قراءة في كتاب
مراد غريبي: حول متاهة أمين معلوف.. هل وصل الغرب المنعرج التاريخي الأخير؟
في كتابه الجديد "متاهة الضائعين: الغرب وخصومه" (Le Labyrinthe des égarés : l’occident et ses adversaires) الصادر باللغة الفرنسية عن دار غراسي grasset، والذي يقع في 448 صفحة، وقد اهتم به الإعلام الغربي وخاصة الفرنسي مؤخرا اهتماماً كبيراً، حيث نشرت صحف فرنسية مثل : لوفيغارو (LeFigaro) ولوبوان (Le Point) الصفحات الجيدة منه وسال حبر كثيف عنه خلال الشهر الفارط، كما استضافت المؤلف عدة قنوات حكومية وخاصة فرنسية للحديث عن مضامينه وما بين سطوره..، في هذا الكتاب يقدم السكرتير الدائم الجديد للأكاديمية الفرنسية الروائي اللبناني الأصل أمين معلوف تأملا ً قويًا ومضطربًا حول مستقبل العالم، في نفس الوقت الذي يعكس صورة كاتب بارع درس التاريخ واطلع على دهاليزه وسراديبه.
وفي هذا التوقيت الذي تشهد الحرب بين روسيا وأوكرانيا على التراجع النسبي للغرب، هذه الحرب التي قد تكون فقط الفصل الأول من المواجهة بين الولايات المتحدة والصين، يحلل أمين معلوف. مستندا في كتابه الجديد إلى مصادر هذا الصراع الجديد من خلال استعادة تاريخ ثلاث دول حاول كل منها التشكيك في التفوق العالمي للغرب: اليابان الإمبراطورية، وروسيا السوفييتية، وأخيراً الصين التي تشكل اليوم "المنافس" الرئيسي للقوة العظمى الأمريكية العالمية.
من خلال إعادة النظر في القرنين الماضيين، يسلط معلوف الضوء على الأسباب الجذرية للصراعات الحالية ويحذر من خطر نشوب حرب عالمية ثالثة، قد تكون أكثر تدميرا من الحربين السابقتين. ويدعو أوروبا والولايات المتحدة إلى بناء نظام دولي عادل يمكن للبشرية جمعاء أن تعترف فيه وتعيش في ظله بسلام.
هكذا يُظهر أمين معلوف مرة أخرى موهبته في إقامة الجسور ووجهات النظر الواسعة وإحساسه القوي بالتركيب التاريخي. ومن خلال مثال الدول الأربع، اليابان وروسيا والصين والولايات المتحدة، فإنه يدرس مصير هذه الدول التي أرادت تحدي أوروبا، دون أن تقترح نموذجا بديلا دائما. فما يميز هذه الدول الأربع، بحسب معلوف، هو "الغطرسة" إن صح التعبير، شكل خاص من أشكال الغطرسة.
1. فاليابان شهدت انطلاقة اقتصادية رائعة خلال عصر ميجي في القرن التاسع عشر. حيث تعهدت بتحديث نفسها من خلال الاستلهام من الغرب. والنجاحات التي حققتها ضد الصين في عام 1895 وضد روسيا في عام 1905 جعلتها ترغب في الذهاب إلى أبعد من ذلك، لكن هذا قاد اليابان نحو مغامرات عسكرية مفرطة الطموح (ضد كوريا، وما إلى ذلك) حتى الهجوم على بيرل هاربور ضد الأمريكيين في عام 1941 وما تلاها من ضربتين نوويتين ( الولد الصغير والرجل البدين) واللتان أودتا بأكثر من مائتين ألف من اليابانيين من قبل الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1945م هيروشيما ونكازاكي .
2. حالة الصين تختلف قليلاً منذ إقلاعها في وقت لاحق. لقد كان التوسع الاقتصادي مبهرًا على مدار الثلاثين عامًا الماضية، لكن القادة قد تراجعوا إلى حد ما عن المبادئ الحكيمة لزي دونغ شياو بينغ التي قال فيها: (إن علينا أن نبقى متواضعين، ونحافظ على علاقات جيدة مع الغرب كما هو الحال مع اليابان). ولابد من التقدير بشكل خاص على الفقرات التي تثير تاريخ الصين في الكتاب ضمن بضع صفحات، حيث نرى نسقًا أساسيًا وغير معروف دائمًا في تاريخ العالم: فعندما يتمكن الأمير الصيني زو دي(Zhu di) - الذي يطلق عليه أيضًا يونغل (Yongle )- من السيطرة على البحار حوالي عام 1402، وذلك بفضل الأدميرال العبقري: الأدميرال "تشنغ هي" (tching hi)، الذي ينحدر من عائلة من كبار المسؤولين المسلمين من بخارى.
