قضايا
فضل فقيه: الشرق ما بعد نيوتن.. نحو علم تجريبي بملامح إنسانية

مرّت عبر تاريخ الحضارة البشرية تيارات فكرية مختلفة ومتنوعة. نستطيع تقسيم التاريخ الفكري للعالم بغير طريقة وطريقة. إحدى الطرق تأتي عبر اعتماد الفصل بين ما سبق الثورة العلمية في أوروبا وما تلاها. أما فيما سبق، فكان الشرق بشكل عام الرائد في مجالات جمع المعرفة من خلال نظره للكون ككيان متناغم والبشر يسعون للتوحد معه بروحية ووئام. ولكن بعد الثورة العلمية، غير الغرب هذه النظرة اذ حول الوجود الى مسرح كبير نشاهده كبشر وندرس أحداثه وظواهره. اعتمد الغرب على منهاج علمي يأخذ من القياس والتجربة سبلا لجمع المعرفة. وسط "الفتوحات" العلمية، بات العلم هو المقياس الحضاري لتقدم الشعوب.
Tفي المقالين السابقين أشرنا أنه في وقت نجح الغرب بالدفع بعجلة العلم التجريبي، بقي الشرق إلى حين، ليس بالبعيد عن يومنا هذا، بعيدا كل البعد عن تحقيق أي خرق في هذا المجال. نجحت بعض الشعوب الشرقية في خلق نهضة علمية كاليابان والصين مؤخرا، لكن هذه الشعوب لن تكون ضمن نطاق نقاشنا بل ستكون منطقتنا العربية.
العلم التجريبي ضرورة حضارية
أزاحت الثورة العلمية الستار عن البحث في العلوم البحتة. بدء العلماء يدرسون الظاهر الطبيعية من وجهة نظر تجريبي لتحقيق اكتشافات في الفيزياء والطب والفلك. هذه العلوم سرعان ما انتقلت إلى التطبيق عبر المخترعين لتدعم المصانع وتسهل حياة الناس. وبعد آلاف من الاكتشافات والاختراعات، أصبح التقدم التكنولوجي تصاعديا في المسار.
بما لا شك فيه الآن أن التقدم التكنولوجي قد غير وسيطر على عالمنا دون رجعة ودون أي دليل على تراجعه قريبا. واليوم، من ينتج هذا العلم بات يتحكم بشكل أو بآخر بالشعوب المستهلكة. الضخ الكبير للمحتوى التكنولوجي والمعلوماتي في مجالات الهاتف المحمول والذكاء الاصطناعي يصنع حربا ناعمة مهولة سياسية كانت أو تسويقية، وهذا لم يعد نظريات مؤامرة فارغة بل واقعا يعاش. تعتمد الشركات على البيانات الشخصية من الهواتف لتسويق منتجاتها وخدماتها. التخلف العلمي حول مجتمعاته إلى مجتمعات مستهلكة تخضع سياسيا واقتصاديا للمجتمعات المنتجة. بعيدا عن السياسة والتسويق، إن التطور العلمي يرفع أمد الحياة والمستوى المعيشي بشكل ملحوظ في الدول المتقدمة علميا وتكنولوجيا من خلال الطب والسياسات الاقتصادية المدروسة.
والطريقة الأساسية للالتحاق بركب التطور الطبي والصناعي والتكنولوجي هي في العلم التجريبي. ولكن مهلا، ألا يدرس عالمنا العربي العلم التجريبي؟ بل؟ ألا يقوم بإنتاجه في العديد من الجامعات ومراكز الأبحاث المرموقة؟ الإجابة هي نعم، ولكن ليس بما يكفي. إننا بحاجة لثورة في العقلية العلمية أولا، وفي الاهتمام أكثر بالعلم بحد ذاته ثانيا.
علم تجريبي في عالم شرقي
من وجهة نظر شخصية، أرى أن الكيان الإسلامي من الأنجح كنظام اقتصادي واجتماعي. وهذا نقاش طويل ليس ضمن نطاق طرحنا اليوم. وعلى الرغم من ميزاته، هناك عقبة أساسية تمنع تعميمه على نطاق أوسع وهي الشرط الأولي والأساسي بالإيمان. قد لا تتمكن شعوب كاملة من الإيمان بالله والميعاد وبذلك يصعب الافتراض المسبق برغبتهم براحة أبدية أو خوفهم من عذاب سرمدي عندما يأتي الأمر لاتباع النظام الاقتصادي والاجتماعي الاسلامي. ولكننا نتكلم هنا عن علم تجريبي في عالمنا العربي الشرقي المتحفظ. فهل مشكلة عدم إيجاد نيوتن تعود الى عدم قدرتنا على التوفيق بين العلم والدين؟ بين الايمان والتجربة؟
هل يتناقض العلم التجريبي مع الدين؟ العلم التجريبي يدرس الظواهر المادية فحسب. يشير هايديغير أن السؤال في لماذا هناك شيء بدلا عن اللا شيء هو سؤال ميتافيزيقي بحت. لا يمكن لأي عالم ادعاء قدرته على اجراء دراسات على شيء او كينونة خارج نطاق العالم الفيزيائي، اي الميتافيزيقي. وإذ كان العلم التجريبي غير قادر على الاثبات بوجود العالم الميتافيزيقي ايجابا، فإنه غير قادر على نفيه سلبا أيضا، كما أشار محمد باقر الصدر في كتابه فلسفتنا. أما الدين فإنه يؤمن بوجود العالم الميتافيزيقي بناء على المذهب العقلي الذي يبنى على معارف أولية. العلم التجريبي غير قادر على نفي وجود العالم الميتافيزيقي والدين غير قادر على نفي النظريات العلمية القائمة على التجربة. أما أسئلة بداية الكون وأصل الحياة، فالعلم قد لا يقدر أبدا على أن يجد نظرية قاطعة انما يستطيع وضع تصورات قائمة على المعلومات والمؤشرات المعاصرة، وليس الدين بحالة أفضل. وهذا يعني أن أحدهما، أي العلم والدين، غير قادر على نفي الآخر أو نفي ادعاءاته.
أما فيما خص النظريات التي تتناقض مع النصوص الدينية للخلق، يصبح الأمر معقدا قليلا. فقد أشار القديس أوغوستين أن مخاطبة الاله لليهود في العهد القديم اعتمد على حدود معرفتهم آنذاك. والأمر بالتأكيد كذلك، فلو تكلم الانجيل بمعادلات وأرقام حول نشأة الكون ووجود الخلق لاختلط الحابل بالنابل عند الناس. وخلاصة الكلام، وهذه رؤية شخصية، أن علينا اليوم فهم النصوص الدينية في ضوء الاكتشافات العلمية وليس نفي الاكتشافات العلمية على أساس النصوص الدينية، لا سيما في النظريات التي تحمل أدلة تجريبية تكاد تصبح يقينية.
العيش في تناغم وانسجام
إذا فالتفكير العلمي لا يتعارض مع الشخصية المتدينة ومبادئها. يستطيع الانسان سبر أغوار الطبيعة المادية الفيزيائية دون نفيه العالم الميتافيزيقي الذي يمثل علاقته الشخصية بالخالق. والأهم من ذلك، يستطيع الانسان ممارسة العلم التجريبي في وجود المنظومة الأخلاقية الإسلامية، التي تضمن عدم وقوعه بما وقع فيه الغرب من مآسي. العلم التجريبي يصبح سلطة وضعية لفهم العالم المادي، والدين سلطة الهية لتنظيم المجتمع والحياة.
إذا، لماذا لا نرى هذا يتحقق في مجتمعاتنا؟ المشكلة في السلطة. إن انسانا يتعامل مع فكرة الاله كعلاقة شخصية وليس موضوعية، يفقد من في السلطة الدينية موقعهم السلطوي المرموق في تصنيف المؤمن من الكافر. فيحاربون التفكير النقدي الذي يهدد عروشهم، وهو الركيزة الأساس للعلم التجريبي. بدأت هذه السلطة في أواخر مرحلة الدولة العباسية وتستمر الى يومنا هذا، حيث حولت الدين الى منظومة تتحكم في كل جوانب حياة الفرد وليست علاقة روحية بين الفرد وخالقه.
خاتمة
أثمر المسار التصادمي بين العلم التجريبي من جهة والدين من جهة أخرى عن فجوة كبيرة في تاريخ تقدم الشعوب العربية حضاريا. المطلوب اليوم هو إيجاد تناغم بين العلم والدين حيث يحرس الدين العالم من الذهاب إلى الهاوية فيما تفهم النصوص الدينية في ضوء الاكتشافات العلمية التي تسبر أغوار الطبيعة المادية. بهذه الطريقة يستطيع العربي دفع عجلة التقدم الحضاري مدعوما من منظومة اقتصادية وأخلاقية واجتماعية. وان كان العلم والدين ايبيستومولوجيا مخلفين، فعليهم أن يجتمعا اجتماعيا في عالمنا العربي.
***
فضل فقيه – باحث
.......................
قراءات إضافية:
سعيد، إدوارد. الاستشراق. ترجمة كمال أبو ديب. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1981
Acemoglu, D. & Robinson, J. A. Why Nations Fail: The Origins of Power, Prosperity, and Poverty (Profile Books, London, 2012).