قضايا
حميدة القحطاني: حين يبتلع النجاح الروح...

هل أهدافك خارج ذاتك؟
في الصداقة والانفتاح الحقيقي على الآخر، نعيش حياة ثانية، حتى وإن لم نتلق نفس الانفتاح. نعيش جانبًا آخر من الحياة من خلال انفتاحنا، النظر بعين القلب والبصيرة إلى عالم الآخر القريب.
رأيتُ بأم عين روحي مقربين مني خسروا أنفسهم، ووقعوا في دوامة إدمان العمل، حتى أصبحوا يعانون من الاحتراق الوظيفي المستمر. أحيانًا، كانوا يظهرون كما لو كانوا سكارى، لكنهم لم يكونوا كذلك. ورغم أن هذه الفئة حققت نجاحات كبيرة على الصعيد المادي، وامتيازات وأموالًا وجاهًا، إلا أنني رأيتُ خسارتهم الحقيقية بوضوح، ولن أتمنى أن تكون أي من تلك النجاحات لي.
الحقيقة أنني أدركت من خلال انفتاحي على حياة هؤلاء الأشخاص، أن هناك من يجعل غايته تحقيق النجاح والوصول إلى أهداف معينة، فيغرق في المنافسة والصراع، ويهرول للعمل بكل طاقته للوصول إلى مبتغاه. في منتصف الطريق، يفقد حياة روحه تدريجيًا، حتى يخسر نفسه بالكامل.
هذا المشهد المؤلم جعلني أدرك أنه في كثير من الأحيان لا نستطيع تغيير واقع أحبائنا، والنصائح تصبح بلا جدوى. فهؤلاء يروننا من زاوية مختلفة، لم يعودوا يفهمون عالمنا، وأحيانًا يشعرهم واقعنا بالغربة.
هذه المشاهدة أثارت بداخلي عدة أسئلة:
- ما قيمة النجاح الذي أخسر معه نفسي؟
- ما قيمة الإنجاز الذي يفقد قدرتي على تذوق تجليات الجمال في الكون والطبيعة؟
- ما قيمة النجاح الذي يفقدني الشعور بالتعاطف والمحبة والسعادة؟
- أي خسارة أكبر من خسارة روح المشاعر والعواطف؟
- أي مكسب يتحقق مع بلادة المشاعر؟
- وأي رفاهية يمكن أن أتمتع بها مع غياب الوقت الذي أستمتع فيه مع نفسي، أفكاري، قناعاتي، تأملاتي، ومراجعة نفسي؟
لقد توصلت تقريبًا إلى إجابة، وهي أن هناك نجاحات مادية خارجية قد تطور الفرد ظاهريًا، لكنها لا تمس جوهره الداخلي. في هذا السياق، قد يتراجع الفرد داخليًا، ويبتعد عن الارتقاء الروحي، نجاح لا يجدك بل يفقدك. وفي المقابل، هناك نجاح ينبع من غاية ذاتية محورها تزكية النفس والارتقاء بها، حيث يتخلى الفرد عن أي نجاح يستهلك سلامه ووقته، ويبتعد عن كل ما لا يشبه روحه أو يشوه حقيقته.
في النجاح الداخلي يدرك أن الحياة الحقيقية تكمن في القرب من الذات الحقيقية داخلنا. كما صدق من قالوا إن الحياة البسيطة، مع إنجازات صغيرة تسودها النزاهة وقيم العدالة، تمنحك سعادة وسلامًا لن تجده في الإنجازات الكبيرة التي قد تُرهقك وتسبب لك احتراقًا نفسيًا، لتتحول إلى مدمن عمل قد يصبح نرجسيًا، لا يرى لنفسه أي قيمة خارج عنوان عمله.
***
د. حميدة القحطاني