي يشير إلى ان مشكلته ليست فقط بالجبل..
"حصار العنكبوت"
ما حدث أعمق مما أروي
رواية "حصار العنكبوت، كريم كطافة، 366 صفحة، دار نون الأردنية ـــ 2014" رواية معاناة من بدايتها وحتى نهايتها، مسرحها جبل كَارا" الرهيب. وثّقت لواقعة كبيرة دخلت التاريخ باسم عملية "الانفال" التي تعتبرها المؤسسات الدوليّة واحدة من اسوء عمليات الإبادة الجماعيّة التي تعرض لها الشعب الكردي. والمؤلف من عتبة الإهداء يضعنا في دوامة المعاناة بقوله (عشرون سنة وانا كالشاة المشدوهة امام رزمة أوراق قديمة، كتبتها حين كانت الاحداث لم تزل طازجة يتصاعد بخارها من اجسادنا).
تبدأ الرواية بخبر انتهاء الحرب العراقيّة\الإيرانيّة، ومن ثم توجه الجيش العراقيّ للداخل لغرض اجتثاث القوى السياسيّة المعارضة في الجبال، والتي طالما اعتبرها الديكتاتور سكينا في خاصرته. وأمام هذا التطور الصادم يحار المقاتلون بردود أفعالهم، وما هي الخطوة القادمة؟ فبنادقهم القديمة لا تفيد كثيرا في مواجهة طائرات الجيش وعرباته المصفحة، الأمر الذي جعلهم يقلّبون الأسئلة فيما بينهم دون جواب، تجرأ أحدهم سؤال البغل المربوط قرب غرفة نومهم عند سفح الجبل (.. انت شنو رأيك؟) وتأويل همهمة البغل على انها حياد حيوانيّ. هكذا يبدأ المؤلف تصويره لخوف يتصاعد بمرور الساعات وبتكاثر الفلاحين الذين أُحرقت قراهم، وتجمعوا قرب قواعد الأنصار هربا من جحافل الجيش. سلط فيها الضوء على الاطفال والنساء والشيوخ الذين شكّلوا عبئا على حركة المقاتلين ودورهم بالجبال، وأدى إلى تحولهم ادلاء وبقالين، مهمتهم حماية النازحين وتوفير وسائل نقل الطعام لهم، وهي ليست من مهماتهم. وهو ما دفع أحد القادة الميدانيّين للقول (آني احتاج بغال، وليس رفاق صــ129).
"حصار العنكبوت" تجربة حيّة لعشرات الآلاف من الفلاحين المحاصرين في ظلمة الجبال، وهم يبحثون عن طعام ومكان ينامون فيه. حصارٌ كان سيضاف إلى قائمة الحصارات التي اشتهرت بها شعوب أخرى، لكنه أُغفل بتواطؤ من الجميع. السرد تناول تفاصيل نزوح جماعيّ غير منظم لمجموعات هاربة باتجاه القمم الجبليّة، وأخرى نازلة من تلك القمم، في مشهد رعب يعكس حالة المحاصرين. في هذه الفوضى تجمّد دور المقاتلين، وخلا السرد من البطولات والافكار والاحلام والموضوعات المثيرة، وحل محلها البحث عن الطرق العملية لإنقاذ الجموع المضطربة من هول الصدمة. إنّ الهروب الجماعي من قسوة النظام واسلحته الفتاكة هو المتن الذي يجمع حكايات ومخاوف القرويين من اصقاع مختلفة، كل ذلك حدّده المؤلف بزمن واقعيّ متسلسل بأيام وساعات، وبأمكنة واقعية وشخوص من لحم ودم. مزج فيها المؤلف بين التوثيق والسرد الروائي لرسم المشهد، مرد ذلك التداخل بين الهم السيرذاتي والهم الروائي، الذي طبع أغلب كتابات مَنْ عاشوا تلك الاحداث وكتبوا عنها. نلمس ذلك في بنية الاحداث وتشابكها وتسلسلها، وفي قلق المؤلف من هيمنة مخيلته على الاحداث الطازجة، فيتوقف المؤلف فجأة عن الاستطراد (موصيا نفسه وللمرة الألف أن يوثق، لا أن يتدخل في الاحداث، هدفي التوثيق وليس السرد صــ 249) ولكن يبدو ان الوصايا الألف لم تقلّل من كثافة السرد وتدفق اللغة وحضور المخيّلة، زيّن ذلك بلقطات سينمائيّة ومقاطع شعريّة وقصص حب عابرة ارتبطت ببناء المشهد الروائي.