أيضا تم تحليل حروب الأفيون في الصين في القرن التاسع عشر بشكل ملحوظ، بالإضافة إلى تأثيرها على العلاقات بين الغرب وآسيا.. ودور الإمبراطورة الأرملة الهائلة تسيشي (تسو هاي) التي ترفض الإصلاحات والتي تلعب دورًا في ما عرف بتمرد الملاكمين، تم تقديمه بشكل جيد جدًا أيضًا.
3. أما عن النظام السوفييتي، من جانبه، وبعد أن اجتذب الكثير من الحماس، فقد انتهى به الأمر إلى الظهور بصورة معاكسة. علاوة على ذلك، يوضح معلوف كيف انتشرت الحروب المرتبطة بإفلاس الاتحاد السوفييتي واستمرت، وهكذا عادت الحرب إلى قلب أوروبا.
لقد انفجرت حرب مدمرة في قلب أوروبا، والتي أنعشت الذاكرة بأسوأ صدمة في الماضي؛ تثير تهديدات الكارثة النووية باستمرار، بينما يُعتقد أنها تم رفضها بشكل نهائي؛ يتم عرض مواجهة العمالقة، معارضة الغرب إلى الصين وروسيا ...
من الواضح أن الاضطرابات الرئيسية تحدث، وتؤثر بالفعل على طريقة حياة الناس، وتثير التشكيك في أسس الحضارة المعاصرة. الجميع على دراية بذلك، لكن لم يفكر أحد في هذه الأزمة بالعمق الذي تستحقه.
لعل الشيء الجديد في هذا الكتاب هو إظهار نصيب الدول الغربية من المسؤولية في تطور روسيا منذ عام 1989. وهكذا كان لدعم الولايات المتحدة لأفغانستان، في مواجهة الاتحاد السوفييتي، آثار كارثية لا تزال مستمرة حتى الآن. وبالمثل، فإن انتصار الولايات المتحدة على العراق يتوافق بطريقة أو بأخرى مع مقولة " العسل المسموم" (نوع من النصر الكارثي)، بالتفكير في واجب إعادة بناء البلاد الذي لم يكن من الممكن تحقيقه. إن ما حققوه بشكل رائع في أوروبا في نهاية الحرب مع خطة مارشال، للأسف، لا يمكن تكراره، سواء في حالة روسيا أو أفغانستان أو العراق.
كيف وصلنا إلى هنا؟
عاد أمين معلوف، في هذا الكتاب، إلى أصول هذه المواجهة الجديدة بين الغرب وخصومه، من خلال تتبع رحلة أربع دول عظمى: اليابان الأولى في عصر ميجي، والتي كانت أول دولة في آسيا تتحدى التفوق. والأمم «البيضاء»، التي أبهر تحديثها المتسارع البشرية جمعاء، ولا سيما بلدان الشرق الأخرى، التي حلمت جميعها بتقليدها؛ ثم روسيا السوفييتية، التي شكلت لمدة ثلاثة أرباع قرن من الزمان تهديداً هائلاً للغرب ونظامه وقيمه، قبل أن تنهار؛ ثم الصين، التي تمثل في هذا القرن الحادي والعشرين، بتنميتها الاقتصادية، وثقلها الديموغرافي، وأيديولوجية قادتها، التحدي الرئيسي لتفوق الغرب؛ وأخيراً الولايات المتحدة، التي وقفت في وجه كل من "المتحدين" لثلاثة، والتي أصبحت، على مدار الحروب، المرشد الأعلى للغرب والقوة العالمية العظمى الأولى.
كل هذه القصص شكلت لوحة جدارية تاريخية فريدة تلقي الضوء، كما لم نشهده من قبل، على قضايا الصراعات الحالية، ودوافع أبطالها، والمفارقات الغريبة في عصرنا هذا.
في مطلع كتاب متاهة الضائعين، يقتبس المؤلف هذه الكلمات ذات الصلة للغاية من ويليام فولكنر William FAULKNER (1897-1962)1:
«الماضي لا يموت أبدًا. لا ينبغي عليك حتى أن تعتقد أن هذا قد مضى»2.
“The past is never dead.It’s not even past.”
تبدو هذه التأملات التاريخية لروائي مولع بالثقافة والتاريخ والأدب الكلاسيكي والفن والسياسة العالمية ذو النزعة الانسانية، واضحة تماما عندما يشتعل الشرق الأوسط مرة أخرى من غزة. هذه المحرقة لم تحرك بعد المجتمع الدولي ضد أعداء الحق والسلام الحقيقيين، يتم تطهير ممنهج ضد شعب اعزل حامل لقضية وطنه المغصوب، الولايات المتحدة تدعم إسرائيل كالعمياء. في حين روسيا والصين تدافعان عن طموح الفلسطينيين إلى دولة تستحق الاعتراف. هكذا الغرب ضد بقية العالم، لا شيء جديد في الواجهة.
