قراءة في كتاب
زهير ياسين شليبه: صلات قربى بين اعمال فؤاد الطائي والروايات العراقية
الوقائع البغدادية المضيئة وحب العراق
أصدرت مؤخرا دار ميزر للنشر والتوزيع في السويد، كتابَ الصديق العزيز الدكتور فؤاد الطائي: معضلات الشكل والمضمون في الفيلم الروائي العراقي 2023 السويد، مالمو
يُشكر الدكتور ابراهيم ميزر صاحب دار ميزر على نشره كتاب الدكتور فؤاد الطائي!
كذلك تنظّم جمعية الثقافة العراقية في مالمو أمسيةً مكرسةً للفنان فؤاد الطائي،
ستقيمها يوم السبت المصادف 6 أكتوبر.
خيراً فعلت الجمعية الثقافية العراقية بتكريم الفنان فؤاد الطائي، فهو حقّاً جدير به، وقد تعرفتُ إليه في الثمانينات خلال دراسته الدكتوراه في موسكو ووجدته أكاديميا مجتهداً يدقق كل المعلومات وإنسانا رائعاً ساخراً رغم الصعوبات التي كان يلاقيها الأكاديمي العراقي المغترب آنذاك.
نقدم في هذه المناسبة مقالَنا المتواضع عن الفنان الدكتور فؤاد الطائي، الذي كتبته في الثمانينات حيث كنت طالباً أعد أطروحتي عن الروائي الراحل غائب طعمه فرمان لنيل الدكتوراه في معهد الاستشراق في موسكو.
وقد شارك الفنان فؤاد الطائي في معرض الفنانين المغتربين الذي نظّمتُه شخصيًا بالتعاون مع جمعية الفن الحديث في مدينتنا روسكيلده، وأعجب العديد من الحضور بأعماله رغم "عراقيتها" العميقة، التي قد تكون أحياناً عصيّةَ الفهم بالنسبة لغير العراقيين، ومع ذلك كان الاهتمام بها كبيراً.
ينتمي الفنان العراقي فؤاد الطائي الى مدرسة بغداد للفن الحديث. وهو بهذا يحمل في وعيه الجمالي الفني قِيمَ الوسطى وجواد سليم إضافة الى أحاسيسه المرهفة المرتبطة بالموضوعات الشعبية والتراثية والاجتماعية.
ويتميز فؤاد الطائي، هذا الفنان الدؤوب، عن غيره من التشكيليين المهتمين بالموضوعات البغدادية، بتكريسه معارض شخصية كاملة لوقائع بغدادية وموضوعات أخرى مأخوذة من ذكريات طفولته التي أمضاها في مدينة بابل مسقط راسه. ومَن يتعرف الى الدكتور فؤاد الطائي يندهش لهذه المعرفة الدقيقة التي يمتلكها عن تفصيلات الواقع الاجتماعي والجغرافي لمدينة بابل وازقتها وبيوتها القديمة، بل سكانها، وهو يحتفظ بتخطيطات كاملة عن أبنيتها وشوارعها.
ولعل أهم ما جلب انتباهي في أعمال فؤاد الطائي هو اهتمامه بالوقائع البغدادية. وانا لا اعني بذلك انه كرس لوحاته لهذا المنحى رغبةً منه في تلبية حاجات روحية نابعة من داخله فحسب، بل اقصد أيضا أن هذه التفصيلات الاجتماعية والوقائعية تتجسد فيها مفاهيم الناستولجيا أو العودة إلى الماضي والحنين إلى الطفولة، مما يبدو واضحا في اختياره لألوان لوحاته وفضاءاتها. وهي في الحقيقة موقف فلسفي من الحياة بكل أحزانها ومباهجها. فليس الشعور الرومانتكي والرغبة في التعبير عن الحنين الى الوطن هو الهاجس الوحيد الذي يحرك الفنان أثناء خلقه مثل هذا النوع من الابداعات الفنية. ولا يجد المطّلع على الأعمال الروائية العراقية صعوبة في تلمس الخيط الرفيع المشترك بين لوحات الطائي وروايات عراقية تجسدت فيها مناحي العودة الى الجذور العميقة والحنين الى الماضي من خلال وصف الأماكن القديمه مثل الأزقة و"الشناشيل" ولُعب الأطفال وأنواع الطيارات الورقية وغيرها من الموضوعات التي تدخل ضمن الموروث الشعبي والطقوس الدينية والعادات الاجتماعية. وبذلك يتحقق الهرونوتوب او الزمكان حيث تتداخل الأزمنة مع مختلف الاماكن بلوحة واحدة بينما نجد نفس الأمر على صفحات عديدة من روايات غائب طعمه فرمان وفؤاد التكرلي وبالذات في رائعته "الرجع البعيد" التي تتنفس تنفسا عميقا بتفصيلات الحياة اليومية ووقائعها اليومية.
