قضايا

عصمت نصار: محنة غرابيل الفلاسفة

من غيبة آليات المعقول إلى الارتياب في قداسة المنقول

أنني أعلم جيدًا أن تتبع الواقعات والوقائع التي كونت بنية ثقافة العصر الوسيط، وشكلت المعوق الرئيسي أمام الفلاسفة وغرابيلهم الناقدة وتحليلاتهم الواعية.

لا تخلو من المخاطر: سواء في تحصيل المعارف أو الحكم على صحة متون الخطابات المطروحة آنذاك من الاتجاهات المتصارعة حيث الأكاذيب التي ترددت على ألسنة كل الاتجاهات العقدية والسياسية والاجتماعية. بالإضافة إلى الفكر الوافد من الثقافة اليونانية، أو في رسائل المبشرين بالدين الجديد -الأتية من الشرق.

نعم إن السير في طرقات أوربا في هذه الحقبة التي خيمت على سمائها ظلمة جاهلة حالكة حالت بين المحللين باكتشاف مواقع المآزق والمتاريس والحرائق والمقاصل والسجون التي كانت تنتظر الغرباء الذين أبوا الخضوع لتعاليم القيصر -المأله المعبود - أو عوائد النبلاء والأثرياء أو  الذين ارتابوا في أحاديث السحرة والمشعوذين أو حكايات الكهنة أو أكاذيب أحبار اليهود أو هذيان السوقى والحمقى أو تمهلوا في تنفيذ أوامر الجند الذين انتزعت من قلوبهم كل المشاعر الإنسانية التي تميز بين الأشقياء والأبرياء؛ فلا نكاد نسمع  في ليل شتاء روما سوى نحيب العقلاء على مصرع الحق والصدق والشرف أو ضحكات شياطين الإنس وهي تسخر من غرابيل الفلاسفة الممزقة التي أنهكها (الشك البيروني) على أثر عجزها عن الفصل بين كثرة الأكاذيب التي أبتدعها الأفاقين الذين احترفوا صناعة الشائعات وتلفيق الحكايات إلى درجة أنهم تفننوا في عمل غرابيل أخرى، عوضًا عن غرابيل الفلاسفة السابقة؛ لتتناسب مع الثقافة السائدة وجعلوا معيار جودتها وصحة أدائها في المنفعة واتخذت من الدهاء مكاييل لها لتحديد قدر مكاسبهم من الفتن والمؤامرات والدسائس ومدى صلاحيتها لإزاحة العراقيل التي تحول بينهم وبين مصالحهم الشخصية.

لذا يمكننا أن نصرح بخطأ معظم المؤرخين في اعتقادهم بأن علة جمود الفكر الأوربي في العصر الوسيط ترد إلى صراع الأضداد بين الفكر الغيبي اللاهوتي من جهة والتفكير العلمي الموضوعي والتصورات الفلسفية المنطقية من جهة أخرى.

إضافة إلى غيبة الأنساق المنهجية في شتى المعارف الإنسانية وتداخل الوافد من النظم والأفكار بطريقة عشوائية؛ فقد أدى كل ذلك إلى فشل الحكماء والمصلحين في إنقاذ الثقافة الأوربية من الاستمرار في أطوار انحدارها وانتقالها من السيء إلى الأسوأ ومن مظاهر السياقات المتداخلة على نحو متراكم كانتشار الخرافة، وعبادة الأوثان، والتعصب الملي، والتبشير بعقائد جديدة مع إباحة ارتكاب كل أشكال الشرور للنبلاء الذين ينكلون بالضعفاء والعبيد والمعوزين إذا ما انتهكوا عادة أو شعيرة أو اعترضوا على تجبر المستبدين من أصحاب السطوة والسلطان.

بل الأصوب القول بأن علة ذلك الانحدار الذي اطلق عليه الحقبة المظلمة ترد إلى عدم قدرة أصحاب الغرابيل الناقدة على الفصل بين ما هو نافع وما هو ضار أو الصدق والكذب والصواب والخطأ وهو نتيجة مباشرة لتداخل السياقات المتنافرة والمتناقضة والمتصارعة (أحبار اليهود وتعاليمهم، الساسة ويمثلهم الإمبراطور والنبلاء والأثرياء، الكهنة الوثنيون والسحرة المحتالون، أتباع الدين الوافد وما يحفظونه من أقوال يسوع المخلص وتلاميذه كتاب الأناجيل والرسائل التبشيرية، وأخيرًا جماعات صغار الفلاسفة وما حملوه من آراء ضد السياقات الأسطورية والتصورات المناهضة للعقل التي استنبطوها من مدرسة الإسكندرية وأنطاكيا وروما أولئك الذين أطلق عليهم عصبة الهراطقة آنذاك) وذلك طمعًا في تغلب أحدها على باقي السياقات للحصول على أكبر قدر من الهيمنة والمنفعة المباشرة بغض النظر عن تبيعات الخلط بين الأنساق واحتراف الجميع صناعة الكذب حتى أضحت الأكاذيب هي لغة التساجل التي يستخدمها كل فريق بلا استثناء؛ لمدافعة نظرائه من الخصوم، وبات الشك المطلق هو دستور إعمال العقل في كل ما يُقال من سائر الاتجاهات .

