قراءة في كتاب
جمال العتّابي: ولا تنس بأن السيدة لايكا تنتظرك في البيت
لو كنت أستطيع أن أروي القصة بالكلمات، لما استعنت بالكاميرا.. انني أفضّل الصور الفوتوغرافية على كل لوحة رسم، مهما كانت رائعة وبديعة.. (المصور الفوتوغرافي يحرر المحتوى الانساني من الأشياء الجامدة وعديمة الروح، انه يضفي الإنسانية على العالم اللإنساني الذي يحيط به).
تلك عبارات لشعراء ومصورين عالميين تصدرت كتاب الشاعر والمترجم فاضل عباس هادي (ولا تنس بأن السيدة لايكا تنتظرك بالبيت) الصادر عن دار (برستوب) في لندن، عام 2010، بعدد من الصفحات تجاوزت الألف بأكثر من مئة صفحة. تضمنت ما يقارب 300 عنواناً، مع شهادة للشاعر عبد الوهاب البياتي، ومقابلات أجراها عبد الحسين الهنداوي. وجاء الإهداء موجهاً إلى أمّه التي ماتت في العراق، وهو يتقلب على فراش من المسامير في بلاد الأوباش، كما جاء في النص، فالكاتب فاضل عباس أصدر عدة كتب، منها (ورّاق فرنسي الهوى) وهي تحمل حنينه الجارف الى فرنسا التي عاش فيها بضع سنوات، رغم اقامته الطويلة في بلاد (الاوباش)، يتحدث بلغتهم، ويترجم عنها، ويقول انها لغة لا تعرف الحياء ولا العواطف الانسانية.
عرفت فاضل عباس هادي لأول مرة من خلال نص شعري نشره في مجلة (الشعر 69)، العدد الثاني، عنوانه:
قدح من الدموع المجففة إلى أوديت
يقول فيه:
أصمتْ، أصمتْ، ما أنت إلا أنت، وماهي إلا هي
الملائكة تمر مسرعة، الملائكة تعدو شاحبة
وفي يد كل واحد منهم باقة من الكرفس الاصطناعي
قدّم هادي نفسه من خلال هذا النص كأحد أبناء عقد قال عنه فاضل العزاوي، انه عقد متميز في تطور الوعي بزمن زاخر بالأحداث التي أنضجت وعي الحداثة الجديد في ستينات القرن الماضي، وشكّل منطلقها الابداعي.
القصيدة ذاتها دعت الشاعر سامي مهدي في كتابه (الموجة الصاخبة) أن يعدّها مثلاً لحركة التجديد عند ذلك الجيل، الذي تأثر بنصوص شعرية، كانت تنشرها مجلتا (شعر) و(حوار)، فيقول: ان منهم من راح يبحث عن مبتغاه من القادرين على القراءة باللغة الانگليزية، ومن هؤلاء من كتب قصائد ميكانيكية، (في اشارة لفاضل العزاوي)، وصرنا نقرأ شعراً يصنع فيه التلاميذ الكرفس الاصطناعي. المفارقة ان فاضل يعتقد، ان جيل الستينات كان هبّة عفوية، لم يكن جيلاً منظماً، أو تجمعاً واعياً.
يشير بوضوح الى موقفه من الحداثة بالقول:
اللغط القائم حول الحداثة سمّم بدني تماماً، لانني ما أزال أقرأ لحسين مردان، ولالياس ابو شبكة، ومارون عبود، أو عمر أبو ريشة، واعتبر السياب شاعراً عظيماً يجب أن لايمسّه الآخرون عمالقة كانوا، أم أقزاماً، الاموات وحدهم الذين يقولون بموت الشعر.
ضمن تلك الأجواء ظهر أسم فاضل كصوت ينتمي لجيله، وهو الشاعر والمترجم، والمثقف، ابن الناصرية التي رحل عنها الى دمشق وبيروت وباريس، ثم لندن، عاش العزلة منذ صباه، كان يذهب الى بغداد ليشتري كتباً رخيصة تباع بالوزن، لانها باللغة الانگليزية، فيجد بينها روايات لكتاب عالميين كبار، وتعرّف من خلالها على أشهر الرسامين في العالم، ومدارسهم واساليبهم في الفن التشكيلي.
