قضايا

صباح خيري: العبرمناهجية في الفكر المعاصر

دراسة ونقد في ضوء الفكر الإسلامي

يشهد العالم المعاصر ثورة علمية وفكرية غير مسبوقة، نتج عنها تعقيد في المشكلات البحثية والاجتماعية والبيئية، بحيث لم تعد مناهج التخصص الواحد قادرة على الإحاطة بها. من هنا وُلد مفهوم العبرمناهجية (Transdisciplinarity) كمنهج يسعى إلى تجاوز حدود التخصصات ودمج المعارف في رؤية تكاملية شاملة، تجمع بين العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانية.

هذا التحول المنهجي لم يكن مجرد مسألة تقنية، بل يمثل نقلة في بنية التفكير الإنساني، إذ يسعى إلى توحيد المعرفة وتجاوز التجزئة التي فرضتها التخصصات الحديثة. وفي المقابل، يجد الفكر الإسلامي في هذا التوجه المعرفي مجالًا خصبًا للحوار، لأن التراث الإسلامي في ذاته يقوم على التكامل بين العقل والنقل، بين العلم والوحي، وهو ما يشكّل أساسًا لمنهج «عبرمناهجي» أصيل.

قال تعالى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر: 9) وفي هذه الآية دلالة على أن العلم في الإسلام لا ينفصل عن البصيرة والمعرفة الشاملة التي توحد بين الدين والدنيا.

المحور الأول: الأسس النظرية والفلسفية للعبرمناهجية

العبرمناهجية ليست مجرد تداخل بين التخصصات، بل هي رؤية فلسفية ومعرفية تهدف إلى بناء معرفة شاملة تتجاوز الحدود الأكاديمية. وقد نشأت كردّ فعل على قصور التخصصات الجزئية في فهم الظواهر المركبة كالبيئة والمجتمع والإنسان.

ترتكز هذه المنهجية على ثلاثة أسس:

1. فلسفة النظم المعقدة: التي ترى أن العالم شبكة مترابطة، ولا يمكن فهم أي ظاهرة بمعزل عن سياقها العام.

2. النقد الإبستمولوجي للمعرفة الحديثة: إذ لم يعد يُنظر إلى العلم كحقيقة مطلقة بل كعملية مفتوحة على الحوار مع الإنسان والمجتمع.

3. العلم التكاملي: وهو الإيمان بتعدد المناهج وتكاملها في الوصول إلى الحقيقة.

وهذه الأسس تتقاطع مع الفكر الإسلامي الذي يرى أن المعرفة وحدة واحدة مصدرها الله تعالى، كما قال سبحانه: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ (البقرة: 31) إشارة إلى أن الإنسان مُنح القدرة على استيعاب الوجود بكل أبعاده، لا بمعزل بين علمٍ شرعي وآخر مادي.

وقد عبّر الإمام الغزالي عن هذا التكامل في إحياء علوم الدين بقوله: (إن العلوم كلّها متعاونة في طلب السعادة، ولا يُستغنى في الدين عن شيء منها).

ومن هنا يمكن القول إن العبرمناهجية ليست غريبة عن الرؤية الإسلامية، بل هي تأكيد حديث على وحدة المعرفة في أصلها الإلهي.

المحور الثاني: تطبيقات العبرمناهجية في الفكر المعاصر والإسلامي

تجلّت العبرمناهجية في العصر الحديث في مجالات كثيرة، أبرزها:

- الطب الحيوي الذي يجمع بين علم الأحياء، الطب، والإحصاء لفهم الأمراض.

- البيئة والتنمية المستدامة حيث تتداخل السياسة بالاقتصاد والعلوم الطبيعية.

- العلوم الاجتماعية التي أصبحت تدمج بين علم النفس، الاقتصاد، والتاريخ لفهم الظواهر الإنسانية.

أما في الفكر العربي والإسلامي، فقد برزت محاولات متعددة لتطبيق المنهج العبرمناهجي:

- عند محمد عابد الجابري في مشروع نقد العقل العربي، حيث جمع بين تحليل التراث والمنطق البنيوي والفكر الغربي.

