قراءات نقدية
علي فضيل العربي: المنظور الصوفي في رواية بياض اليقين
قراءة نقديّة في رواية "بياض اليقين" للروائي الدكتور عبد القادر عميش
ظهرت معالم الرواية العربيّة في النصف الأول من القرن العشرين، بظهور أولى الروايات الاجتماعية في مصر على يد صاحب رواية زينب لـ هيكل 1914 م. وكان تلك هي خطوات الرواية العربيّة، في مرحلة التأسيس الفنّي، التي ستشهد لاحقا ازدهارا وانتشارا بأقلام روائيين في المشرق العربي ومغربه في مرحلة التأثيث و. أبرزهم على الإطلاق: عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (دعاء الكروان والمعذبون في الأرض) والعقاد (سارة ويوميات نائب في الأرياف) والمازني وحنّا مينة والطاهر وطار ويوسف السباعي والطيّب صالح وغيرهم...و ما لبث أن اقتحم التيار الصوفي حقل الرواية العربيّة والإسلاميّة، من بوابة الفلسفة الصوفيّة، القادمة من بلاد الفرس وتركيا (اليف شافاك). ونتج عن ذلك التلاقح والتآلف ميلاد الرواية العربيّة الصوفيّة المعاصرة، مستمدّة مواضيعها وأفكارها من واقع عربيّ مأزوم اجتماعيا وأخلاقيّا وسياسيّا وإيديولوجيا، ومنهارا اقتصاديا ومهزوما عسكريا، خاصة، في معارك النكبة والنكسة. ممّا دفع كتاب الرواية الصوفيّة إلى مواجهة الهزائم الماديّة والانكسارات الحضاريّة المعيشة، بتشييد عالم من المثل الصوفيّة العليا بديلا عن الواقع المعيش، على غرار الأسلاف الصوفيين في بلاد الشرق والأندلس.
أن نكتب رواية ما، ثمّ نجنّسها فنيّا، فنقول: هذه رواية كلاسيكيّة أو رومانسيّة أو واقعيّة أو رمزيّة أو صوفيّة أو فلسفيّة، ذلك أمر راجع إلى نمط فكرتها ومضمونها، وسمات شخصياتها والفكريّة والسلوكيّة. أمّا القراءة النقديّة للرواية (الصوفيّة) من لدن الناقد الحاذق، فلها ثلاثة أوجه: قراءة مباشرة، وقراءة انحيازيّة دلاليّة، وقراءة بينيّة (بين المباشرة والانحياز الدلالي).
الشطحات الصوفية في الفن الروائي كثيرة، فقد يلجأ الروائي إلى حشد مجموعة من الرموز والمصطلحات التي تفضي إلى انتاج نصّ سرديّ صوفيّ، ملغّم بتأويلات صوفيّة بحتة، والتي تقابلها في الأدب الأمريكي اللاتيني (أمريكا اللاتينيّة)، الواقعيّة السحريّة بشطحاتها الخياليّة والأسطوريّة والخرافيّة إلى درجة الفلسفة الميتافيزيقيّة، عند غابرييل غارسيا ماركيز (مائة عام من العزلة) (الحب في زمن الكوليرى). والتي من أهم
خصائصها: جمعها لما هو عجيب في ثنايا الواقع، ويقصد بهذا أن سرد الأحداث في الرواية الواقعية السحرية يكون غير واقعيًا في ثنايا أحداث واقعي، وهي بذلك تجمع بين المتناقضات العجيبة والساحرة.
ولم يتخلّف الروائيّون الجزائريّون المعاصرون عن نظرائهم العرب في المغرب والمشرق في اقتحام عوالم الرواية الصوفيّة، وإن كان سعيهم مازال في مرحلة التأسيس، ولم يبلغ بعد درجة التأثيث والتأصيل، نظرا لحداثة التجربة. ومن بين الروائيين الجزائريين المعاصرين، الذين خاضوا هذه التجربة الفنيّة الفتيّة، واقتحموا عوالم الصوفيّة من بوابة الفنّ الروائي، الدكتور عبد القادر عميش، في ثلاثيته الأخيرة بياض اليقين وسكوت... العارفة إيزابيل تتحدّث والحب في زمن كرورونا (سونيتو).) (Sonetto
و قد ارتأيت تناول، في مقالي هذا، روايته " بياض اليقين " تحت عنوان " المنظور الصوفي في رواية بياض اليقين ". الصادرة سنة 2022 م، عن دار خيال للنشر والترجمة. عدد صفحات الرواية من 197 صفحة، من الحجم المتوسّط. وقد قسّمها الروائي مقسّمة إلى 12 مشهدا. وأهداها إلى رفيقة الجنة هايدي قائلا: " إلى نسخة هايدي... رفيقة الجنة داخل دائرة اليقين بعيدا عن الظن. ".
