قراءات نقدية
ايرفين دي يالوم ورقصة الحياة الأخيرة
"كلما عشت حياتك بشكل كامل كلما كان موتك أقل مأساوية"
ايرفين دي يالوم.
العام 1973 سيشهد حدثا مهما في مجال علم النفس، حيث اصدرت المطابع كتاب " إنكار الموت " لعالم النفس الامريكي إرنست بيكر – ترجمة سارة ازهر واحمد عزيز -، وسرعان ما يحصل الكتاب على جائزة بوليترز، لكن المثير ان الجائزة لم يستلمها المؤلف الذي توفي قبل اعلان الجائزة بشهرين.. والمثير ايضا ان " إرنست بيكر " ظل طوال عمله يخبرنا ان " الدافع الحقيقي خلف سلوك الإنسان هو الخوف من الموت " اثناء تاليفه لكتابه " إنكار الموت " كان بيكر يعاني من سرطان القولون، كان في عمر التاسعة والأربعين، والمرض الذي اصيب به لا أمل في الشفاء منه. تم نقله للمستشفى حتى يقضي أيامه الأخيرة. كان يشعر بالحزن على هذا المواجهة المبكرة للموت الذي سعى الى إنكاره.ولهذا قرر ان يقدم كتابا وصفه بانه أنضج ما قدمه، يريح من خلاله الظلال الثقيلة التي تنعكس على حياته والقلق الوجودي الذي يعيشه والعدم التي يحيط به وبنا جميعا والذي اشار اليها كيركغارد قبل ما يقارب المئتين عام عندما قال ان المشلكة ليست هى" الموت"، بل المشكلة الحقة هى" أني أنا أموت"..ولهذا اصر بيكر وهو يجد الموت يزحف باتجاهه ان يحلل شخصية الإنسان الهارب من فكرة الموت، من اجل ان يمنح هذا الإنسان الفرصة لمواجهة هذه الحقيقة، أو ليرى كيف لعبت به فكرة الموت ودفعته ليشكل العالم الاجتماعي والثقافي الذي منحه الإحساس بالقيمة وساعده لكي ينسى قليلا مصيره المحتوم. لكن ماذا على الانسان ان يفعل لكي يواجه هذا المصير المحتوم ؟ يحيلنا بيكر الى كيركغارد الذي عاش ممارسة فكرية صعبة وخطيرة لكي يصل إلى فهم حقيقة الإنسان من دون أن يكذب على نفسه. هل يطلب منا إرنست بيكر ان نواجه الموت وجها لوجه؟، انه ينتظره بالخارج وسيطرق الباب عليه في أية لحظة، يحيلنا في " إنكار الموت " الى آدم وقصة خروجه من الجنة، حيث يرى بيكر إن اعتراف آدم بالخطيئة واكله من شجرة المعرفة، هذه الافعال احتوت على حقيقة الموت، حيث إن قمة معرفة الذات هي إدراك الإنسان لحتمية زوال كل شيء.ولهذا يؤكد بيكر ان الإنسان هو الكائن الوحيد بين الكائنات الحية الذي يعرف جيدا أنه سيموت، وبسبب هذه المعرفة تطور لديه الوعي والضمير، ولذلك اضطر الإنسان على مدى الأجيال للتعلم واكتساب الحكمة حتى يتمكن من تجنب الموت والبقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة.
لكن هنا تواجهنا اعمق مشكلة وجودية حيث يتساءل الانسان: لماذا أولد وأتعلم واعمل، ثم بعد كل هذا يكون مصيري الموت؟. عند هذه اللحظة تنشأ عند الانسان الرغبة في الاستسلام للحياة، فبرغم الموت والعدم، فان الانسان ما يزال يعمل ويتعلم ويتألم ويتأمل ويكافح من اجل تغيير واقعه، وكان الموت قد تحول الى خرافة، لهذا يرى بيكر ان الموت عندما يقترب منا يحدث في دواخلنا رعب رهيب، حيث تستيقظ تلك المنطقة العميقة داخل النفس البشرية التي حاولنا ان نتجاهلها من خلال مشاغل الحياة اليومية، ومثلما حاول فرويد في كتابه الشهير – ثلاث مقالات في نظرية الجنس " – ترجمة سامي محمد علي – ان يتعامل مع مشاكلنا على انها مشاكل جنسية نشأت من رفضنا لاجسادنا وكبتنا لرغباتنا. فان إرنست بيكر يطور تلك النظرية ليخبرنا ان كل ما فعله فرويد هو محاولة لانكار حقيقة الموت.
