قضايا

عصمت نصّار: دروب الكذب وأشكاله وغرابيل الفلاسفة الناقدة (2)

لما كان المقصد الأول للأخلاق التطبيقية هو الإصلاح العملي من أجل تقويم الفساد بكل أشكاله كما هو الحال في (أخلاقيات البيئة)، ورفع مستوى الإداء الأخلاقي للفعل الإنساني بعامة والمكلفين بأعمال بعينها مثل (الأخلاقيات المهنية) بخاصّة؛ بات لزامًا على الفلاسفة قدماء كانوا أو محدثين إعداد غرابيلهم لتنقية الوافد من الأفكار – تراثية كانت أو من ثقافات مغايرة – لنقض ما تحتويه من أكاذيب ضارة بصالح المجتمع ومغايرة في الوقت نفسه، للقوانين واللوائح اللازمة للأداء المهني لكي تتحقق الغاية منه.

وقد اشترط الحكماء أن تكون غرابيلهم هي المعيار الأوحد للالتزام الخُلقي في هذا السياق العملي التطبيقي بغض النظر عمّا يطلق عليه الأخلاقيات العامة المستمدة من الموروث الشعبي أو المعتقد العقدي أو الدساتير الدوليّة أو من الانطباعات الشخصية الإلهامات الفرديّة أو من القناعات المعرفية أيضًا فلا يجوز مثلًا (إهمال الشائعات التي تنشر في الرأي العام عن احتمال وجود زلازل أو انتشار أحد المكروبات أو انفجار أحد المفاعلات النوويّة) بحجة أن الحكومة عاجزة عن التأكد من كذب هذا الخبر أو تصديقه أو رغبة المسؤولين في تهدئة الجمهور وعدم ترويعه. كما لا يجوز للقضاة إخضاع بعض أحكامهم فيما يعرض عليهم من قضايا رحمة بالجاني أو خشية من سطوته ومكانته أو لكثرة اتباعه بل يجب عليهم الالتزام بالنصوص القانونية وخبرتهم العملية فحسب. وعلى الرغم من اختلاف سعة أو ضيق ثقوب الغرابيل من مجتمع إلى آخر؛ فإن الفلاسفة انصرفوا عن هذا النهج أو ذلك المعيار الإلزامي مضحيين بقيم تدرجها الأخلاقيات العامة ضمن الفضائل فعلى سبيل المثال يبيح فلاسفة الأخلاق التطبيقية معاقبة كل من تسبب بعمد أو غير عمد في إفساد البيئة الطبيعية أو الثقافة السائدة، وإن كان الفاعل قام بالفعل في شيء يملكه، كما تجور على حرية المعنيين بمخاطبة الجمهور (الصحفيين، والفنانين، والمعلمين) إذا ما تسبب بوحهم بآرائهم الخاصّة في الإخلال بالأمن العام أو التشكيك في ثابت من مقومات البنية العقدية أو الوحدة القومية أو القوة الحاكمة الموثوق في وطنيتها وصدق مقاصدها.

ولا يفوتنا اليوم التنبيه على ضرورة اجتهاد أصحاب الغرابيل في تحديث معايير أحكامهم على نتاج غرابيلهم؛ فالكذب الذي نحارب به الآن معقد في تركيبه، مخادع في خطابه، محترفٌ في تدليسه إلى درجة لا تمكن الفلاسفة وحدهم من فضح خطاباته التي صيغت أنساقها على يد خبراء في الخداع والتعمية والتجهيل، وأسست أحاجيه ومبرراته من قبل معاهد وأقسام قامت بتطوير (المنطق الضبابي، منطق متعدد القيم، المنطق المائي) وأشهر ما أنتجته هو الذكاء الاصطناعي وعلم البرمجيات، ويعني ذلك أن غرابيل الفلاسفة المعاصرين يجب أن تكون قادرة على استيعاب هاتيك الحيل والأقنعة الشيطانية التي تلقى في الفضاء المعرفي فتربك العقل الناقد وتخدع المناطقة التقليديين؛ الأمر الذي يدفعنا إلى إعادة قراءة شذرات هرقليطس (نحو 535:475ق.م)  الملغزة ولاسيما تلك التي قال فيها (إذا لم تتوقع ما لا يمكن توقعه لن تصل للحقيقة التي تحب التخفي والتواري خلف الأقنعة وإذا كان للصدق مكانة عالية فاعلم أن مقامه كان وليد صراع وتصاول مع الكذب) وعلى نفس الدرب نجد الأديب الفرنسي آندريه جيد (1951:1869)(يؤكد أن الكذوب هو الذي يضع خداعه في قلبه وعقله بوصفه عين اليقين).

وها هو الفيلسوف البريطاني برتراند راسل (1970:1872) ينبه الأذهان والمشاعر ناصحًا (إذا كان قول الصدق والمصارحة وكشف المستور يؤلم بعض الناس فإنّ السكوت بصحة الأكاذيب سوف يقتلهم بدم بارد فانجوا بأنفسكم من الإفك الذي اعتزم مداهمة عقولكم). على أن تكون هذه الأقوال هي الابجديات التي ينبغي على صناع الغرابيل هضمها واستيعاب أبعادها العملية.