طفق الروائي الدكتور عبد القادر عميش في رسم ملامح بطله وبقيّة الشخوص من منطق الافتراض المشبع بالظنون، وقام ببناء أحداث روايته وتشييدها من عالم الرؤى النورانية الغيبيّة ولبنات العشق الصوفي، متجرّدا من مادة الجسد الفانية. وهكذا سار الروائي ببطله الراوي (الأستاذ الجامعي) بين فجاج الواقع المعيش والخيال المأمول، ساعيا إلى تخليصه من الأوهام والأشباح ووساوس الشيطان والدنس والظنون، والوصول به إلى اليقين النوراني. " أنا الفاني في حضرة الضوء الآسر، وأنا اليقين بعد الظن فلا ظن من بعدي " ص 61.
أول ما يواجه القاريء أو الناقد ويشدّ انتباهه، أو ربّما يستفزه ويثير عاطفته وفكره، إيجابا أو سلبا، عنوان الرواية. فهو واجهة العمل السردي أو الشعري، حيث لم يعد العنوان الروائي مجرّد جملة أو كلمة تؤدي ما تؤديه لوحة إشارة مروريّة توجيهيّة للدخول إلى المعمار الروائي، بل اكتسب مكانة العتبة الموحيّة والمفتاح الرامز في النص السردي، والشفرة السريّة للمعمار الروائي كلّه. وقد اختار الروائي الدكتور عبد القادر عميش، عنوان متنه السردي (بياض اليقين)، انطلاقا من خلفيّة ثقافيّة صوفيّة. فالبياض ضد السواد. قال تعالى: " يوم تبيّض وجوه " (آل عمران: 106). وهو كناية عن المسرّة، ورمز للإطمئنان الروحي. كما رأى الفيروزآبادي في كتابه. إذن، فالبياض، عند الصوفيين، يدّل على النقاء والطهارة والصفاء الروحي والعشق النقيّ من شوائب اللذة الجسديّة والحبّ المتعالي عن المتعة الماديّة.
أمّا اليقين فهو روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح. ومتى وصل اليقين إلى القلب امتلأ نورا وإشراقا. وانتفى عنه كل ريب وشك وسخط، وهم وغم. فامتلأ محبة لله. وخوفا منه ورضا به، وشكرا له، وتوكلا عليه، وإنابة إليه. فهو مادة جميع المقامات والحامل لها.، رحمه الله: " اليقين ارتفاع الريب في مشهد الغيب " قال الجنيد
" وسئل عن اليقين فقال: "اليقين ارتفاع الشك
- وقال أيضا رحمه الله: "اليقين هو استقرار العلم الذي لا ينقلب، ولا يتحول، ولا يتغير في القلب ".
و من هذا الحقل الصوفي صاغ الروائي د. عبد القادر عميش عنوان روايته، وطفق يخوض في عالم الصوفيّة، ممتطيّا صهوات الخيال، محرّرا النفس من جغرافيّة الجسد، ومطلقا العنان للروح المجنّحة، السابحة، المتجاوزة جغرافيّة الجغرافيا. لقد تبوأت شخصية الأستاذ مكانة البطل السارد، وتقمّصت ضمير المتكلّم (أنا). وراحت تسري سريان النور المطلق بين مسقط رأسها (الشلف) ومدينة قسنطينة ذات الجسور المعلّقة، وموطن الآداب والعلوم، الشرعيّة وطالبة الشريعة، الشبيهة بـ (هايدي)، ومدينة غروزني، عاصمة الشيشان، وموطن (هايدي)، وموسكو، أين استشهدت (هادي)، ودمشق، مدفن محي الدين بن عربي والأمير عبد القادر. وقد وظف الروائي، هذه الأمكنة، توظيفا رمزيّا، معنويّا وروحيا، لا توظيفا ماديّا وبيئيّا وحسيّا.