وخليق بنا أن ننبه على أن ما سوف نعرضه من أكاذيب في هذا العصر هو أهم ما يتعلق بقضية الحكم على الفكر الصادق والكاذب من الناحية الفلسفية فحسب مع توضيح أثر تلك الأكاذيب على البنية المعرفية التي أدت بدورها إلى اضمحلال الآراء الفلسفية والإبداعات العلمية وقضت تمامًا على ما نطلق عليه حرية البوح والتفكير والنقد والثورة على المألوف وكل مواطن الاستبداد والعنف وسوف نقف على أهم آراء المتناظرين والمتحاورين التي تساجلت حول الأكاذيب بكل أشكالها وذلك لتبيان أغراضها ومقاصدها والكشف كذلك عما حملته من آراء ناقدة : من دفوع أو تحايل للخروج من المآزق التي وضعتها فيها القوة المتطاولة، وتوضيح النهوج التي انتهجها الفلاسفة (أصحاب الدين الوافد) خلال تلك المناظرات والحكم عليها وتقيمها.

ولعل أولى الأكاذيب هي تلك التي حاكها أحبار اليهود وكانت ترمي إلى تحقيق ثلاثة منافع:

أولها استعداء القيصر والسلطة الحاكمة على الدين الجديد الوافد أملًا في القضاء عليه في مهده قبل أن ينتشر وتصبح له مكانة في الثقافة الغربية.

وثانيها التأكيد على أن ما جاء في الدين الجديد لا يأتلف مع التوراة أو التلمود وأن مصدرها ليس هو المسيا المنتظر وبالتالي تنتفي عنه صفة القداسة.

وثالثها: التشكيك؛ فالخطاب العقدي الوافد برمته؛ وعليه يحق لأحبار اليهود محاكمة يسوع والحكم عليه واتباعه دون غيرهم من السلطات.

- وها هي الافتراءات - أن أصحاب الدين الوافد وضعوا ليسوع نسبًا يجعل منه ملكًا على يهود تارة أو إلهًا تارة ثانية أو المسيا المخلص تارة ثالثة. وتعتبر جميع هذه النعوت تجديفاً وافتراءً على الناموس؛ الأمر الذي يستوجب العقاب.

- إن أصحاب الدين الجديد يحللون أكل لحوم البشر وشرب دمائهم.

- إنّ أصحاب الدين الجديد يكفرون بدين القيصر ويزمون الأغنياء ويمدحون العبيد والفقراء ويؤثرون السلم على الحرب، ويكرهون العنف والقتال ويرفعون قيمة الحب والتسامح، ويجعلونهما مرادفين لصدق الإيمان ويحرضون الفقراء على الامتناع من أداء الضرائب المستحقة عليهم، والتخلف عن المشاركة في الحروب وتشجيع العبيد على التحرر من قيود العبودية.

- إن أصحاب الدين الجديد لعنوا السحرة والكهنة والعرافين، والأساطير الموروثة التي توافق عقلية العوام؛ الأمر الذي سوف يحدث هرج ومرج ويهدد أمن واستقرار الإمبراطورية.

وقد نجحت افتراءات اليهود وأكاذيبهم ولاسيما في الفترة الممتدة من (303/:311 م) أثناء عصر دقلديانوس (244:311م) وسوف نكشف عن طبيعة الردود والحجج المناهضة لتلك الادعاءات فيما بعد.