- وعند عبد الله العروي الذي مزج بين التاريخ والفكر السياسي لفهم أزمة الهوية العربية.

لكن هذه التجارب بقيت جزئية لأنها لم تنطلق من قاعدة قيمية إسلامية تضبط التكامل بين المناهج.

أما الفكر الإسلامي الإمامي فقدم نموذجًا متقدّمًا في هذا المجال، خصوصًا عند السيد محمد باقر الصدر الذي بنى مشروعًا معرفيًا يوحّد بين الفلسفة والفقه والمنطق والعلوم الحديثة. ففي كتابه الأسس المنطقية للاستقراء قال: (الاستقراء طريقٌ للعلم بسنن الله في الكون، وهو قراءةٌ للعالم بلغة السنن الإلهية لا بلغة الصدفة)

وهذا القول يعكس جوهر العبرمناهجية الإسلامية: استخدام أدوات العلم الحديث دون الانفصال عن المرجعية الإيمانية.

وقد دعمت النصوص الشرعية هذا المنهج التكاملـي، قال تعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ (فصلت: 53)، وهي دعوة واضحة إلى قراءة الوجود في ضوء التكامل بين الوحي والعقل والعلم.

المحور الثالث: الموقف الإسلامي وآلية التكامل الترجيحي

الفكر الإسلامي لا يرفض التعدد المنهجي، لكنه يضع له ضوابط ترجيحية تضمن عدم الخروج عن مقاصد الشريعة ووحدة المرجعية.

في الفكر الإمامي، يُعرف هذا بمنهج الاجتهاد الترجيحي، وهو الجمع بين النصوص الشرعية والعقل والخبرة الإنسانية لتحقيق معرفة متكاملة دون تعارض.

يقول الشيخ الطوسي في التهذيب: (ما كان من خبرٍ غير قطعيٍّ، يُرجّح بالعقل أو القرائن، ما لم يخالف القطعيات من الشريعة).

وهذا يعبّر عن مبدأ منهجي عبرمناهجي مبكر يقوم على التكامل بين العقل والنقل والتجربة.

كما يؤكد الشيخ الصدوق في الاعتقادات: (العقل معين النقل، والنقل مفسر للعقل، ولا تعارض بينهما إلا من قصور الفهم).

وهذا المفهوم يعبّر عن جوهر العبرمناهجية الإسلامية التي تدمج المعارف في إطار منضبط بالقيم الشرعية والعقلانية. وفي ضوء ذلك، يُفهم قول الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25)، إذ إن “الكتاب” هو الوحي، و“الميزان” هو العقل والمنهج العلمي، وكلاهما متكامل في تحقيق العدالة والمعرفة.

النتائج

1. العبرمناهجية تمثل تحولًا معرفيًا عميقًا في مواجهة المشكلات المعاصرة المعقدة، وتُعد وسيلة فعالة لإعادة بناء المعرفة الإنسانية.

2. الفكر الإسلامي يمتلك جذورًا أصيلة للعبرمناهجية من خلال التكامل بين العلوم الشرعية والعقلية والطبيعية، كما تجلى في أعمال العلماء الموسوعيين.

3. المنهج الإمامي قدّم صيغة متكاملة تُعرف بـ"الترجيح المنهجي"، وهي صيغة تضبط الانفتاح على المعارف الحديثة دون الانزلاق إلى النسبية أو فقدان المرجعية.

4. القرآن الكريم أسّس لفكرة التكامل المعرفي منذ بدايته، حيث دعا إلى الجمع بين التأمل في الوحي والكون: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 190).

5. التحدي المعاصر هو بناء نموذج إسلامي للعبرمناهجية، يربط بين النصوص الشرعية والمعرفة العلمية الحديثة في إطار أخلاقي قيمي.

6. الفرصة الكبرى تكمن في تحويل العبرمناهجية من مجرد مفهوم أكاديمي إلى مشروع حضاري إسلامي يُسهم في النهضة العلمية والإنسانية.

***

د. صباح خيري العرداوي

جامعة الكوفة - كلية التربية الاساسية/ قسم التربية الاسلامية

في المثقف اليوم