و قد كان بطل الروايّة (الأستاذ)، يعتبر نفسه، مريدا، أي متجرّدا عن إرادته، ومرادا، مجذوبا عن إرادته، متجاوزا الرسوم والمقامات دون مكابدة، وقد تهيّأت له الأمور المعقولة والاعتبارات، لا تخضع للوقت، لا بالماضي ولا بالمستقبل. جاء في الصفحة 25: " وأنا وحدي أتبع لغتي، لغة الحكي، لغتي الآن تكتبني، تملأني بسواد كلماتها الذاهبة بي إلى المقامات العليا، تمنحني عشقي المرتجى. " " كأنّ الله جلت قدرته زوى لي ارض الشيشان او كاني حللت بارض الشيشان اسري بروحي ليلا او نهارا خارج مادة الجسد الفاني. بعيدا عني رايت بام روحي عجبا. قلت وقتها هي فراسة المؤمن الرائي بنور الله خلف الحجب او شطحات الروح حين تعلقها بالمقامات العليا. بالذات العليا. حركات الروح الظماى الى فيض نوره ونفحات الغيب " ص 7.
هكذا تبدو لنا شخصيّة البطل (الأستاذ)، شخصيّة تعيش عشقا روحيّا، وصفاء ذهنيّا، بعيدا عن الوجود المادي. شخصيّة تعشق النظر إلى ما خلف الحجب، عشقا صوفيّا. وتسعى الى المكاشفة والبوح في حضرة النور الاسر. والبحث عن " مفاتيح للقبض: السالك. المسافر المقام المراد المريد الشطح القبض البسط التواجد الوجد الوجود الجلال الجمال العشق جمع الجمع البقاء الفناء الحضور الصحو الذوق السُّكر سرد الروح لما لا يسرده الجسد " ص 10.
هايدي اسم غير عربي. من اصل اسباني او الماني، وهو من الاسماء المميزة للبنات. ويعني الفتاة ذات الصفات المحمودة والملامح الجميلة وهي الفتاة في اللغة الاسبانية ذات القلب الحنون والهدوء. فتاة رقيقة تحب الخير. بارة بوالديها. طيبة القلب. طموحة. تحب العمل.متفوقة في دراستها. تسعى الى النجاح. مهتمة بمظهرها واناقتها التي تبهر جميع من حولها. مثقفة تحب القراءة والاطلاع كثيرا. لبقة في حديثها.
هايدي، وهي شخصيّة (أنمي)، اختارها الكاتب لأداء دور البطولة في الرواية. وهي شخصيّة من بنات الخيال، ولدت في الثقافة الأوربيّة. ماذا أراد الكاتب من وراء هذا الاسم (الأنمي) هايدي ؟ هي المعادل لشخصية طالبة الشريعة، التي أحبّها البطل (الأستاذ). هما وجهان وجسدان لروح واحدة، وعشق واحد، وهيام، هما الحضور والمسلك والقطب والوله وعين اليقين.
في النص تعدّد الأبطال، على غير العادة في الرواية العربيّة الحديثة، المقتبسة فنيّا عن الرواية الغربيّة في أروبا وأمريكا بجناحيها الشمالي الأنغلوفوني والجنوبي اللاتيني. وهذه ظاهرة جديدة في الرواية المعاصرة عند بعض كتاب الرواية. فقد تخلّى بعض الروائيين عن صورة البطل الفرد، والشخصيّة الرئيسة الوحيدة في المعمار الروائي، والذي تخدمه الشخصيات الثانويّة الناميّة أو الجاهزة أو الحاسمة، ليصبح بمثابة النهر الذي تصب فيه الروافد كلّها أو بدر الرواية في الليلة الظلماء.
ففي رواية ' بياض اليقين " للروائي د.عبد القادر عميش. ثلاث أبطال أو شخصيات رئيسة، تتحرّك بشكل متواز عبر جغرافيّة المكان المطلق وصيرورة الزمان السرمدي؛ فالتشكيل الزمكاني في هذه الرواية منفتحة على فضاءات واسعة ومتباينة إلى درجة التناقض والتصادم. وهكذا يحلّق بنا السارد (الأستاذ) في عوالم صوفيّة هروبا من الواقع المعيش، وطلبا للراحة والطمأنينة النفسيّة التي، غالبا، ما ينشدها المتصوّفة، ويسعون إلى ورودها، والإرواء من منبعها الصافي.