عام 2018 اكتشف الاطباء اصابة الباحثة في علم النفس والجنس مارلين يالوم بسرطان في النخاع، وستقرر مع زوجها عالم النفس الوجودي إيرفين دي يالوم تاليف كتاب بعنوان " مسألة موت وحياة " – ترجمة خالد الجبيلي، حيث يبدا الاثنان في كيفية العيش من دون ندم، برغم ان الموت يتربص بالزوجة.
كان هدف الكتاب أن تموت مارلين موتا جيدا، وان يتمكن إيرفين العيش بدونها. في الاشهر الاخيرة من حياة مارلين حاول الزوجان ان ينظرا الى الوراء لسنوات قاربت الـ " 65 " عاما من زواج بهيج، ونجد الزوج يشعر بالقلق حيال فقدان "أهم شخص في حياتي "، فهو يخشى أن يضيع الكثير من ماضيه
عالم النفس الذي كرس حياته لمعاجة المرضى وكشف وساوسهم وخوفهم، يجد نفسه لأول مرة في حياته في مواجهة "حتمية الموت" ولهذا يتساءل مع زوجته: "كيف يمكننا أن نترك هذا العالم برشاقة للجيل القادم؟".
يتذكر إيرفين ذلك الصبي البالغ من العمر خمسة عشر عاما وهو يقع في حب فتاة في عمره. هذا الرجل يبلغ الآن 91 عاما ؛ كانت مارلين تبلغ من العمر 88 عاما عندما رحلت عن عام 2019. كانت مارلين هي التي اقترحت على زوجها أن يقوما بكتابة كتاب يوثق وفاتها من منظور الزوجين اللذين كانا معا سعداء لأكثر من 60 عاما، ولهذا ارادت مارلين من خلال الكتاب ان يكون لديها ما تقدمه "للأزواج الآخرين من أفراد عائلتها الذين ربما يواجهون مرضا مميتا". فهي منذ ان علمت باصابتها بالسرطان اخذت تتبع نصيحة نيتشه "الموت في الوقت المناسب".
يقدم لنا كتاب " مسألة موت وحياة " دروسا في كيفية التعامل مع تقدمنا في السن والذي يجلب منظورا جديدًا لاشياء مثل الحب والمرض والموت. يكتب كل من إرفين ومارلين فصولا متتالية يستكشفان فيها مشاعرهما، وكيف يواجه كل منهما مسألة فقدان شريك حياته الى الابد ولأن مارلين لا تملك وقتا طويلاً لتعيش تخطط لما يجب أن تفعله بممتلكاتها، وكتبها، وكيف تقول وداعا للعائلة والأصدقاء. من خلال القيام بذلك، تقوم بتقييم ما هو مهم بالنسبة لها، وما الذي يمنحها الفرح، وما الذي يمكنها تحقيقه بين مرحلة المرض وانتظار شبح الموت.
تظهر مارلين كشخص لطالما عرف كيف يعيش والآن تريد ان تعرف كيف يجب ان تموت.تحب مارلين إيرفين بعمق، وهي في سن الثامنة والثمانين من عمرها سعيدة بالحياة التي عاشتها، هناك شعور حقيقي بأنها وان تخلت عنها لكنها تشعر بالثراء مما حققته، وما ستتركه من ارث الحب لزوجها وعائلتها وأصدقائها.في العشرين من تشرين الثاني عام 2019 ينشر يالوم خبر نعي زوجته التي توفيت في ساعة مبكرة من الصباح.