يمكن ان نجد كل هذه الموضوعات بسهولة في لوحات فؤاد الطائي التي تشكل كلا متكاملا ومتناسقا ومرتبطا بفكرة الحنين إلى الماضي. وكل لوحة تكمل الأخرى وكأنه يوزع ألوانها ومساحاتها وفضاءاتها بعد دراسة هندسية وحسابية شديدة الدقة. ومَن اطلع على طريقة عمل هذا الفنان المبدع يعرف فعلا كيف يحسب فؤاد الطائي وبدقة شديدة كل لمسة ومسحة فتبدو الألوان متوزعة كما هي في الواقع مع التأكيد على تعبيرها عن آلامه وأفراحه.
تجسد لوحات فؤاد الطائي موقفا واضحا من الحياة يتلخص في الخوف من مصيرها المستقبلي وعدم الاطمئنان عليه بسبب هجوم التكنولوجيا والكومبيوتر والتقنين العقلاني لكل ما حصلت عليه البشرية من قيم ومفاهيم أخلاقية رفيعة. ولهذا السبب بالذات نجد في لوحاته حكمة شرقيه مكتوبة أو مزاجا محسوسا أو بيتاً شعرياً أو مقولة متعارف عليه أو مثلا شعبياً، التي هي في الحقيقة تمثل بعدا هاما من أبعاد اللوحة الفنية جنباً إلى جنب الفضاء والألوان لكي تعبر عن الجو النفسي، وعمودا هاما يتكون عليه معمار اللوحة الفنية. ويجد المتلقي متعة خاصة في قراءة مثل هذه العبارات فيحدث التفاعل بينه وبين الالوان والعبارات، التي كثيرا مايتعذر عليه قراءتها فيجدُّ من أجل حل اللغز جنبا إلى جنب مع التمعن بمشاهد تذكره بطفولته نقرأ في لوحة "الملاّية"، التي تجسد الطقوس الدينية:
مِنْ كان ظرفي دِبسْ ... يامكثر أحبابي
ومن يوم طَرفي يِبَسْ ..مَحّدْ طرق بابي
ولا يسع المشاهد إلا أن يتأمل كثيرا عندما يشاهد هذه اللوحة فيشده الحاضر الى زمن الماضي حيث نحن نمر اليوم في أحلك الظروف.. ونقرأ في لوحة أخرى من معرضه الشخصي الخامس الذي أقيم عام 1988
قلبي على قلب ولدي وقلب ولدي على الصخر مرمر.
وكان الكلام يقال على لسان امرأة تحتضن ابنها الاصغر بينما يمارس ابنها الاكبر مهمة خطيرة. ونقرأ في لوحة "النخلة" من نفس المعرض الشخصي
لا ساعة وحدة.
لا ليلة نمت الليل يا روحي.
القلب من فرقاك بالغربة وحده وغيرها من العبارات التي تذكرنا بالطفولة والوطن. فغالبا ما كنا نقرأها أو نسمعها في مختلف الأماكن. نقرأ في لوحة مكرسة للطفولة عبارة تثير الفرح والاطمئنان النفسي بسبب عدم ضياعها فهي مشهورة ومعروفة لدى الاطفال العراقيين أيام زمان:
بيض اللقلق علاَّ وطار
علاّ على بيت المختار
أو
ذقت الطيبات كلها فلم أجد أطيب من العافية
ونقلت الحديد والصخر فلم أجد أثقل من الدَيْن
هذه الحكمة المعبّرة والمجسدة بألوان خاصة تعكس واقع الحال في الزمن الماضي كنا نقرأها على واجهات المحال والدكاكين أو زجاج السيارات وجدران المقاهي الشعبية.
لقد وجدت العديد من لوحات فؤاد الطائي التي تشترك بأفكارها وألوانها وأجوائها مع الواقع الروائي العراقي المعروف باهتمامه بالتراث الشعبي، ونذكر من هذه اللوحات على سبيل المثال لا الحصر: عيد الفطر، شموع نذر، زفة العروس، هلال العيد، نخلة المحلة، ركيّة فوق التيغة، حمامة على البادكير، طبق الخبز، شناشيل، بيت الجيران، شاي العصر، ليلة العيد، المطيرجي وغيرها من اللوحات التي تدل أسماؤها على معانيها.
تذكرني لوحة "ليلة العيد" لفؤاد الطائي بمقطع من رواية "القربان" لغائب طعمه فرمان حيث يقول:" في ليلة العيد لم ينم الكثيرون من الأطفال، استلقوا على فرشهم واضعين تحت وسائدهم أو بالقرب منهم أشياءهم الجديدة، حذاء أحمر، جوارب ملونة، دشداشة مقلمة جاءت من الخيّاطة تواً وفيها رائحة قماش جديد ماخوذ ببطاقات التموين. وبسبب من تلك الجدة لم يناموا، وظنوا أن الشمس قد تأخرت عن ميعادها ولما غفوا قليلاً حلموا بالأراجيح والعيدية. واستيقظوا قبل الفجر وجربوا أحذيتهم وجواربهم للمرة العشرين". رواية "القربان" ص 65
ويكاد المشاهد المتمعن في لوحة "ليلة العيد" أن يجد الكثير من أوجه الشبه بينها وبين هذا النص الروائي، ويجد روحاً واحدة تقف خلفهما ونفسا واحداً يتنفسان به. ففي اللوحة أيضاً نجد الألوان تقدم لنا سرداً تشكيلياً عن الاطفال في ليلة العيد حيث الأم تجلس أمام ماكنة الخياطة، بينما يحلم الأطفال بصباح العيد والعربات والأراجيح.