شخصية فنيّة، خياليّة، تعبّر عن المخبال الصوفي، هي المرأة الشيشانيّة الشهيدة في غروزني، التي أطلق عليها الروائي اسما فنيّا (أنميّا) (هايدي). " منذ البدء أسمّيك يا هايدي حمامة الغسق وأرتّل من أجلك المعوذتين " ص 9.
و شخصيّة الطالبة الجامعيّة الواقعيّة الموازيّة لـ (هايدي). طالبة الشريعة في جامعة قسنطينة الاسلامية.
كان لجوء البطل (الاستاذ) الى هاتفه المحمول (الفضاء الأزرق) نوعا من الهروب من الواقع والتطهر والترحال في العوالم الصوفية البيضاء كبياض الثلج. كلما ضاقت به سبل الحياة المادية. "... افتح عالمي الإشراقي. فكلما ضاق علي العالم من حولي لجأت الى مقاماتي أو مواقعي العجيبة " ص 88.
فالبطل (الأستاذ) الصوفي يحاول أن يتسامى بوساطة اللجوء إلى مقاماته، والاستعانة بالمواقع العجيبة (في نظر غير الصوفي)، العاديّة في نظر الصوفي، لولوج عالمه الإشراقي. وهذا يعني أن بطل الرواية (الأستاذ)، يشعر بأنّه ميّت (غائب)، فإذا تجاوز الواقع الفعلي للأشياء استيقظ. وهي مقولة تتماهى مع قول الصوفيين واعتقادهم، (بأنّ الإنسان نائم، فإذا مات استيقظ). والنوم هنا هو الموت وغياب الروح مع وجود الجسد، واليقظة معناها حضور الروح في حالة غياب الجسد. وهي ثنائيّة عجيبة، لكنّها ليست غريبة عن العقل المفكّر، ولا عن النفس المطمئنّة. فالبطل الصوفي في رواية د. عبد القادر عميش، ينشد الحريّة الروحيّة، أيّ تخليص المعنى المطلق من قيود اللفظ. وهو يدين ويبغض استبداد اللامعقول بالمعقول، والمحدود بالمطلق. " أيها الدرويش الفاني آسرك عشق الذات العليا. أفناك النور الآسر. فاخرج من الظلمة تعيش.. أيتها الروح الطيبة في غيابات الثلج، السابحة في عالم البياض، بياض اليقين، تجلي قليلا. ارفعي روحي إلى مقاماتها المرتجاة " ص 61.
رمزيّة الثلج في النص:
رجل الثلج في الرواية، يمثّل (يرمز) إلى الصفاء والنقاء، هو رجل الخلاص، هذه لوحة صوفيّة شفّافة ومدهشة. حين يلتقي الثلج (البياض) مع نور الشمس (اليقين). فيحدث تفاعلهما ذوبان صامت في قلب الثرى، كما تذوب روح الصوفي في بوتقة التوكّل الذي يساكن اليقين بوساطة الكشف المدرك بالمشاهدة، دون حاجة إلى الدليل المادي والاستدلال العقلي.
هذا الرجل (التمثال) هو ظلّ البطل الأستاذ الظاهر. يودّ البطل أن يذوب في قلب اليقين، كما يذوب الثلج في عين الشمس. والذوبان هنا، لا يعني التيه والضياع والفناء. لأنّ لا شيء في الطبيعة يذهب سدى، فالطبيعة تحتضن نفسها، ومعادلة وجودها هو التحوّل. ألا ترى، كيف تتحوّل الأجسام الدمويّة، السائرة على قدمين، أو على أربع قوائم، أو الزاحفة أو الطائرة أو السابحة، إلى رميم وتراب. وكيف تتحوّل الأجسام النباتيّة الصلبة بكل أصنافها إلى تراب أيضا. ومن هذا المنطلق، يسعى البطل (الأستاذ) في هذه الرواية الفناء الجسدي، والخلود الروحي. ظنّا منه أنّ الحياة، التي وُهِبها في الدنيا، ما هي إلأ ضرب من الوهم، بل هي وجود جسمانيّ، لا يحقّق للروح مبتغاها المرتجى. " وحدي بلا يقين كأني غيري وأحيانا غيري في جسدي الفاني... لما ألاحق شبحا ميتا ؟ شبحا جميلا...ألاحق شبحا من ثلج.. حلما ميّتا.. وهما أوهن جسدي... ضيّع عقلي..بدّد قصدي.. أيّها الدرويش الفاني ضيعك الفناء في حضرة الضوء... على مرفإ عمري أقف أشيّع بعين اليقين سحابة الظنّ.. مزن الوهم وأنادي في الريح:
يا مجري السحاب ومنزل الثلج ردّ عليّ روحي، نقّني من وسوسة الشيطان كما ينقّى الثوب الأبيض من الدنس بالماء والثلج والبرد، خلّصني من جنوني، من وهمي... أنا الراوي المتيّم ببطلته، صنعها وهمي، وصدّقها عقلي، ثم ضاع بين أحداث الحكاية، اختلط الحاكي بالمحكي له، مثلي مثل هايدي ولدت بين الكلمات وماتت بين متاهات الحكي في ليلة ثلجية وهي تضحك. " ص 30.