ومن الضروري أيضًا التنبيه على أن أساليب العلاج وصنوفه تختلف باختلاف حالة المريض -أي المجتمع الذي يعاني من تفشي آفات الكذب فيه - ومن ثم فلا يمكن لأصحاب الغرابيل الادعاء بأنهم قادرون على اقتلاع الكذب من حياة المجتمعات العملية بل يكفيهم تدريب أهل الرأي والمثقفين الذين يجيدون مخاطبة العوام بالقدر الذي يفهمونه من صور الحقيقة ومكائد الكذابين فليس من المستطاع تغيير أخلاق مجتمع ما دفعة واحدة بضربة عصا سحرية، وإن كان لديه علم الكتاب.

تلك كانت لمحات وعبرات عن فلسفة الكذب وفي السطور التالية أدعوك عزيزي القارئ لإمعان النظر في غرابيل الفلاسفة التي ظهرت في صور عدة (النصح، الالزام، الحث على التدبر، التحريض على التصاول، الاجتهاد في التناظر والتثاقف، كشف المخبأ وفضح المستور، مناصرة الصدق ومؤازرة الحق) وأدعوك أيضًا لفحص مبررات الساسة ورجال الدين والحكماء والحاكمين الذين قبلوا صور من الأكاذيب وصبروا على مكائد الخائنين وزيف ادعاءات المتجبرين مفضلين العمل بفقه الضرورة مخافة الوقوع في شر أعظم ومخاطر لا قبل لهم بها. 

***

فليس هناك أحكم من إمام فلاسفة العالم هرمس أو تحوت أو أدريس (نحو 1500 ق.م) في حديثه عن الكذب اعلم يا بني (أن الكذب عماءً وظلمة تحول بين القلب والعقل وادراكهما للنور الإلهي وهو الإفك والضلال والخيانة والزيف والتلبيس وغير ذلك من الصور التي تخدع الابصار والآذان غير أن أصحاب البصائر وحدهم لا يفتنون بتلك الأوهام الشيطانية، ولا يخدعون بأقنعته الخفيّة وهو الزور المخادع الذي لا يقوى على مجابهة الصدق والحق والبرهان واليقين؛ لأنه أضعف منهم جميعًا رغم عظم دهائه وكثرة حيله  وهو الدنس الذي يصيب السرائر واللسان ويحرمهما من التطهر الروحي ونقاء العرفان).

(واحذر المداهمين والمنافقين الذين تطرب لهم الآذان وترتاب في غير حديثهم العقول؛ ففي صحبتهم الخسران وهلاك الضمائر التي يسكرها ريائهم وحبكة دهائهم).

وجاء في القصص الأوزيريّة (أن خداع الكذب لأعين العدالة سرعان ما ينكشف سحر مكائده، وذلك بعد نجاح الصدق في فضح المستور وإزالة غشاوة السحر الذي نفثه الكذوب لإخفاء ألاعيبه الشيطانية؛ فالمراد من الحكاية أن الصدق سوف ينتصر ويسترد مقامه الرفيع وإن غلبه الكذب تحت ظلمة الجهل ودهاء الليل الحالك).

وفي قصة أخرى يؤكد أيزوريس (أن من يصدق حديث الكذاب لا يحصد سوى الندم على عجزه عن كشف الباطل الذي ألبسه الكذوب لباس الحق).

وفي رسالة من أمحوتب إلى أخناتون عن الصداقة جاء فيها : (إنّ الصدق هو من أوائل المقومات الأساسية لسلامة المجتمع وصحة العلاقات بين الأفراد وذلك لأنه الحافز على الاستقامة والإخلاص والثقة والتعاون والابتعاد عن الشرور؛ وإذا كان الصدق قول وفعل وأخبار عن معتقد حق فمجاله الصداقة وغايته تحقيق التآلف والتقارب وتدعيم ثقة المرء بنفسه وغيره. أمّا الكذب فهو نقيض ذلك فيجب اجتنابه).

ويقول بوذا (نحو 623 ق.م) (إنّ الكذب والجشع والكراهية من أكثر السموم فتكًا بالاستنارة العقلية والطهارة الروحية والقناعة الإنسانية) (إن من لا يخجل من آثام الكذب قد حرم نفسه من الصدق وأرتضى أن يلبس ثوب الخداع في كل أطوار حياته).    

ويبدو في أشكال الغرابيل السابقة التي حملتها أقوال الحكماء أنها تجمع بين النهج التلقيني والتوجيهي معًا وتحريض العقل على استنباط الحكمة الكامنة في الخطاب الوعظي أو الحديث القصصي . ولعل هذا الدرب يمثل الغرابيل الأولى التي اصطنعها الحكماء لتنبيه الأذهان للمكائد والشرور التي يحملها الكذب لتزوير الحقائق وخداع الحواس.

وللحديث بقيّة عن تنبيهات فلاسفة الشرق إلى المخاطر التي تتولد عن الكذب باعتباره إحدى آليات الشر وأقبح الرذائل الأخلاقية.  

***

بقلم: د. عصمت نصار – أستاذ فلسفة  

 

في المثقف اليوم