الرواية متعددة الأصوات، لا وجود لبطلٍ واحد، رغم الحضور الواضح لـــ "حاتم". وفي نظرة تحليلية لطبيعة الشخوص سنجد ان حضور الذات الكاتبة ليس ضعيفا، وان المؤلف حاول التماهي مع "حاتم" الميّال للصمت وحب الأوراق والعودة للمكان الأول. المؤلف يروي بضمير الغائب إلا انه يكون مكشوفا أحيانا، وهذا ليس ضعفا فنيّا. فالتأثير السيّري على هذا النوع من الكتابة، ذكر أسماء وحوادث معروفة، هو الذي يجر الكاتب لبقعة الضوء. في قسم الرواية الأول اشتغل المؤلف بدأبٍ على رسم شخوصه في عزلتهم الجبليّة، وصفهم جسديّا وفكريّا وعاطفيّا. وفي القسم الآخر، عندما حاصرهم الجيش وبدأت الجموع بالنزوح هاربة صوب الحدود، حمل المؤلف كاميرته إلى تلة ليصور برؤية بانورامية عامة ملامح شخوصه؛ خدود ناشفة وعيون غائرة وخطى بطيئة لشيوخ ونساء حوامل وأطفال رضع. تتضح اللغة التسجيليّة أكثر في توثيق حركة النازحين ساعة بساعة ويوم بيوم، في أمكنة موحشة، تعكس معرفة المؤلف التفصيلية بالوديان والينابيع. إنّ من خصائص الواقعة الكبيرة احتضانها لكثير من الحوادث الصغيرة، التي تنفتح على أمكنة تعكس طبيعة التجمعات القبليّة والقروية للمحاصرين عند جبل "كَارا" كل مجموعة تبحث عن خيمتها، سفحها، شجرتها التي ستنام في ظلها. إنّ تجمّع آلاف العوائل وهم يجرجرون أطفالهم ومعاناتهم خلفهم من سفح إلى آخر، افسح المجال لظهور شخصيات وقصص فرعية تتقاطع وتلتقي في مكان ضيق ومحاصر. قصص حب ومرض وخوف واختفاء تدور حوّل كيفية الهروب من قطعات الجيش العراقيّ باتجاه الحدود التركية. السرد هنا لا يبني علاقات مسهبة بين الشخوص الذين قدموا بالآلاف من قرى مختلف، ومد بدلا عن ذلك خيوط علاقات عامة بين قرويين تتسم حياتهم بالألفة والبساطة والعمق، كان فيها للتكافل الاجتماعيّ دوره في استمرار الحياة. هنا تبدو حبكة الفلاح الذي جلب معه بقرته العزيزة على قلبه، بعد ان هرب من قريته وترك خلفه كل شيء يحترق، من الحبكات التي تجسد حال التكافل بين المحاصرين بالجبل. فعندما جاع المحاصرون قدّم بقرته للذبح، ثم هام المسكين على وجهه في الجبل، لا يستطيع رؤية دمّها وتذوق لحمها. وكل ذلك يمضي بلغة متدفقة وحيوية تصنع البسمة على وجه القارئ. ففي هذا الجمع الهائل، حين تركض عقارب الساعة دون حل يلوح في الأفق، سيكون من الطبيعي ظهور حوادث مضحكة\مؤلمة مصدرها قسوة الطبيعة، او سذاجة القروي، أو حصار الجيوش، او تفاهة المسؤول السياسي. يكون فيها الضحك متعدد الاستعمالات، ينفع للفرح وللحزن وللرفض وللسخرية من الذات.
تراجيديا "حصار العنكبوت" تنتهي مفتوحة الضفاف، بعد حصار دام فيها أيام. يُقتل فيها الكثير من الأنصار، وتضيع أخبار آخرين بحثا عن منافذ للنجاة، في حين يفضّل الناجون منهم بدء مرحلة جديدة من القتال (أكيد من سيقود المحاولة الجديدة غير هذه القيادة التي فشلت وانتهى أمرها... سيكونون هم والجبل وبنادقهم صــ 366) أما العوائل فقد امتثلت للأمر الواقع، وذهبت مستسلمة باتجاه القطعات العسكريّة الحكوميّة. هنا تنتهي الرواية، مع ملاحظة أخيرة من المؤلف تقول (حتى وقت كتابة هذه الشهادة، ورغم الحفريات الكثيرة التي نبشت في خارطة الدفن الجماعي بعد احتلال البلد في نيسان 2003 وسقوط النظام إلا ان أحدا لم يعثر بعد على رفاة تلك العوائل، وما زالت رفاتهم مجهولة صــ 367).
