قراءات نقدية
الشاعر رضى مريني يخترم مفهوم الزمن
سأشتغل على قصيدة للمبدع رضى مريني، عَنْونها صاحبُها بعبارة خزّانة دلالياً، وبحمولات قوية مختزلة في مركب إسمي يعجن التعبير في مزيج اللغة والرقم والعجمية. والعنوان هو (دولوريس وقطار الساعة 25). لتنحسر الدهشة في هذه العتبة عن مقولات الكينونة والزمان والمكان.
1- في الصوغ الفنّي:
القصيدة في صوغها الفني جاءت عبارة عن مقاطع قصيرة، وكل مقطع يتناسل عن مقطع بحيث لا تكاد ترى خلالا بينها. إنها مشدودة إلى بعضها بذكاء الصوغ الشعري البعيد عن معانقة التكرار الجمالي، والذي يعتبره الشاعر درجة ثانية في شعرية القول بعد ذكاء التناسل الشعري.
والتناسل الشعري هنا مبني بقصدية دلالية مدهشة تستثمر آخر كلمة في المقطع لتنتج منها دلالة ثانية في المقطع الثاني، وتستثمر الكلمة الأخيرة في المقطع الثالث لتنتج منها دلالة ثالثة في المقطع الثالث وهكذا في تناغم إيقاعي أو في إيقاع تناغمي يتسم بقوة الصوغ ويفر من ارتجالية المعنى والمبنى. وإن الشاعر بذلك يقحم المتلقي في عملية البناء ويستدرجه في التفكير بمعيةٍ جمعية تتكهن بسيرورة وصيرورة المحكي الشعري داخل محطة القطار.
و إن المتتبع لعملية التناسل سينبهر بالحمولة المعجمية الموغلة في الاختلاف والتنوع والتشعب. وندرج هذا المعجم الخاص بين قوسين حتى يتمكن القارئ من ملامسة شعرية التناسل عند الشاعر رضى مريني الراغب في الصمت: (المحطة ⇦ القطار ⇦ الحلم ⇦ اللامرئي ⇦ الخيال ⇦ الساعة ⇦ المطر ⇦ السماء ⇦ السكة الحديدية ⇦ الانتظار ⇦ العد العكسي ⇦ دولوريس ⇦ الحمامة ⇦ الرصيف ⇦ الطريق ⇦ الأثر) وهنا يتوقف التناسل والتوالد ليعلن الشاعر عن قرار شعرية الكينونة داخل المكان والزمان.
و يأتي المقطع الأخير ليكسر تجانس عملية التوليد الدلالي ويكسر معها انتظارات القارئ وهو يسقط في فخ ترقب تكرار المشهد. إلا أن الشاعر أبى إلا أن يتحول عن انسيابية التناسل الشعري إلى شعرية الدفقة الدلالية الأخيرة المختلفة في بنائها عمّا سبق. وهو المشهد الذي يسجل قمّة الإدهاش في سفر التجلي الذي ينسج ذاته في محاريب الحرف والكلمة وهما المقولتان الناقصتان في مفارقة الحضور والغياب والمكتملتان في المشترك القائم في شرط واحد هو شرط المعية (مع) والّتي أسميها (الكينونة الممتازة).
2 - هندسة البياض:
يرتّب الشاعر رضى مريني بصرَ القارئ وذهنه داخل هندسة البياض بذكاء نوعي، بحيث يسيّج بصره داخل رسمٍ كِتابيّ يطرح السطر الأول في مفردة ويليه سطر شعري في جملة إسمية أو فعلية واحدة لا غير حتى آخر القصيدة حيث تختفي هذه الهندسة ويتحول القصيد إلى انسياب شعري في أربعة أسطر شعرية مكسرةً الإيقاع السابق.
معنى ذلك أن الشاعر لا يتقيد بحدود المساحة البيضاء التقليدية التي تحدّ من حرية السواد والحبر. وبالتالي تحدّ من قوة التدفّق الشعري لديه. إن رضى مريني شاعر معاصر يهمه أن يبني قصيده وفق تصور بصري يمتد إلى دواخل المتلقي ليحدث بعض الخلخلة في نمطية استقباله لمفهوم الشعر على مستوى استثمار مساحة البياض على الأقل. وهو اختيار من الشاعر يحدد فيه مفهومه للبياض والسواد باعتبارهما جدلاً إبداعياً لا يُسيَّج في رؤية واحدة وأوحد. (الشاعر في اختياره لهذه المقاييس لا يصدر عن تفضيل عنصر على آخر، وإنما تتداخل في الاختبار الذاتي مجموع البنيات الجزئية التي يحكم وجودها ترابط جدلي وينتهي البيت عندما يلامسه البياض أو عندما يوقفه البياض فيحد من حريته في التدفق)1
ينزع الشاعر رضى مريني بالكتابة (الڭرافيك) منزعا ثنائيا يقوم على بنية تشعّب المقولتين ثم تجانسهما: الكلمة ثم السطر في توارد يتمظهر خمسة عشرة مرّة ولا ينحسر إلا في المقطع السادس عشر، وعياً منه بأن الكتابة عنصر فني جمالي لا ينفصل عن عمق الذات وهي تتفاعل في الصوغ الدلالي والنفسي للغة. حتى لا مسافة بين المحتوَى والمُحتوِي، بين المادة والوعاء. قال ابن خلدون (واعلم أن الخط بيان عن القول والكلام، كما أن القول والكلام بيان عما في النفس والضمير من المعاني، فلابد لكل منهما أن يكون واضح الدلالة)2
و هذا النزوع من الشاعر لا يروم به تسجيل الاختلاف عن الرسم العمودي، بدعوى الاختلاف فقط، وإنما هو صيرورة تمتد من قرار الكتابة الشعرية في قلب النثيرة لا في قلب القصيدة الخليلية، ومن ثمّة كان الأمر أنطولوجيا أكثر منه شكليا يقيم في تخوم الـ (الڭرافيك) في بلاغة الزخرفة واستدعاء بصر المتلقي خارج بداهة القديم. إنه التماهي بين الذات المنفعلة والذات الراسمة، في قناعة تصورية تكسر تراتبية الفضاء النصي وحدوده التاريخية وهيمنته الكاسحة. ومن هنا تداعى في الرسم موضوع النبر، فنحن عندما نقرأ السطر المختزل في كلمة واحدة، نجلو صواتةً بالغة في التقصّي الدلالة البعيدة، ولنضرب على ذلك مثال ثلاثة مقاطع:
المحطة..
تنتظر حلول قطار س25.
القطار..
عابر سبيل ساحر وحالم.
الحلم..
مسافر يتأبّط أيامه اللامرئية.
فالنبر على مفردة (المحطة) مثلا ينزل بحمولتيه الصوتية والدلالية في سؤال المتلقي عن هذه المحطة وبالتالي تتداعي في الذهن تمثلاته عن المكان وامتداده في وجدانه سواء على مستوى شكل المكان أو عناصره أو حركيته أو سكونه أو غير ذلك من تداعيات المكان الممكنة بسياق القصيد. وكذا ينسحب القول على نبر ألفاظ القطار والحلم وغيرها من مقاطع النص المفردة.
3 - شعرية الكينونة:
هي شعرية تمتح قوتها من قدرة الشاعر (ر م) على حشد ثلاثة أقانيم في متن العنوان ثم تحليلها داخل المتن الشعري في مكر أدبي مثير جمالياً ومستفز دلاليا. ونقصد بذلك:
- الإنسان: دولوريس
- المكان: القطار
- الزمان: الساعة 25
تتبدى هذه المقولة واضحة في الاسم العلمي العجمي (دولوريس) وهو علامة سيميائية مستفزة تطرح علينا أكثر من سؤال، على الأقل في تصورنا للشاعر وهو يزورّ عن تراثيات (هند وبثية وفاطمة وغيرهنّ...) ممّن ملأْنَ قصائد الشعراء وكما ملأن آذاننا ووجداننا.
و اللافت للنظر في هذه العلامة ليس العجمية فحسب، وإن دلّت في عرف الشاعر وفي عرفِ تأويلنا على اختيار المتكلم اسماً لا يرمي بنا في شوفينية القول العربي الرابض دائما في التغنّي بالاسم الأنثوي العربي، وذلك إيمانا من الشاعر بكونية التجربة الإنسانية في عمليات الانتظار أو في واقعة الانتظار. إنها النفس البشرية مقروءةً في صميمها الكوني الذي لا يتبدل من دولوريس إلى فاطمة.
وأنما الأمر متعلق في بعض تأويلنا بالاسم العجمي الموسوم بالإشارة إلى متعيّن غائب، ذلك أن اسم دولوريس مشتق إيثيمولوجياً من الأصل اللاتيني (dolor) والدال على الألم. 3
من هنا دقّة الاختيار في الاسم الشاعري والشعري الرامي بالقارئ في أتون القراءة الذكية والممتطية صهوة التأويل لا مطايا البحث عن المعنى القريب والمستسلم لأول تناول.
والمسألة تتيح لنا شيئاً من فائض المعنى ونحن نقرأ التوظيف داخل سيمياء التركيب بين الاسم وفعل الانتظار في المكان. إنها الكينونة المتميزة لا في الحضور الإنساني المكتظ، وإنما في الحضور الفنّي القارئ للذات البشرية في كينونةٍ شعرية تتسم بالعمار التأملي إن لم نقل الفلسفي، حيث الماهيةُ قضيةٌ، وحيث الوجود سؤال.
و الأمر لا يتعلق باسم مفرد هو دولوريس داخل مكان عابر هو المحطة في زمن متلاشٍ في السديم هو سحابة ساعة أو أقل. الأمر أكبر من ذلك، وأعمق، وأقوى من تحييزه داخل التشيؤ. وخاصّةً عندما ندرك استعمال الشاعر للساعة الخامسة والعشرين المترنحة خارج إمكان القبض. من هنا أيضاً شرط الكينونة في قراءة هذه القصيدة السائلة.
و في تشعب القصيدة بين مقولة المكان والزمان والإنسان تشعبت كثيرٌ من العناصر تتداعى فيها معانٍ مولّدة في صوغٍ شعري لا يبذخ في الفكرة وإنما يرسم الفكرة فلسفياً لتقول القصيدة شيئا في هذه الكينونة الظاهر بسطها والباطنِ عمقها. إذ في كل عنصر يتبدى الشعرُ مسافراً لا في تحديد ماهية العنصر بقدر ما هو انزياحٌ في شعرنة العنصر. فتتحول المحطة إلى كائن حيّ يمارس فعل الانتظار، والقطار إلى عابر سبيل، والحلم إلى مسافر، واللامرئي إلى خيال، والخيال إلى إيادٍ تتلاعب برقاص الساعة... وهكذا في توليدية عجيبة تؤثّت ذهن المتلقي وتدفع بمخياله إلى تخوم الذكاء في استنتاج الآتي والممكن والمحتمل.
وهو التشعب المنتهي بفكرة الانسجام على مستوى الخطاب الشعري الذي تتساءل فيه الكينونة أكثر من أي عنصر آخر. وفيه تبدو دولوريس حمامةً تميس على الرصيف وتغفو على كرسي الانتظار لتمسك بتلابيب القصيدة داخل فعل الانتظار الذي أعتبره صلب القصيد مشفوعاً برؤية فنية ووجودية للزمن خارج مسألة التحقيب، ونستفيد ذلك من اختيار الساعة الخامسة والعشرين في اخترام واضح لمفهوم الزمن. فالساعة الخامسة والعشرون ساعة مستحيلة في عرف إدراكنا البسيط ولكنها في عرف الشاعر ممكنة سيميائياً لأن الاستحضار هنا غير فيزيائي لا يقاس بدلالة مقدار حركة الموجودات داخل المحطة \ المكان وإنما بمقدار وجودها داخل الزمان النفسي كمطلق كوني لامتناه.
و فيه اعتمد الشاعر رضى مريني توظيف الزمان باعتباره مقولة نفسية معرفية يحدّها سلوك عاطفي وجداني وانفعالي يحتويه الشعور واللاشعور، كما وسمه في دواخل دولوريس الممتدة إلى روحها والهاربة من تخوم إحساسها البسيط بالوقت المتحيّز داخل المحطة. وبتعبير آخر فإن الشاعر اختار الزمن الممتلئ من منظور برجسوني (يفسح الزمان الممتلي والعميق والمتواصل والغني ليكون مكاناً للجوهر الروحي الذي لا تستطيع فيه النفس الانفصال عن الزمان)4
4 – ختمٌ:
ينتهي الدفق الدلالي في هذه القصيدة - التي لم نوفيها حقها في التحليل نظرا لعبقرية عمقها – بقرار شعري يعيد ترتيب تشعب العناصر الأولى المنسابة في إيقاع تناسلي عجيب، وهو قرار شعري يتناسل من مفردة الطريق بمنطق السبب والنتيجة مشيرا إلى تداعٍ انزياحي قوي هو (الأثر) الناجم عن مقولة الطريق، وهو الأثر المتحول إلى إمكان الاستمرار لتخرج معاناة الألم والانتظار من الحالة الخاصة إلى الحالة الكونية، فيتحول الأثر الناجمُ عن السَّفر سِفرا للتجلّي. وتتحول الكسرة من حركة مورفولوجية إلى حركة دلالية تحدث شرخا بين المعيش انتظاراً إلى المعيش كينونةً ووجودا. والسفر بكسر السين متعلق في استيعاب الشاعر بالتجلي. ذلك أن رؤيته الشعرية لم ترد أن تلقي بالانتظار في نهاية البداهة حيث يتحول المنتظر إلى استقرار في عربة من عربات القطار لتنتهي الرحلة من حيث بدأت... وإنما هي الرحلة الوجودية في قلب المعاناة الإنسانية الكونية الموسومة بالجوهر بقرينة لفظية هي الساعة الخامسة والعشرون التي رمى بها الشاعر في كتاب التجلي القائم على يناع الحروف والكلمات.
***
بقلم نورالدين حنيف
........................
1- بنيس محمد، ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب مقاربة بنيوية تكوينية المركز الثقافي، الدار البيضاء، المغرب، ص10
2 - عبد الرحمن بن خلدون، المقدّمة، دار ابن الجوز، القاهرة، مصر، ط1،2010،ص351
3- أنظر https://fr.wiktionary.org/wiki/dolor
4- جاستون باشلار، تكوين العقل العلمي، ترجمة خليل احمد خليل، الممؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط 2، ص16
.............................
أنظر نص القصيدة:
"دولوريس" وقطار الساعة 25
المحطة..
تنتظر حلول قطار س25.
القطار..
عابر سبيل ساحر وحالم.
الحلم..
مسافر يتأبّط أيامه اللامرئية.
اللامرئي..
يرى مخلّفات الخيال.
الخيال..
أيادي تتلاعب برقّاص السّاعة.
السّاعة..
تعلن رحيل المطر.
المطر..
يراقب وِجْهة الريح في السماء.
السماء..
تعكس ظمأ حجارة السكة الحديدية.
السكة الحديدية..
تآكل صُلْبُها بفعل الانتظار.
الانتظار..
ينتظر على إيقاع العدّ العكسي.
العدّ العكسي..
يتلهّى في انتظار إطلالة " دولوريس ".
" دولوريس "..
تميس على الرصيف كحمامة.
الحمامة..
تغفو فوق آخر كراسي الرصيف.
الرصيف..
مفترق طُرُق.
الطريق..
اِقتفاء أثر.
الأثر..
سِفر التجلّي..
حيث زُرعتْ حروف..
أيْنَعتْ كلمات..
على إيقاع شِعريّة فنّ الغياب..
عن الحضور المشترك مع.
***
رضا مريني