قضايا

غريب دوحي: الزرادشتية.. وجدل النور والظلام

(سلوا النساء لتعلموا أن لا لذة في الولادة، فالدجاج يبيض صائحاً.. والشاعر يبدع متألماً....)... نيتشه على لسان زرادشت

وزرادشت هذا هو نبي الفرس وحكيمهم، ولد في اذربيجان سنة ٦٦٠ ق.م وتوفي سنة ٥٨٣ ق. م وانه جاء بكتاب اسمه (الأفستا) أو (الأبستاق) وقد ادعى بأنه منزل عليه من السماء عن طريق الوحي، وبذلك يعده الفرس مقدساً وفيه تعاليم هذا الدين.

فالأيرانيون قبل زرادشت كانوا مشركين يعبدون آلهة متعددة كالشمس والقمر والزلازل والبراكين وكل ما كانوا يخشونه من مظاهر الطبيعة في محاولة لاسترضاء هذه الظواهر وتجنب شرها وغضبها كما كان المجتمع الأيراني متخلفاً يسوده القتل والسلب والنهب الأمر الذي دعا زرادشت الى التفكير في أنقاذ أمته، فأخذ يدعو شعبه الى نبذ الشرك واتباع الطريق المستقيم وكانت دعوته هذه بوحي من الأله (مزدا) اله النور والخير.

هل الزرادشتية موحدة أم ثنوية. سماوية أم أرضية؟

المعروف عن الأديان الموحدة هي التي تؤمن بإله واحد أحد غير منظور بيده مفاتيح الكون ومصير الإنسان كاليهودية والمسيحية والإسلام غير ان الأديان الثنائية تقول بوجــود قــــوتين متناقضتين أحدهما للخير وأخرى للشر وتقول أيضاً عن خلق الخير والشر (فاهورا فردا) اله النور في الزرادشتية هو خالق كل شيء خير مثل النور والحق والحب والسلام والعمل الصالح و (هريمان) اله الظلام هو خالق كل شيء شرير مثل الظلام والباطل والبغض والأفاعي والعقارب وغيرها.

وهكذا نجد ان الفكر الثنوي موجود حتى في الأديان الأخرى متمثلة بفكرة وجود الشيطان المناقض للرحمن الذي هو الإله الأعظم وغالباً ما يسعى الشيطان الى إحباط الأعمال التي يقوم بها الرحمن ونجد هذا في الدين اليهودي والمسيحي والإسلام وفي الفلسفة اليونانية القديمة وفي أديان بلاد الرافدين. " كما نجد هذا التناقض في الطبيعة بين الليل والنهار والنور والظلام والسماء والأرض والحياة والموت، فالعالم في نظر الإنسان القديم كان مأهولاً بهذه الثنائيات التي تصارع بعضها البعض الآخر. وكان هو في بؤرة هذا الصـ (الوعي ونشوء فلسفة الترميز. جمان حلاوي ص ٤٢٨).

جاء في المعجم الفلسفي، الثنوية: مذهب يقول بمبدأين يدبران العالم أو يدبرهما أحدهما ويفسده الآخر، كذلك: فرقة تقول بإثنية الأله قالوا: تجد في العالم خيراً كثيراً وشراً كثيراً فكل منهما فاعل على حدة. وقالت المانوية: فاعل الخير هو النور وفاعل الشر هي الظلمة، والنور حي قادر سميع بصير، والمجوس قالوا ان فاعل الخير هو (يزدان) وفاعل الشر (اهرمن) ويعنون به الشيطان.

وفي المعجم الفلسفي – رؤية ماركسية: في الفكر العربي الإسلامي. كان مصطلح الثنوية يدل على النحل غير الأسلامية مثل المجوس والمانوية والديصائية والمزدكية القائلة بوجود مبدأين خالقين في الكون - الله والشيطان – الخير والشر، النور والظلمة، كما نعتوا بذلك المعتزلة لقولهم ان الإنسان خالق افعاله مما يعني وجود خالقين: الأله والإنسان، وكان ديكارت أكبر ممثل للثنوية في تاريخ الفكر الفلسفي لقوله بوجود جوهرين: روحي ومادي.

أما كون الزرادشتية دين سماوي أم أرضي فقد كانت الروايات مضطربة فيه بين مؤرخي الفرس والمسلمين، وبإمكاننا ايراد بعض هذه الروايات والآراء. ان بعض المؤرخين يقولون: ان الزرادشتية منزلة من السماء كالإسلام وهي في الأصل ديانة موحدة ثم تحولت الى ديانة ثنوية وتفرعت عنها الديانة المانوية.