بعد الكتابة في الطب النفسي، يجرب ان يُدخل التحليل النفسي في صلب الرواية، كان يريد ان يتفوق على سيجموند فرويد الذي فشل في بداية شبابه ان يصبح روائيا، فوجد ضالته عند دستويفيسكي وراح يعطي نصائح لفرجينيا وولف، ويسخر من الصفحات المملة في " يوليسيس " جيميس جويس، ويفضل عليه عبقرية مارسيل بروست. إرفين د. يالوم المولود في في الثالث عشر من حزيران عام 1931، في واشنطن لوالدين هاجرا من روسيا، أفتتح الأب بقالة صغيرة، فوق الشقة الصغيرة التي سكنتها العائلة، لم يحب والداه الكتب، وكان اهتمام ابنهما الصغير بالذهاب على دراجته الى المكتبة العامة يثير استغرابهما:" كانت القراءة ملجأ لي، اذهب الى المكتبة مرتين في الأسبوع، لامارس هواية تخزين الإمدادات "
يجد في الروايات ضالته، عالم من الخيال يحاول ان ينسج منه عالما بديلا يتحول شيئا فشيئا الى مصدر إلهام وحكمة: " في وقت مبكر من العمر طورت الفكرة - التي لم أتخلى عنها أبداً - أن كتابة الرواية هي أفضل شيء يمكن أن يفعله الشخص ".لكنه وجد نفسه مضطرا إلى ان يدرس الطب تلبية لرغبة امه التي كانت تتباهى بان ابنها سيصبح طبيبا مشهورا، يختار الطب النفسي، فهو الاقرب الى الادب، هناك سيتمكن من الاستمرار في قراءة دستويفيسكي وان يجد الجواب على سؤال: اي عقار مهدئ كان يتناوله تولستوي ؟، ويرافق كافكا في متاهة البحث عن المصير.
كتابه الاول " العلاج النفسي الجماعي " صدر عام 1970 فلفت الانظار اليه، حتى ان البعض وضع مقارنات بينه وبين فرويد، باع الكتاب اكثر من مليون نسخة وترجم الى العديد من اللغات، واصبح من الكتب الاساسية التي تدرس في كليات الطب النفسي،بعدها يصدر كتابه الشهير " معنى الحياة " والذي يحقق نجاحا كبيرا في المبيعات، يقول لمراسل النييويورك تايمز حين يسأله عن سر اقبال القراء على كتبه:" أنها تدين ببعض نجاحها الى عشقي للرواية، وقدرتي على الإستفادة من فن القص. لقد سمعت منذ عشرين عاماً أن الطلاب يقولون لي إن كتبي تقرا كأنها روايات "، يؤمن ان الكتب الجافة – هكذا يسمي المؤلفات العلمية – ستحقق رواجا كبيرا لو ان اصحابها قرأوا بانتباه وصايا فلوبير لكتاب الرواية:" سيعرفون حينها ان في كل كتاب يجب ان تكون هناك قصة تبقي القارئ مشدودا إلى الصفحات ".
تستهويه الفلسفة فيتعمق في قراءة اعمال افلاطون وابيقور، وهيوم ولوك واسبينوزا، وشوبنهاور ونيتشه وسارتر وكامو:" كانوا في الجامعة يقولون لنا ان علم النفس موجود في اعمال فرويد ويونغ، لكن بدا لي ان في الامر خطأ كبيراً، لان الفلاسفة منذ عهد افلاطون وحتى يومنا هذا كانوا يتعاملون مع قضايا ذات علاقة بمجال الطب النفسي".
في أوائل التسعينيات يقرر نشر روايته " عندما بكى نيتشه – صدرت عام 1992- صدرت ترجمتها العربية عام 2016 للمترجم خالد الجبيلي - قال لزوجته بعد ان قدم الرواية للناشر: "مرحبا بالخيال ".