اما لوحة "المطيرجي" فتذكرني بشخصية رديف المطيرجي في رواية "النخلة والجيران" التي تجسدت فيها رغبة الروائي في تصوير الحنين الى الماضي من خلال سرد المرأة العجوز نشمية لقصص مستوحاة من طفولتها. تقول نشمية عن رديف المطيرجي: "كانت كل شوفة ترد الروح، كان يوكف (يقف) فوق السطح بطوله الحلو، والدشداشة البيضاء وعرقجين الكلبدون وبنات الطرف كلهن يعانين عليه. وليش هو دايرلهن بال؟ وكنت أشيل راسي، أشو عبالك طير أورفلي وهو يشوفني ينكس عرقجينة على عينه. يعني مرحبه! ويقوم يناغي الطيور: أروح فدوه الأبوزلف وترجية، يا أبيض، يا زاجل، يا بو عيون الوسيعة، خذ لمحبوبتي تحية "النخلة والجيران" ص 102. في لوحة "المطيرجي" نجد الفنان فؤاد الطائي يطير مع الحمامات البيضاء المحلقة عالياً، وهي تعبر عن أمله الذي يتجسد في فضاء أغلب لوحاته، وليس هذه اللوحة فقط. بينما نجد في الرواية أن هذا الأمل يتجسد في شخصية رديف التي ترتدي ملابس شعبية تعبر عن قيم الماضي.
كثيرة هي اللوحات التي يشترك فيها فؤاد الطائي مع غيره من الروائيين العراقيين في تصوير تفصيلات الحياة اليومية. ولكن لنقرأ انطباعات الروائي غائب طعمه فرمان عن أعمال فؤاد الطائي حيث يقول:
".. ازددت غنىً روحياً وعاطفياً في مشاهداتي للوحات الفنان فؤاد الطائي، أنا وقفت أمام صورة كطفل، وشاهدتها بهذه العين، عين الطفولة، وقفت أمامها كقصاص يهمه دائما مشكلة الحيز والنفسية والتركيب، اللغة المكثفة واعتقد أني وجدت في كل لوحة حلاً ممتازاً لكل موضوع شعبي تناوله. إن اللون يستخدمه الطائي كلغة متحركة موحية تبرز الفكرة والنفسية، واعتقد أن هناك ألواناً عراقية صميمية استطاع فؤاد ان يوظفها ليخلق منها عالما كاملا من صميم حياة شعبنا.
وجدت في كل لوحة من هذه اللوحات قصة... فالذي يشغل الكاتب هو الحيز...، الكلمات، الجُمل، المقاطع. فمثلا عندما يريد أن يصور الكاتب حالة نفسية معينة، فهل يصورها في أربع صفحات أو صفحة واحدة، أنا أحسد فؤاد لأنه استطاع أن يعطيني النفسية في استعماله كميات الألوان. نظرت إلى كل صورة باعتبارها قضية، وكل صورة تعبر عن نفسية، ونظرت إلى الألوان الدقيقة جدا والتي لا تخطر على البال ويمكن الكاتب أن ينساها، إلا أن فؤاد استطاع أن يلتقطها"
وأنا كذلك أغبطُه لكونه استطاع فعلا، التقاط العديد من المشاهد المحلية بفضل الألوان والذاكرة القوية والنظرة من بعيد الى عالم الطفولة والوطن الذي لم ينفصل عنه لحظة واحدة رغم إقامته الطويلة في الغربة. إن كل لوحات فؤاد الطائي هي بمثابة تحية الى العراق. موطن الحضارات والشعر والفنون.
بطاقة
- ولد في محافظة بابل في العراق عام 1943.
- درس الرسم في اكاديمية الفنون الجميلة في بغداد
- واصل دراسته العالية خارج الوطن فحصل على الماجستير والدكتوراه في الفن التشكيلي في مجال السينما والتيليفزيون والصحافة العراقية.
- شارك بمعارض عديدة داخل وخارج الوطن.
- أقام سبعة معارض شخصية للفترة 1969-1980.
- له كتابات عن الفن التشكيلي والتعبير في السينما.
- يقيم منذ نهاية الثمانينات في السويد حيث اقام العديد من المعارض الفنية.
- أصدرت موخراً دار نشرميزر في السويد، التي يشرف عليها الدكتور ابراهيم ميزر كتاب فؤاد الطائي: معضلات الشكل والمضمون في الفيلم الروائي العراقي 2023 السويد، مالمو.
نماذج من لوحات الفنان التشكيلي العراقي المعروف الدكتور فؤاد الطائي
- أصدرت دار ميزر
***
بقلم الدكتور زهير ياسين شليبه