ويخلط المسعودي في كتابه (مروج الذهب) بين الزرادشتية والمجوسية حين يقول: " ان زرادشت نبي المجوس " (مروج الذهب الجزء الأول).

ويرى البعض ان المجوسية شيء والزرادشتية شيء آخر، فالمجوسية هي دين جماعة من الناس كانوا يمارسون السحر ويعبدون النار.

وللشهرستاني في كتابه الملل والنحل (رأي آخر مغاير فهو يقول: " نشأ زرادشت الـــى أن بلغ ثلاثين عاماً فبعثه الله نبياً ورسولاً إلى الخلق. ويعد الشهرستاني في مقدمة مؤرخي الأسلام القائلين بأن الزرادشتية ديانة موحدة حين يقول في موضع آخر: وكان دين زرادشت عبادة الله والكفر بالشيطان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وانه فرض على أتباعه خمس صلوات، ويعاكسه (القلقشندي) بقوله " ان زرادشت أدعى النبوة ".

ومن خضم هذه الروايات المتضاربة يمكن أن نستنتج بأن الزرادشتية دين ثنوي وليس موحد كما انها ديانة وضعية من صنع زرادشت وان كتاب (الأفستا) وضعه هذا الرجل ولم يك منزلاً من السماء كما كان يدعى وكذلك يمكننا معرفة خصائص هذا الدين وان زرادشت مر بنفس المراحل تقريباً وتعرض لنفس المصاعب والمتاعب التي مر بها انبياء الشرق فسـيرة حياته كما وصفها مؤرخو الفرس تقول: انه عندما بلغ الثلاثين من عمره لجأ الى الكهوف والمغاور متأملاً امور الكون والأنسان وعاش حياة الناسك لا يأكل الا جذور النباتات ولكن في خلال العشر سنوات الأولى من دعوته لم يستجب له احد فلزمه الحزن الا ابن عمه (ميتوماه) نهض ليساعده ويشد أزره وحين بلغ (٤٢) عاماً أمره الألـــه (مزدا) أن يصدع بدعوته، وبينما هو بالقرب من أحد الأنهار متأملاً اذ رأى عموداً من النور يقترب منه فأخذته الرهبة غير انه طمأنه بأنه رئيس الملائكة وان الإله أرسله له، ثم طلب منه خلع ملابسه وعدما خلع ملابسه قام رئيس الملائكة بشق صدره وأخرج قلبه ثم غسله بالماء البارد تمهيداً للصعود به الى السماء كي يقابل الإله (مزدا) وعندما تم اللقاء القدسي هذا بين زرادشت والأله أبلغه الأله بالرسالة وأعطاه التعليمات الخاصة بها وأوضح له طريق الهداية لأمته بما سيملي عليه من آيات ستنزل تباعاً عليه من كتاب (الأفستا) (ثم زوده بتعاويذ وطلاسم تحميه من شر السحرة والشياطين.

وهكذا نجد ان للزرادشتية خصائص مذكورة في كتب التراث الفارسي منها مثلاً: ان هذه الديانة تقدس النار باعتبارها رمزاً للقوة الألهية وبذلك أسسوا معابد للنار سموها (هياكل النار) وعلى اتباع هذا الدين التوجه للنار او الشمس عند الصلاة، كذلك فإنها تؤمن بالحياة الأخرى بعد الموت ووجود مبدأ العقاب والثواب بحسب أعمال الإنسان. وذلك لأنها تعنى بالنواحي الأخلاقية وتدعو الى عمل الخير وتجنب الشرّ، ويعدون الله مصدر الحلال والإشراق. وتؤمن الزرادشتية بتعدد الزوجات لكثرة النسل ولذلك يقول عنها ابن الجوزي.. " انها تبيح زواج الأب من ابنته والأبن من امه والأخ من أخته. "

بعد هذا الانتشار للزرادشتية وبعد أن أصبحت الديانة الرسمية للأمبراطورية الساسانية طيلة أربعة قرون لعبت عوامل داخلية وخارجية دورها في انحسار هذا الدين حيث قتل زرادشت على يد الطورائيين الأتراك حين هاجموه وهو في أحد هياكل النار. أما العامل الثاني فهو دخول الأيرانيين الدين الأسلامي على أثر الفتح العربي الأسلامي لبلاد فارس في زمن الخليفة الثاني، الأمر الذي أدى الى هروب كثير منهم الى الهند، واليوم فهم يشكلون أقلية بين سكان ايران البالغ عددهم أكثر من (90) مليون نسمة ولا يتجاوز عددهم في ايران و ماحولها أكثر من (۳۰۰) الف نسمة، كما توجد أقلية منهم في كـــل من كندا والولايات المتحدة الأمريكية.

***

غريب دوحي

 

في المثقف اليوم