في رواية " هكذا بكى نيتشه " نجد سالومي تطلب من عالم النفس الشهير جوزف بروير أن يتولى علاج نيتشه الذي يعاني من الكآبة وشعور بالقهر، وتخاف عليه ان ينتحر، وبهذا ستضيع امال الفلسفة بالبقاء طويلا، هكذا تخبر الطبيب عن هواجسها..ومثلما وجد فيها الفيلسوف باول ري ومن بعده نيتشه والشاعر ريلكه ومعهم فرويد نموذجا للجمال الساحر، فان اللقاء الاول الذي يحدث بين الطبيب وسالومي، ينذر بان الطبيب في طريقه ان يصبح تحت رحمة هذا الحضور الانثوي الطاغي، ورغم ان سالومي لا تعود إلى لقاء بروير سوى مرة واحدة، إلا أنها تضع امامه عددا من المفاتيح التي تتعلق بشخصية نيتشه الذي يرفض ان يسلم امره بيد شخص آخر حتى لو كان الطبيب المعالج، فهو يؤمن ان الناس لاترغب " إلا في الهيمنة على الآخرين لزيادة قوتهم. "
في العام 2005 يصدر يالوم روايته الثانية " علاج شوبنهاور" - صدرت بالعربية عام 2018 بترجمة خالد الجبيلي – حيث نجد انفسنا هذه المرة مع المعالج النفسي جوليوس، الذي يعاني من الكابة والاحباط بسبب إصابته بمرض السرطان، فهو يدرك ان الموت صار قريباً منه، وعليه ان يتامل حياته الماضية، وهذا ما يفعله، حيت نجده يتذكر أحد مرضاه المصابين بالإدمان، وهو الطبيب فيليب، الذي تحولت حياته الى جحيم لايطاق بسبب تأثير الإدمان عليه، يقوم جوليوس بالسؤال عنه ويبدأ بالبحث عن اخباره ؟ ليكتشف أن مريضه السابق قد شفي من الادمان، وأصبح استاذا جامعيا يلقي محاضرات في الفلسفة،، وكان الامر بمثابة المفاجأة لجوليوس، حيث أخذ يسأل: كيف يمكن للانسان ان يتعالج من الإدمان؟ و كيف يستأنف حياته بسهولة وبساطة وكأن شيئاً لم يكن؟.
يكتشف جوليوس أن مريضه السابق عالج نفسه بنفسه، من خلال قراءة كتب شوبنهاور، حيث وجد في حياة الفيلسوف الالماني المتشائم تشابهاً كبيراً بمعاناته مع الحياة والمرض، فوالد فيليب انتحر مثلما انتحر والد شوبنهاور، وهو ايضا مثل الفيلسوف العدمي يكره امه و يحب العزلة ويرى في العلاقات الإنسانية مزيدا من الأوجاع، وهوايضا كارها للجنس، الذي يراه مثل السرطان يفسد كل شيء، ويحطم العلاقات الانسانية بين البشر، ويسلب الضمائر شرفها، وهكذا تعلم فيليب من شوبنهاور ضرورة حفظ المسافة بين كل شخص وآخر نفسياً وجسدياً، فسار على تلك التعاليم واعتزل الحياة، وانقطع للتفكير والتأمل، فكان ذلك بمثابة العلاج له من الإدمان، لكنه يقع في إدمان آخر، وهو التعلق بشوبنهاور، وهو الأمر الذي سيعمل الطبيب جوليوس على مساعدته للتخلص منه.
يرى يالوم، أن نظرتنا للعالم، تتشكل في سنوات الطفولة، ثم تتطور وتكتمل، لكنها لا تتبدل من حيث الجوهر، وفي الرواية نجده يتتبع حياة شوبنهاور وعلاقته بوالده ووالدته حيث يرى ان تلك العلاقة هي التي اسهمت تشكيل نظرته التشاؤميه، فقد كان والده قاسيا ً، بينما كانت والدته رقيقه، وكان زواجها بوالده اشبه بالمأساة بالنسبة لها، فهي من طبقة فقيرة تنظر إلى عائلة شوبنهاورالغنية بخوف، وتندم على تركها حياتها البسيطة وحبيبها الاول الذي لم يفارقها لحظة واحدة. في هذا الجو النفسي المتازم تشكلت اراء شوبنهاور عن الحياة.
قال يلوم إنه يقرأ كثيرا في الفلسفة والادب لكي تزداد أفكاره عن الحياة. " نحن فنّانون بالطريقة التي نرى بها العالم ونفسّره ونبنيه. فنّانون كل يوم باللعب، الحديث، المشي، الطعام، والحب. "، وهو يتذكر مقولة أندريه جيد: "إن التاريخ خيال لم يحدث. فالخيال هو التاريخ الذي ربما حدث." وهذا هو بالضبط ما أنتجته يالوم: أكثر من مجرد اجتماع افتراضي لعقول مهمة تاريخياً، " عندما يبكي نيتشه، وعلاج شوبنهاور، و " مشكلة سبينوزا " ان سرد جذاب وواضح لظروف الحياة الواقعية لثلاثة من الفلاسفة الكبار عاشوا حياة غريبة ومثيرة.
***
علي حسين – كاتب
رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية