قراءة في كتاب
سعاد الراعي: قراءة تحليلية تفصيلية لكتاب: عقيدة الصدمة (1)

حين يُصبح الحاضر صورة من الكتاب
* كيف تُستَغل الكوارث لتشكيل عالمنا من جديد؟
في مقدمة كتابها الجريء والمثير للجدل عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث، تفتح الكاتبة الكندية نعومي كلاين نافذة عريضة على ظاهرة معاصرة شديدة التأثير: حيث تُطلّ على القارئ ببوابة فكرية مروّعة، تسرد فيها، لا بل تفضح، كيف استُغلت الكوارث، والحروب، والانهيارات الاقتصادية، لا كأزمات طارئة بل كفرص استثمارية مقصودة لإعادة تشكيل العالم وفق ملامح رأسمالية متوحشة.
تبدأ كلاين بسرد مشاهد من ساحات التعذيب والمختبرات النفسية، موضحةً كيف استُخدمت تقنيات الصدمة النفسية في تفكيك ذات الإنسان، لتُسقط بعدها هذا النموذج على المجتمعات والدول بأكملها. فحين تُصاب دولة بزلزال سياسي أو كارثة طبيعية أو انهيار اقتصادي، لا تُهرع "المنظومة النيوليبرالية" لمدّ يد العون، بل تتربّص بالحدث لتعيد هندسة الاقتصاد والسياسة بما يخدم مصالح الشركات الكبرى والنخب الحاكمة.
تُصاغ صفحات المقدمة بلغة مكثّفة تتداخل فيها الشهادات والتواريخ، لتكشف كيف كانت "عقيدة الصدمة" منهجاً متعمداً وليست سياسة طارئة، بدءاً من انقلاب بينوشيه في تشيلي بدعم أمريكي، إلى إعصار كاترينا في نيو أورلينز، إلى غزو العراق الذي لم يكن فقط استعراضاً عسكرياً، بل تجربة كاملة في "رأسمالية الكوارث".
تكمن أهمية الكتاب في كونه ليس فقط توثيقاً جريئاً لتلك الجرائم الناعمة التي ترتكب باسم الاقتصاد الحر، بل صرخة مدوية ضد تزييف الحقيقة وتدجين الرأي العام عبر بثّ الخوف واستغلال الصدمات. إنه مرآة قاتمة لما يحدث اليوم، حين تُستخدم الأوبئة، الحروب، وأزمات المناخ كأدوات للهيمنة، لا كدعوات للإصلاح أو الصحوة.
الاهداف والرسائل الضمنية لهذا العمل لا تقتصر على التحذير، بل تحث على مقاومة النسيان؛ على نبذ "الصدمة" كوسيلة للتطويع، وعلى إعادة الاعتبار للعدالة الاجتماعية. وفي زمننا الراهن، حيث تتكالب الصدمات وتتقاطع الأزمات، يصبح الوعي الذي تبثه نعومي كلاين ضرورة لا ترفاً، ويغدو الحديث عن "عقيدة الصدمة" مدخلاً لكسر دوائر التزييف والتغريب.
الكتاب ليس فقط تأريخًا ناقدًا لعقود من الليبرالية الجديدة، بل هو تحليل عميق لميكانيزمات السلطة والاقتصاد، وللعلاقة بين العنف والربح، بين التعذيب والمضاربة المالية، وبين الخراب والإعمار التجاري. بأسلوبها الوثائقي المدعوم بالشهادات والوقائع، تفكك كلاين ما تسميه بـ „رأسمالية الكوارث"، وتعرض كيف تحوّلت الصدمة إلى إستراتيجية ممنهجة لإعادة هندسة المجتمعات في اتجاه يخدم نخبة ضيقة ويهمّش الأغلبية.
عقيدة الصدمة هو دعوة للوعي، ولتأمل عميق في المسارات التي رسمها المال والقوة لمصائر الشعوب، وهو كتاب لا يُقرأ فقط لفهم الماضي، بل للتأهب لمستقبلٍ قد يُعاد فيه إنتاج الصدمة بوسائل جديدة.