***
"في باطن الجحيم"
نشيد عزاء لضحايا الأسلحة الكيمياوية
للروائي سلام إبراهيم رواية تسجيليّة واحدة عن تجربة الأنصار الشيوعيّين (في باطن الجحيم ـــ مجلة الكلمة ـــ العدد 48 أبريل .2011 وصدرت لاحقاً ورقياً عن وزارة الثقافة العراقية 2013 بـ 320 صفحة) تناول فيها تعرضه، هو ورفاقه، للأسلحة المحرمة دوليّا، وما تبعه من أنفال وتهجير. ولكن "إبراهيم" يُعد الأكثر تناولا لتجربة الانصار من بين أقرانه الآخرين، بسبب اعتماده سيرته الذاتيّة موضوعا لرواياته، والتي تُعتبر سجلا مهما لعنف الصراع بالعراق، في النصف الثاني من القرن الفائت.
تبدأ الرواية بمفارقة لا تحدث كثيرا في بلداننا؛ جلوس الضحيّة على كرسيّ في منفاه يتناول قهوة الصباح أمام شاشة التلفاز يشاهد بفرح، دهشة الجلاد في قفص الاتهام. ومع تكرار الجلوس قدام شاشة التلفاز تتبيّن لنا صورة البطل، وما كابده خلال عقود في مواجهة سلطة تتغذى على الخوف والقتل. المؤلف لم يقتنص لحظة ظهور الديكتاتور ليعيد تدويرها واللعب فيها، فهو عرف سجون الديكتاتور وحروبه وسمومه التي اعطبت رئته، إلا ان الكتابة هنا بدتْ اشبه بردةِ فعلٍ تلقائيّة لضحيّة يرى جلاده ذليلا. في الواقع هذه اللحظة التاريخيّة افسحت المجال لكثير من الضحايا ان يعودوا بذاكرتهم إلى جزء من تاريخهم المؤلم، وأن يتذكّروا رفاقهم الذين رحلوا، دون ان يروا ذل الديكتاتور وهو يعبث بلحيته في قفص الاتهام. يوهمنا مدخل الرواية بأن الضربة الكيمياوية التي تعرض لها المؤلف ورفاقه هي كلّ الموضوع، ولكننا سرعان ما نعرف ان تلك الجريمة البشعة ليس سوى جوّلة من جولات العنف التي حوّلت حياة أجيال إلى جحيم. المؤلف تناول في روايته ثلاثة وقائع؛ الأولى مع محقق الدولة الدنمركي عن الضربة الكيمياوية (عندما أدخلني الديكتاتور في الجحيم) والثانية عن واقعة الغازات السامة وعملية الأنفال (عندما أدخل الديكتاتور رفاقي في الجنون) والثالثة عن التشرد بالمنافي. إضافة إلى الكثير من حوادث السجون وجبهات الحرب العراقيّة الإيرانية، كان المؤلف قد مر عليها سريعا على أمل العودة إليها في مكان آخر.
إنّ ملمحا مهما من فصول الرواية الثلاث يقوم على حقيقة ان حوادثها وقعت على الأرض، وأن بعضا من شهودها ما زالوا أحياء. وهو ما حيّد المخيّلة وقلّل من مساحة التلاعب بالتفاصيل الصغيرة للحوادث، ووضع المؤلف في منطقة التوثيق المحكومة بتسلسل الحوادث وإيقاع السرد. أردنا القول ان الكتابات التسجيليّة لا تنفق على الدوام جهدا في التزيين وفي نقل الحوادث من الواقع للمتخيل، فبعض الحوادث لا تحتمل التجريد واللعب عند التوثيق، ولا يمكن إخراجها عن سياقها دون ان يترك ذلك أثرا. المؤلف حتى حين يذهب لتدعيم شهادته بوثائق ورسائل محكمة العدل الدوليّة، وبشهادات أهالي الضحايا المفقودين "صباح كنجي" وبشهادة الجندي "يحيى غازي رمضان" الذي كان على الجهة الأخرى يقاتل في صفوف الجيش العراقي، حيث رأي بعينيه ما حدث للمدنيين، قبل ان يختفوا إلى الأبد في المقابر الجماعيّة. المؤلف حتى حين يذهب لتدعيم شهادته، ويتلاعب بالزمن، نجده ممسكا بخيط السرد امام شاشة التلفاز، تارة يغني للديكتاتور: اه يا أسمر اللون. وتارة أخرى يكتب شعرا له: ننصت أنا والطاغية.. هو في دهشة وامتعاض.. وأنا في نشوة وطرب. وفي تكرار جلسات المحاكمة على شاشة التلفاز تستعيد ذاكرة الراوي أسماء الاصدقاء والاخوة والاقرباء الذين غابوا دون قبور، تستعيد أعوام التعذيب في سجون الديكتاتور ورعب الموت في جبهات الحرب العراقيّة الإيرانيّة، ثم يجمعها بخبرة السارد، لمقاربة آلام الحريق المشتعل في جسده جراء الضربة الكيمياوية. فلقد باتت المعاناة مفصلا في وجود المؤلف وذكرياته وكتاباته اللاحقة، ونجده في رواياته ونشاطاته الإعلامية دائما ما يخبرنا عن الظروف والأسباب التي دفعته للكتابة بعد تعرضه للإصابة بالسلاح الكيمياوي ويقول (لو كُتِبَ لي النجاة من هذه المحنة، فسوف أجهر بحقيقة حواسي في التجربة دون أي رادع فكري أو أخلاقي أو اجتماعي أو قيمي. صــ22)
ما يميز رواية (في باطن الجحيم) هو انها جاءت على لسان واحد، يروي بضمير المتكلم أحداثا سامة، يغمض فيها القارئ عينيه مرارا من قسوتها ومن بطء زمنها الذي تساوي دهرا كل ثانية فيه. فالزمن الذي يشعر به المصابون بالأسلحة الكيمياوية هو زمن داخلي احتفظت به ذاكراتهم واجسادهم المحروقة. نلمسه في ركض الراوي المعطوب الرئة بين النيران وهو يصف جثثا مكدسة وقرى مخربة وطائرات محلقة، ثم يتسع المشهد على حيوانات نافقة وامرأة حامل مات طفلها في بطنها، وفجأة يقطع علينا السرد ليقول (فالذي أسرده عليكم الآن جرى بدقائق معدودة. صــ12) وتساوقا مع ذلك لم يشغلنا المؤلف بزخرفات اللغة وصنع المشاهد الساخنة، وأدخلنا منذ سطوره الأولى إلى حوادث رعب خانقة. بدتْ فيها متعة القراءة مشدودة وضيقة، بالقياس إلى كمية الألم والمعلومات الصادمة عما تتركه الغازات السامة من أثر على جسد وعقل الإنسان. إنّ استخدام المؤلف لغة في متناول القارئ يعود لطبيعة الحوادث الواقعية من جهة، ومن جهة أخرى معرفة المؤلف المسبقة بعمق وغرابة ما يروي. ونجده من الطبيعي، في هذا النوع من الكتابات، ان تسقط اللغة بالمباشرة والتكرار والصراخ أحيانا (ليسمع من كان في المراكز العليا من بطانة الدكتاتور، ممن يقول في المحكمة بأنه لا يعلم ما يجري حوله، وخصوصا وزير الدفاع سلطان هاشم، الذي صور نفسه حملاً وديعاً، وهو المكلف بقيادة حملة الأنفال، صــ 60) إنّ الروايات التي توقفنا عندها ينبغي وضعها في سياقٍ تاريخيّ كان فيه العراق يخوض حروبا خارجيّة وداخليّة مستمرة، عمّت تأثيراتها البيوت والشوارع والمقاهي، ثم تسربت للأدب؛ وبالتالي لا يعيب هذه الروايات اجواء القتال والدماء والغازات السامة، مثلما لا يعيبها البكاء والصراخ بصمت، أو حتى بصوتٍ عال.
احداث رواية (في باطن الجحيم) خالية تماما من الغموض. ابطالها قليلون، مشخصون بأسمائهم وبأساليب عيشهم وطرق موتهم. يستعيدهم الراوي من الماضي لتدعيم شهادته عن الغازات السامة والرئات المعطوبة. أغلب شخوص الرواية جاؤوا من خلفيات عمالية وطلابية، تارة يقدمهم المؤلف ضحايا لسلاح فتاك لا يستطيعون مواجهته، وتارة أخرى يقدمهم ابطالا في مواجهة الموت، لا يتخلون عن قيّمهم وعلاقاتهم الرفاقية حتى النفس الأخير (أمام غرفة الطبابة جلس الشهيد أبو رزكار متربعاً على الأرض واضعاً رأس أبو فؤاد في حضنه، ومنحنياً عليه، يهمس بشيء ما، كأمٍ تحنو على وليدها.. وقسمات أبو فؤاد بدأت تسّود شيئاً فشيئاً وكأنها حرقت بفرن صــ 10). المؤلف رسم سيّرا مختصرة لشخوصٍ يستمدون قوتهم من الجبل ومن قناعاتهم الفكريّة، واشار إلى بطولاتهم في مواجهة الموت دون تطبيل سياسيّ. فقد رسم لــ "أبو فؤاد" سيرة رائعة؛ تبيّن جهوده في استقبال الملتحقين الجدد، طيبة عائلته التي ستضيع في المقابر الجماعية إلى الأبد، حادثة تسميمه المدبر من قبل عملاء السلطة، ذهابه للعلاج في إيران، وصولا إلى تفحم جسده وموته في الضربة الكيمياوية. هذه السيّر المختصرة غالبا ما ترتبط بأحداث فرعية وأسماء مستعارة لأفراد ما زالوا أحياء، وأخرى صريحة، كما نجده مع حادثة (جابر هادي هيجل صــ13) الذي قُطعت ساقه في احدى المعارك، سقوطه من البغل، انشغال الآخرين بطفلته الصغيرة. في خضم هذا الكابوس الخانق نتعرف على الشخصية الأكثر حضورا في الرواية، زوجة المؤلف "بهار_ ناهدة جابر جاسم" التي ملأت حياته بالدفء والأمل. نتعرف على دورها بعد الضربة الكيمياوية؛ كيف اعانته وذكّرته بمواقف الرجال، وكيف صارت دليله بعد ان افقدته الغازات الكيمياوية بصره. المؤلف نجح في ابراز دور المرأة، وحاول تسخين المناطق العاطفيّة، إلا ان الخراب والموت والاجساد المحترقة التي خيّمت على السرد حالت دون ذلك. ينبغي الإشارة هنا إلى ان المؤلف في ملاحقته للأحداث، متنقلا بين الماضي والحاضر، يتوقف ناقما على دور النشر التي لم توافق على طبع روايته، يتوقف عند دعاء أمه على الطاغية، عند أصدقائه الشعراء.. توقفات وتعقيبات تأتي سريعة، ترتبط بالشخوص والاحداث تارة، وتارة أخرى بلا سبب فني.
لا نبالغ بالقول ان "الروايات التي تناولت بيئة الثوار في الجبل وثّقت لضحايا الأسلحة المحرمة دوليّا أكثر مما فعل المدون السياسي الذي عاش التجربة نفسها، أما المؤرخ فهو ما زال مشغولا بجمع أدواته عن حوادث وقعت خلف الجبال. الروائيون وثّقوا رؤيتهم عن احداثٍ عاشوها، رصد كل منهم زاوية منها. في سطور سابقة كنّا قد تحدثنا عن رواية (حصار العنكبوت ــ كريم كطافة) التي تناول فيها واقعة الانفال، وفي رواية "في باطن الجحيم" كذلك تناول سلام إبراهيم واقعة الانفال، لكنها بدتْ مختلفة في أكثر من موقع. فهذه الأخيرة رواية تسجيليّة، تناولت عدة وقائع، في فترات مختلفة من سيرة المؤلف. من جهة أخرى ظهرت هذه الاحداث في روايات عدة لسلام إبراهيم، ولكن بأسلوب مختلف، ومضامين لم تكن معنية فقط بالأسلحة الكيمياوية، وانشغلت بمعاناة الإنسان وبخيانة رفاق السلاح وبانسداد الأفق الذي عايشه في تنقلاته بين السجون والجبال والمنافي. روايات سلام إبراهيم الأخرى تناولت حياة الأنصار الشيوعيّين بالجبل، لكنها توقفت طويلا عند الجانب الهش في حياتهم، وخلت صفحاتها من المداراة والتفاؤل، فإصحاب القضايا الحقيقية لا يعيشون على الدوام حالات رضا وتفاؤل، خصوصا عندما يغيب المستقبل وتنقص نسبة الاوكسجين بالهواء.
هذا هو النسيان أن تتذكر الماضي ولما تتذكر الحكاية
***
نصير عواد