يختار فاضل (الفرار) من بلد ينطفئ فيه الحلم، تلوح في سمائه نذر الخوف والموت. والرصاص يطوق أسوار مدينته، بعد أحداث الهور واختطاف صديقه الشاعر خالد الأمين، فيقرر السفر عام 1971، وفي رأسه كابوس أول (حفل) لاعدام وجبة من البشر في ساحة التحرير عام 1969. لتبدأ رحلة العذابات، والخيبات.
انصرف فاضل في اهتماماته الابداعية الى حقل الفوتوغراف، وكتب أول مقالة فيه عام 1987، وكانت مقارنة بين الكاميرات الألمانية، والكاميرات اليابانية، وهو عصر الفوتوغراف الذهبي، قبل استفحال موجة التصوير الرقمي، حيث كانت الكاميرات تجمع بين الوظيفة والجمال، والفلم المصنوع من سائل مستحلب تشكل حبيبات الفضة مادته الأساسية، وأخر مقال في الكتاب يحمل عنوان الكتاب، كتبه عام، 2009 وبين التاريخين اهتمام مكثف في التصوير من ناحيتي النظرية والتطبيقية. وكلا المقالين يشيران الى (المانيا)، المنتجة لكاميرة (لايكا) منذ أكثر من قرن.
من الصعب على اجيال نشأت على كاميرات افلام العصر الذهبي، استساغة أو قبول كاميرات قبيحة الشكل كما يصفها هادي، تشبه الى حدٍ ما رجلاً فقد أحدَ كتفيه، أجيال لا تريد ان تستسلم الى الأرقام والبرامج الاختزالية، أجيال ترى الضوء في الغرفة المظلمة أكثر مما تراه على شاشة كومبيوتر مهما كانت مضيئة. هذا الكتاب لا يؤمن صاحبه بالتطور العلمي والتقني، انه متحيز بطبيعته، يقول عن الموضوعية انها تصلح في أروقة الجامعات.
الا ان فاضل عباس هادي يواجه اشكالية مؤلمة أمام هذا الاجتياح الرقمي، وهو غير قادر أن يوقفه، بل يظل يتساءل: ماذا أفعل بعدتي الفوتوغرافية بما في ذلك جهاز التظهير والطبع، والى متى أحتفظ بهما، ومتى أقبل بالتصوير الرقمي؟؟ المتفائلون يرون ان الطريقة التقليدية ستبقى حية جنباً الى جنب مع الطريقة الجديدة، لقد قيل سابقاً أن الفوتو سيقضي على الرسم، الا ان الرسم ما زال حياً.
تحول عباس هادي نحو الصورة يمثل انعطافة مهمة في البحث عن واسطة بصرية، والكاميرا وسيلته في الحديث والتواصل، لانه لا يستطيع الكلام أصلاً، اذ يعاني بعي في اللسان، وقصور في ايصال الفكرة، لذا يقول: عيوني أكبر من فمي ولساني لا يستطيع أن يلحق بقلبي، الصورة التي أعمل من أجلها هي (ايقونة)، لوحة من مواصفات العمل الكلاسيكي، والتصوير بهجتي وجسر تنهداتي.
عندما قرر فاضل أن يلجم فمه، واستعمل عيونه فقط، كان التصوير المعادل لموقفه من العالم، انه لغة أخرى تأصل في نفسه بعد أن شعر بفشل الحوارات، كما انه الحيلة التي يتّقي بها ضد التطفل، السور الذي يحتمي به، توجهه نحو التصوير جاء بسبب احساسه بعقم الكلام المكتوب. التصوير الفوتوغرافي هو البحث عن الجميل في الحياة، شكلاً ومحتوى، انه يبحث عن بشر من بلور، كما كتب فاضل ذات يوم،
يقول الشاعر عبد الوهاب البياتي: صحبتي اليومية مع فاضل الشاعر في تونس تمخضت عن ألبوم صور، أعتقد انها كانت يمكن أن تكون قصائد، وقد سبقني فاضل بتصويرها قبل كتابتها.
في لقاء مع مجلة عربية، يسأله المحرر، عن معنى الكاميرا، وأين تكون مكانتها بين الشعر والكتابة، فيجيب.:
يقال عن مصور هندي أنه أوصى بأن تدفن الكاميرا معه، تعلقي بالتصوير، لا يقل عن المصور الهندي، التصوير هو مزاولة الشعر بأداة أخرى.
***
د. جمال العتّابي