إنها مقدمة تُشعل الفكر، وتدق ناقوس الإنذار: إن لم نُحصّن وعينا، سنُدار كما تُدار الأسواق... بالصدمات.
القسم الأول
* حيث تتحوّل الكوارث إلى أدوات للهيمنة
في زمن اختلطت فيه الحقيقة بالوهم، وتلاشت فيه الحدود بين الإصلاح والتدمير، ينهض كتاب "عقيدة الصدمة" كمرآة صادمة تعكس وجهاً خفياً من وجوه النيوليبرالية، ذاك الوجه الذي يستغل لحظات الضعف الجماعي، ليس لغرض الشفاء، بل لتوسيع السيطرة وزراعة مصالح نُخب الاقتصاد والسياسة. في القسم الاول، تكشف ناعومي كلاين عن مختبر رهيب للسيطرة، حيث لا تُستخدم الصدمات فقط كعوارض عرضية للأزمات، بل تُصاغ وتُهندس كأدوات ممنهجة لإعادة تشكيل الواقع وفق عقيدة السوق المتوحشة.
*التحليل البنيوي والمعرفي: طبيبان اثنان للصدمة
ينفتح القسم الأول من الكتاب بعنوان "طبيبان اثنان للصدمة"، ويجري تشريحًا فكريًا في غاية الأهمية، إذ تُقدّم كلاين سرداً مزدوجاً يُقارن بين الصدمة الجسدية – كما تظهر في مختبرات التعذيب، وبين الصدمة الاقتصادية – كما تطبقها المؤسسات المالية العالمية والحكومات المتحالفة مع رأس المال العالمي.
في "مختبر التعذيب"، نستعرض تفاصيل مرعبة عن تجارب CIA في خمسينات القرن الماضي، حيث تُعزل الذات الإنسانية عن سياقها الطبيعي، وتُحوَّل إلى جسد قابل للبرمجة بعد تدمير بنيته النفسية. هذه المشاهد لا تُروى من أجل التهويل، بل لخلق ترابط عضوي بين الآلة النفسية للتعذيب، وآليات "العلاج الاقتصادي بالصدمة".
أما في "طبيب الصدمة الآخر"، فتنتقل الكاتبة إلى ميلتون فريدمان ومدرسته الاقتصادية في جامعة شيكاغو. هذا الطبيب لا يستخدم الكهرباء أو الإبر كالأول، بل يُفرغ الاقتصادات من هياكلها، ثم يعيد بناءها وفق مبادئ السوق الحرة المطلقة: خصخصة، رفع الدعم، تحطيم النقابات، وإلغاء أي دور للدولة. هذا "الدواء"، كما يدّعي أنصاره، هو الحل، لكنه في واقع الحال يعيد إنتاج البؤس لصالح قلة منتفعة.
* الرسالة الضمنية: السيطرة باسم الإنقاذ
لا تخفي كلاين نبرتها التحذيرية، لكنها تُخضعها لمنهج تحليلي قائم على المقارنة والتوثيق. تكشف كيف تتحوّل الكوارث – سواء كانت حروبًا، كوارث طبيعية، أو أزمات اقتصادية – إلى فرص ذهبية للشركات الكبرى، تُطلق فيها يدها تحت ذريعة الإصلاح. فحين يُصاب مجتمع ما بزلزال أو بانهيار اقتصادي، لا تكون الاستجابة غالباً إنسانية، بل تُدار وكأنها حملة احتلال اقتصادي عاجلة.
إن العقيدة التي تتبناها المؤسسات النيوليبرالية تقوم على مبدأ أن التغيير الحقيقي لا يحدث إلا حين يكون الناس في حالة صدمة. هذه ليست مصادفة، بل ممارسة متعمدة. في لحظة الغرق، لا يطالب الناس بالديمقراطية، بل بمن ينقذهم... وأي "منقذ" أفضل من السوق الحرة الجاهزة على الدوام؟
* من النص إلى الواقع: حين يُصبح الحاضر صورة من الكتاب
في عالم اليوم، تبرز ملامح "عقيدة الصدمة" بشكل صارخ. تأمل في مشهد ما بعد جائحة كورونا، حيث استُخدمت الأزمة لفرض تغييرات اقتصادية واسعة النطاق، من تراجع الحماية الاجتماعية إلى تضخم ثروات الشركات الرقمية الكبرى. أو تأمل في الحروب الدائرة، من أوكرانيا إلى غزة، حيث تُدمر البنى التحتية بشكل كامل ويُعاد إعمارها في عقود مشبوهة تذهب أرباحها لمن يملكون أدوات الصدمة والبناء معاً.