وعلى العكس تماماً لابد ان لا ينسى المؤلف أن الولايات المتحدة الأمريكية، دولة شابة ولدت من رحم الهجرة الأوروبية، وحققت صعوداً سريعاً إلى درجة أنها أصبحت حاملة لواء الغرب، القوة العظمى العالمية ولم تعرف جغرافيتها لا من قريب ولا من بعيد حروبا طاحنة كالتي تعرفها أروبا وآسيا وافريقيا وهذا بحد ذاته يضع علامة استفهام حول المركزية الغربية وغطرسة رأسها المرشد كما يعبر في كتابه هذا.
المؤلف، في هذا الكتاب مؤرخ، يقفز على نوابض الجغرافيا السياسية الحالية بموهبة الروائي. قام بتخصيص قصة مثيرة بإتباع الأبطال المشهورين، مما تناولته كتب التاريخ المدرسية، حيث أشار إلى أسماء غير معروفة، وركز على روايات المستحكمين في رحلة بلد نحو الهيمنة الإقليمية أو العالمية. هنا يستوعب القارىء بشكل كبير، وبشكل قصصي مشوق أيضًا، ما وراء لعبة الأمم ولا سيما عند اكتشاف أصل كلمة kamikaz الانتحاري واسم قصر طوكيو في باريس.
السكرتير الدائم الجديد للأكاديمية الفرنسية يفكر أكثر فيما يتعلق بالتعاون الدولي. وتأملاته في متاهات التاريخ جعلته يكتب أن الكراهية المنهجية للغرب تؤدي إلى طريق مسدود. بينما على العكس من ذلك، هناك مصلحة متبادلة في التعلم من بعضنا البعض في كل الأحوال.
أمين معلوف يأمل في اتحاد أمجاد الحضارات وازدهارها لتجنب الانهيار البيئي. مفرطا في التنبؤ بالمستقبل بسبب تقلب ميزان القوى العالمية. مضيفا لقد انتهت سياسة الزوارق الحربية، وأفسحوا المجال للحرب الاقتصادية. وقامت اليابان وروسيا بإنزال رايتيهما، مما أفسح المجال أمام المتأهلين الجديدين: الولايات المتحدة والصين، لنفض الغبار عن لقب إمبراطورية، لكن الراهن في شرق البحر الأبيض المتوسط والقواعد المنتشرة في جميع قارات العالم وما يجري على ضفاف البحر الأسود، كلها توحي بأن المتغطرس يقترب من منعطفه التاريخي الأخير.
صحيح الولايات المتحدة والصين، نفضتا الغبار عن لقب المملكة الوسط. لكن الرهانات قائمة، والعالم سوف ينزف، إلا إذا اعترفنا بأننا نضيع بتفضيل المواجهة على حساب التعاون.
بالمختصر، هذا الكتاب آسر لأي شخص مهتم بالجغرافيا السياسية والتاريخ.. مع انتظار ترجمته للغة العربية من اللغة الفرنسية.
في أربعة فصول أمين معلوف يداعب الكلمات والروايات التاريخية والاختلافات الثقافية، يعلق ويبدي رأيه، دون أن يحكم، كثيرا ما يرفض عظماء هذا العالم ظهرا لظهر بين السطور (مع تحيزه المستخفي لأميركا). كلماته مشبعة بالإنسانية والاستبصار الحضاري. وبالتالي جذوره الغربية والشرقية تجعله كاتباً مستنيراً على العكس تماما في علاقته بالغرب مع ادوارد سعيد وفي موقفه من متاهات تاريخ الشرق الأوسط مع برهان الشاوي أو علي بدر أو الطيب الصالح.
إن متاهة أمين معلوف تستبطن تحيزا للغرب لا يقل عن تحيزات العديد من الروائيين العرب، مع فارق أساسي هو أن معلوف يصارح القارئ منذ البداية بتحيزه الثقافي محاولا الاستدلال التاريخي على ذلك، بينما البقية تثقل كاهل القارئ بمراوغات بهلوانية تقلب الباطل حقا وتعقد أكثر أسئلة الهوية والمحمولات الضمنية للخطاب واستشراف المستقبل...
***
ا. مراد غريبي
................................
1- روائي وكاتب قصة قصيرة أمريكي.
2- قداس للراهبة Requiem for a Nun