ثم جاء الإمبراطور قسطنطين (نحو 272: 337 م) بإصدار مرسوم ميلانو عام (313 م) ليوقف عصر الاضطهاد المسيحي ثم اعترفت الإمبراطورية الرومانية تدريجيًا بحقوق اليسوعيين وأصبحت الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية عام 380 م بمرسوم من الإمبراطور ثيودوسيوس الأول (395:347 م)

أما أكاذيب الهراطقة والمنكرين والمتفلسفة الذين تتلمذوا في مدارس الإسكندرية وأنطاكيا وروما، فجاءت جميعها مناهضة للفكر اللاهوتي بوجه عام ومنكرة كذلك للقضايا ذات الصلة بتأليه يسوع وعقيدة الخلاص، وأيدت في الوقت نفسه التعاليم الأخلاقية التي وردت في الرسائل المتواترة والشذرات المستنبطة من تعاليم المسيح وتهكمت على العديد من أسفار العهد القديم ولاسيما المتعلقة بأخبار أنبياء اليهود المنحدرين من قبائل الخزر المزيفين لتعاليم الرب المجافية للعقل والأخلاق وكانت ترمي من ذلك إلى تحقيق غايتين:

أولهما إقناع الطبقة الحاكمة بأن ديانة جوبيتر والآداب اليونانية وما تحمله من أساطير وفنون قد ألفها العقل السائد الروماني وكان من اليسير على قادة الرأي في الثقافة الرومانية تطويع ذلك الفكر الوافد لخدمة الرومان وليس العكس أما الفكر المنعوت بالقداسة يهوديًا كان أو يسوعيًا فهو مغاير لما ألفه الرأي العام ولم ترضى عنه الطبقة الحاكمة - وتجربة الإمبراطورية مع اليهود منذ عام (27 ق.م: 476 م) خير شاهد على تمردهم وخياناتهم المتكررة - ومن ثم يجب التعامل معه مثل ما يجب فعله تجاه الملحدين والمفسدين حتى لا يتبدد أمن الإمبراطورية.

وثانيهما إن المعتقدات الغيبية الواردة في الديانة الجديدة منافية تمامًا للعقل بل أنها تثير العديد من المشكلات التي تتعرض للأمور الاجتماعية والسياسية والعلوم الفلسفية التي تشكل القوة الدافعة للفكر الروماني ومن ثم يجب على العقل الجمعي الروماني التخلص من ذلك الدين الوافد لأنه يبدد ما ألفوه في حياتهم وها هي ادعاءاتهم وأكاذيبهم:

- أن أصحاب الدين الجديد قد تأثروا في حديثهم عن السيد المسيح بسيرة وتعاليم أبولونيوس التياني (نحو 15 م: 100 م) وهو فيلسوف ينتمي إلى الفيثاغوريين المتأخرين وهي من المدارس الفلسفية المتأخرة التي تحدثت عن الحلول الإلهي في الاجساد البشرية وإمكانية الاتحاد به بالتأملات والرياضات الروحية الأمر الذي يجيز للعقل الشك فيما روي عن يسوع شأن الحكم على الفلاسفة الفيثاغوريين بالكذب ولاسيما على مرويات فلاسفتها المتأخرين.

- إن أصحاب الدين الجديد يؤمنون بعقيدة التثليث وهي من أشكال التأليه الواردة في العديد من الديانات الشرقية القديمة مثل:

عبادة سيرابيس والديانة الأوزورية وكذا الأساطير التي نسجت حول أبولو إله الشعر عند اليونان وهرقل البطل الأسطوري وهما أبني زيوس رب الأرباب.

كما أكد الفلاسفة في ادعاءاتهم  على أن هناك تشابه بين هذه الأساطير من حيث الأبوة الإلهية لمخلص بشري ولد من رحم إحدى العفيفات الورع ومن ثم تولدت عقيدة الاتحاد والحلول بين الاله والبشر كما أن ما كتب حول ولادة بوذا في الأساطير الهندوسية يقترب من ذلك السياق القصصي  كما أن إضفاء القداسة الإلهية على مريم أم يسوع ليست غريبة أيضًا على التراث الأسطوري مثل الكمين وأرتيميز وأيزيس ونانا العذراء الفرجية .أما الاقانيم الثلاثة التي يتحدث عنها أصحاب الدين الجديد فهي لا تختلف عن الثالوث الهندوسي (برهما، فيشنو، شيفا ) الذي أطلق عليه الهندوس مصطلح (Trimurti)

-    إن أصحاب الدين الجديد مازالوا مختلفين فيما بينهم على الطبيعة الكرستولوجيا ليسوع ولم يتفقوا كذلك على قانون الإيمان ولم تحسم المناظرات التي دارت بين أثناسيوس وأريوس بل انتهت وفق منطوق إمبراطوري صاغه قسطنطين بعد تردد بين منطق العقل والخوف من تقسيم الإمبراطورية.

وللحديث بقية عن كثرة الأكاذيب التي شكلت عائقًا أمام غرابيل الفلاسفة للفصل بين الصدق والكذب بمنحى نقدي فلسفي. 

***

بقلم: د. عصمت نصار

في المثقف اليوم