كما نجد في الحوكمة الرقمية الحديثة – بمزيجها من الرأسمالية المراقِبة وسحق الخصوصية – وجهاً جديداً من وجوه السيطرة الناعمة التي تستند إلى الصدمة النفسية لا الجسدية: الخوف من فقدان الوظيفة، من الحرب، من المرض، من العزلة، كلها أدوات تُستخدم لترسيخ الطاعة الاقتصادية والسياسية.
* بلاغة العنوان وبلاغة الهدف
العنوان ذاته "عقيدة الصدمة" يحمل شحنة دلالية كثيفة. فالعقيدة عادة ترتبط بالإيمان والثبات، لكنها هنا ترتبط بالتقويض والهدم. إن بلاغة النص في الجمع بين ما هو فكري وما هو حسي، بين التجريد الاقتصادي وصور الألم الجسدي، تجعل منه عملاً لا يُقرأ فقط بعين الباحث، بل بقلب الإنسان الذي يشعر بأن العالم يُعاد تشكيله على نحو لا يد له فيه.
كلاين لا تكتب بحثاً اقتصادياً جافاً، بل تؤلف نشيداً احتجاجياً بصوت مثقف شاهِد. نصّها ينضح بالألم، لكنه لا يستسلم. تحاول أن تزعزع يقين القارئ ببراءة السوق، وتدعوه للتفكر في دور السلطة، لا فقط في قاعات الحكم، بل في أعماق الوعي الفردي والاجتماعي.
* أهمية النص في راهنيتنا: بين الوعي والمقاومة
إن تحليل هذا القسم من الكتاب يُبرز أهميته كمصدر أساسي في فهم آليات الهيمنة الاقتصادية والسياسية الحديثة. إنه كتاب ينتمي إلى ما يمكن تسميته "أدب المقاومة الفكرية"، لأنه يُسلّح القارئ بالفهم، ويعيد تعريف مفردات اعتدنا استخدامها ببراءة: "إصلاح"، "إعمار"، "حرية السوق"، ليُظهر أنها في أحيان كثيرة مجرد أقنعة تُرتدى عند وقوع الصدمة.
ولعل أعظم ما في هذا العمل هو قدرته على إيقاظ العقل في زمن التخدير الجمعي. إنه يذكّرنا أن الأزمات لا تقع فقط لأننا ضعفاء، بل لأنها تُخطط أحيانًا، أو على الأقل تُستغل بوحشية حين تقع. وبالتالي، فإن الوعي ليس ترفًا، بل ضرورة وجودية. إن مواجهة الصدمة ليست فقط في تجاوزها، بل في كشف من يزرعها، ولماذا.
أرى ان كتاب عقيدة الصدمةـ وخاصة القسم الذي تناولته ـ يقف كواحد من أمهات النصوص الفكرية التي تسبر غور العلاقة بين ثلاثي، السلطة، الاقتصاد، والخوف. وقراءته اليوم، في عالم تتسارع فيه الأزمات، ليست مجرد فعل ثقافي، بل مقاومة روحية وذهنية ضد اختطاف الوعي. إنّه نداء للانتباه... قبل أن تُغلق نوافذ الوعي، وتُصادر الحقيقة، تحت وطأة الصدمة القادمة.
***
سعاد الراعي
...........................
* كتاب عقيدة الصدمة، ترجمة نادين خوري، الطبعة الثالثة، 2011، يقع الكتاب في 657 صفحة، صادر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر.
سأواصل قراءة وتحليل هذا الكتاب القيم بشكل حلقات وبحسب اجزائه.
ش