غالبا ما يعتمد كتاب الأدب الصوفي (الشعر والرواية) على " الشفرة التي تقلب موازين العادي المـألوف لتصـوغ نمطـا جديـدا لـيس علـى شـاكلة الموروث المتداول، وهذه الشفرة اللغوية هي المولد الأساس للذة النصية على حـد تعبـير رولان بارت. " (1)
معالم اللغة الصوفيّة في النص:
القاريء المتأمل في أسلوب رواية " بياض اليقين " للروائي الدكتور عبد القادر عميش، يقف على مدى اعتناء الروائي بعنصر اللغة (اللسان) في غمرة السرد والحوار. لغة، اقل ما يقال عنها، أنّها لغة الحكي في مجالس المقامات الصوفيّة والتكايا العثمانية والخانقاوات المملوكية، فما أشبه لغة الروائي بلغة بطله، كما جاء على لسانه: " وأنا وحدي أتبع لغتي، لغة الحكي، لغتي الآن تكتبني، تملأني بسواد كلماتها الذاهبة بي إلى المقامات العليا، تمنحني عشقي المرتجى.." ص 25.
و قد غرف من المعجم الصوفي ما شاء له أن يغرف من مصطلحات الصوفيّة لإضفاء الجوّ الروحاني والنوراني على عنصري السرد والحوار، بعيدا عن ماديّة الجسد. وكأنّي به يقرّر، من منطلق صوفي وأفق روحاني، أنّ الجسد الفاني ما هو إلاّ مطيّة لحمل الروح في الدنيا حينا من الدهر، ثم تلبث أن تغادره نحو عالم اليقين والخلود.
" إن اللغـة الصـوفية هـي تلـك اللغـة الـتي تعتمـد الإيحـاء والرمـز وسـيلتين للتبليـغ، حيـث لا تـتم قـراءة هـذه اللغـة قـراءة سـطحية بقـدر مـا تسـتدعي هـذه اللغـة خلفيـات ثقافية خاصة تمكن المتلقي من فهم رسالتها المتضمنة داخل الخطاب. " (2)
" فاللغـــة هـــي عنصـــر فعـــال في التجربـــة الصـــوفية، إذ تتعـــالى اللغـــة الصـــوفية في دلالات معتمـدة علـى المجاز، وعلـى السـياقات الرؤيويـة، وعلـى فعاليـة الرمـز باعتبـاره أرقى وسيلة للتعبير لدى الصوفية " (3)..
" إن اللغة هنا مجازية لا تحمـل دلالـة واحـدة، فهـي منفتحـة علـى بعـد صـوفي كمـا يمكنهـا أن تعـبر عـن حالـة نفسـية عاديـة " (4) (لغة إشراقيّة)
(اليقين، الثلج، البياض، الحلم، الحاسوب، الموت، الفناء، الحب، العشق...).
الانزياح الدلالي في الرواية:
غالبا ما يعتمد الأديب الصوفي (الشاعر والروائي)، على الانزياح الدلالي، بغرض إحداث رجّة نفسيّة وزلزلة عاطفيّة في حواس القاريء أو المتلقّي. يعمد الروائي الصوفي إلى إطلاق العنان لمشاعره وأحاسيسه لتجاوز الواقع المعيش، وطيّ حواجز الزمان والمكان. فيصبح (سفره) و(هيامه) و(عشقه) أشبه بالحلم المتخيّل في برزح بين الوهم والحقيقة، أو بين المشاهدة الصوفيّة والتوهّم..
الانزياح الدلاليّ، ويكون في البلاغة أو الصور أو التّشبيه أو المجاز، وهو من الأنواع المؤثّرة تأثيرًا كبيرًا في القراء.
ان تكتب نصا صوفيا، لا يعني توظيف المصطلحات الصوفيّة التراثيّة المقدّسة أو الرموز الدينيّة، التي وظّفها الشعراء والفلاسفة (ابن عربي، أبو حامد الغزالي، رابعة العدويّة، الحلاّج، ابن طفيل، ابن حزم، ابن الفارض، عفيف الدين التلمساني..). بل لا بد أن يعيش الأديب وجدا صوفيّا، لا عن طريق الانتحال أو التقمّص أو التصنّع. فالتجربة الصوفيّة، تجربة ذاتيّة، يكتنفها الصدق والمعاناة والرؤية والمماثلة والتضاد.
و قد ظهر الانزياح الدلالي واضحا في هذه الرواية، حين غرف الروائي د. عبد القادر عميش من بحر المعجم اللغوي الصوفي، إيمانا منه، أنّ اللغة أداة رئيسة في بناء السرديّات الصوفيّة وحواراتها. " وأنا وحدي اتبع لغتي، لغة الحكي، لغتي الآن تكتبني، تملأني بسواد كلماتها الذاهبة بي إلى المقامات العليا، تمنحني عشقي المرتجى، تمنحني وجه هايدي الذاهبة الى مقامها " ص 25.
لقد تبوّأت اللغة الصوفيّة في رواية " بياض اليقين " للروائي عبد القادر عميش، مكانة السبق في صياغة الأسلوب الروائي، الذي طغى عليه عنصرا السرد والوصف. وكان الهدف – فيما بدا لي – إضفاء جوّ روحانيّ على سيرورة الأحداث، لمنح بطل الرواية والشخصيات الأخرى، الجنسيّة الصوفيّة. وكأنّي بالروائي، قد سعى في حشد كمّ هائل من المصطلحات الصوفيّة بغرض تحقيق غايته المثلى، ألا وهي، إخراج نص سرديّ صوفيّ مثاليّ. لقد اجتهد الروائي عبد القادر عميش في ذلك، وغرف من بحر الصوفيّة ما شاء له من المصطلحات الصوفيّة والألفاظ المتخمة بالرموز والدلالات، دون تحفّظ. لكنّه، ربّما نسيّ أو تناسى، أنّ غايته تلك ستورّطه في الغموض السردي، لأنّه سيواجه قرّاء لا باع لهم ولا ناقة لهم ولا جمل في عالم الصوفيين. لا أقصد، القراء المحدودي الثقافة، والكسالى النائمين الذي يتخذون الأدب مروحة – كما قال عباس محمود العقاد -، ولا أنصاف المثقفين،العاجزون عن التفريق بين الغث والسمين. إنّما أقصد القراء الجادين، والنقاد المجتهدين. ومذهب الصوفية في الغموض معروف، فهم يستعملون الألفاظ المعقّدة والمعاني المغلقة. وكأنّهم يكتبون لخاصة الخاصة من القراء.
كقول المتنبي: أفيكم فتي حيٌّ يخبرني عنِّي ** بما شربت مشروبة الروح من ذهني
و قول شرف الدين بن الفارض:
حديثي قديم في هواها وما له ** كما علمت بعد وليس له قبل
ومن كلام ابن عربي:
يا من يراني ولا أراه ** كم ذا أراه ولا يراني
" إن الكاتب لا يحسن به دائمًا أن يخاطب جميع الناس، فللوضوح مقامات، وللغموض مقامات، وكانت معاني الصوفية أدق من أن ترسل إلى مختلف الجماهير في ألفاظ واضحة المدلول. (5) (موقع هنداوي)
في رواية بياض اليقين للروائي الدكتور عبد القادر عميش، فلسفة المزج بين المذهب الواقعي والمعطى الصوفيّ ؛ واقعيّة المكان وفضاءاته المحسوسة، المحدودة (قسنطينة، غروزني، دمشق، الشلف، فضاء الجامعة) وصوفيّة الزمان المطلق. فقد كانت غاية الروائي عبد القادر عميش – فيما أرى - تأسيس نص صوفيّ وبناءه وتأثيثه وإخراجه في صورة تكتنفها عوالم التحلّي والتجلّي. وهذه غاية الروائي الصوفي فهـو يسعى بكل أدواته اللغويّة والبلاغيّة إلى مواجهـة ذاتـه قصـد السـمو بهـا إلى عالم المثل. { باعتبارهــا تحمــل مكونــات أساسـية لتحقيـق هـذا الحلـم، لكنـه لا ينطلـق مـن شـيء يحـيط بـه بقـدر مـا ينطلـق مـن داخله ليصوغ إحساسه الفياض تجاه ذات عليا، عبر خطـاب يحمـل صـفة التجريـد لأنـه يتعامل مع شيء مطلق لا يمكن رؤيته عيانا.} * ص 9
قد يتبادر إلى أذهان بعض القرّاء والنقاد، أنّ الرواية الصوفيّة، لا علاقة لها بالواقع المعيش، مقطوعة الصلة بالحياة الإنسانيّة الأرضيّة، الدنيويّة، الماديّة. فهي رواية تتعلّق بحالة النفس في تجليّاتها وإشراقاتها النورانيّة، ومشاهداتها وكشوفاتها الروحيّة، لا شأن لها بالجسد وإفرازات جوارحه، وسلوكاته وشهواته وقوته أو ضعفه. فالجسد ما هو إلاّ كتلة من الطين في أشكال وصوّر معيّنة، تحرّكه النفس إلى أجل مسمى، وتذهب به مذاهب شتّى، فإذا رجعت إلى ربّها، حال الجسد إلى مأدبة للدود وعاد إلى أصله الترابي. أمّا مدار الحياة، فهو النفس، بها يولد الجسد ويحيا، وبدونها يتلاشى عن الأنظار ويترب.
في رواية " بياض اليقين " للروائي، د. عبد القادر عميش. صوفيّة واقعيّة، وواقعيّة صوفيّة. الأمر ليس تلاعبا بالألفاظ، بل هي الحقيقة المستخلصة – حسب رأيي – من متن الرواية. فقد عمد الروائي إلى مزج الحدث الصوفي بالحدث الواقعيّ، لإضفاء جوّ من الروحانيّة على البنية السرديّة الواقعيّة، والتعريج بالواقع المنظور في عوالم الكشوفات الميتاصوفيّة المطلقة. فكانت شخصيّات الرواية، تتحرّك في أماكن جغرافيّة حقيقيّة ومعلومة (الشلف، مدينة قسنطينة وجامعتها الإسلاميّة، عاصمة الشيشان غروزني، دمشق، عاصمة سوريا، حلب وقلعتها...)،
لا يمكن اعتبار الروائي،الذي يكتب الرواية الصوفيّة، بالضرورة، صوفيّا، معتنقا المذهب الصوفي، كما كان عرفه أئمّة الصوفيّة قديما (الحلاّج، محي الدين ابن عربي رابعة العدويّة، جلال الدين الرومي، أبو حامد الغزالي)، لكنّه معتنق لأفكار صوفيّة بدوافع نفسيّة أو اجتماعيّة أو فنيّة أو فلسفيّة أو دينيّة. فالطريقة الصوفيّة في عرف العامة، وفي نظر بعض الخاصة، سليلة الدين الإسلامي، شبيهة في ظاهرها بالأسلوب الكهنوتي والكنسي والرهباني عند اليهود والنصارى، مختلفة عنه في الآليات والغاية.
يلجأ الروائي، كاتب الرواية الصوفيّة - عادة - إلى توظيف الانحياز الدلالي والرموز، وخاصة الطبيعيّة منها، والاختفاء خلفها بغرض تسريب مواقفه وأفكاره السياسيّة والاجتماعيّة والأخلاقيّة. لتجنّب مقص الرقيب السلطوي وقمعه واستبداده. ويسعى من خلال تلك الرموز إلى ولوج عوالم المشاهدة والمكاشفة واليقين والأنس وغيرها من عوالم الصوفيّة.
لقد عرّت رواية " بياض اليقين "، للروائي د. عبد القادر عميش، في متنها وبين سطورها، عورات العالم العربي والإسلامي وأزاحت اللثام عن أزمات المواطن العربي، الاستبداد السياسي، الأسلوب العسكري في إدارة المجتمع المدني، أو عسكرة المجتمع المدني، قمع الحريّات الفرديّة ّو الجماعيّة، الجهل المستشرى، التخلّف، الإرهاب والعنف.
و لعل أم الأزمات – على منوال أم المعارك – في البلاد العربيّة، بجناحيها ؛ المشرقي والمغاربي، هي أزمة الجهل التي كبّلت العقل العربي، وسفّهت الفكر النيّر، وفتحت أبواب الجدل المبني على الترّهات والخرافات والظنون والخلافات المذهبيّة، وعلى النبش في قمامة التاريخ النتن.
لقد لبست رواية " بياض اليقين " ثوبا صوفيّا، من خلال الاتّكاء على الأساليب المجازيّة المتنوّعة وتوظيف الرموز الغنيّة والعميقة فكريا وجماليا، مثل الرمز الطبيعيّ (الثلج، المطر، الليل، النهار، الريح، الأرض....)، لكن ّ بالمقابل، لم تكن وظيفة الرمز في الرواية غاية مثلى، بل أخذت أبعادا سياسيّة واجتماعيّة وفلسفيّة. فهاهو البطل (الأستاذ) يسعى إلى تحقيق غايته الصوفيّة، بمواجهة ذاته من أجل عتقها من عالم المحسوسات، والارتقاء بها إلى عالم المثل العليا. وكأنّي به يمتطي حلما يتمثّل الفلسفة المثاليّة الأفلاطونيّة للعيش في المدينة الفاضلة.
إنّ بطل الرواية يعيش أزمة فكريّة ونفسيّة وروحيّة وعاطفيّة، وهي أزمة تجسّد الحسّ المأساوي والقلق الوجودي للإنسان الصوفي عامّة في مجتمع طغت عليه الفلسفة الماديّة الغربيّة، الدخيلة. ويعيش تناقضا صارخا بينه وبين محيطه، وبين الواقع المعيش والمرئي والرؤى التجريديّة المطلقة التي لا تُرى بالعين المجرّدة إلى درجة الشعور بالاغتراب الروحي، وهو مقيم بين أهله وعشيرته، وفي أحضان وطنه. وقد يفضي به، ذلك، إلى انفصام الشخصيّة ووقوعها في معمعة الصراع النفسي بين الواقع المعيش والمأمول المثالي.
. (بطل الرواية، عاش عشريّة دمويّة قاسيّة في بلاده، وشاهد حروبا فظيعة خارج حدود بلاده عبر شاشات الإعلام، مثل قناة (الجزيرة)، بطل مشتت الأفكار، متوتّر، قلق، عاشق، محبّ، فرح، حزين، مقهور، منتصر، منكسر، يائس، حالم، معذّب، ممزق المشاعر، ضائع بين الدروب، متعلّم، مثقف، عصري (الحاسوب)، أصيل (الأصالة)، واهم...).
و لعلّ تجليّات البطل الصوفي (الأستاذ) في ثنايا الرواية، تعكس محنة تمزّق الإنسان العربي المعاصر روحيّا وفكريا وسياسيّا وإيديولوجيّا.
و هي محنة أفرزتها تراكمات سلبيّة وقاسيّة، ترويها صفحات تاريخيّة سوداء، مليئة بالانكسارات والهزائم والخيبات التي أصابت خير أمّة أخرجت للناس في مقتل. وقد كانت البداية مع حروب الردّة في عهد الخليفة الراشدي أبي بكر الصديق (ض)، ثم تلتها مأساة مقتل عثمان وما أعقبها من فتن في الجزيرة والعراق، والحرب الضروس بين فريقي الإمام علي ومعاويّة وانقسام الأمّة إلى فصائل وطوائف، ثم سقوط بغداد في أيدي التتار والمغول وسقوط الأندلس واحتلال أوربا الصليبيّة للبلاد العربيّة، وأخيرا القدس الشريف في أيدي العصابات الصهيونيّة، وغيرها من سلسلة المآسي المتمطيّة على النفس العربيّة كأمواج البحار وسلاسل الجبال.
خاتمة:
و مهما قيل عن رواية بياض اليقين للدكتور الروائي عبد القادر عميش، من مدح أو قدح، فهي – في رأيي - تجربة رائدة، تضاف إلى تجارب أخرى في العالمين العربي والإسلامي. وهي، أيضا، إضافة متميّزة للرواية العربيّة في المشهد الجزائري والعربي والإسلامي.
***
بقلم الناقد والروائي: علي فضيل العربي – الجزائر
..........................
هامش:
(1) الأستاذ محمد كعوان. اللغة الصوفية بين الدلالة المعجمية والدلالة السياقية)
(2) الأستاذ محمد كعوان. اللغة الصوفية بين الدلالة المعجمية والدلالة السياقية)
(3) المرجع السابق نفسه.
(4) المرجع السابق نفسه.
(5) موقع هنداوي الالكتروني (النت).