قضايا

فضل فقيه: رؤية لا رجعة منها.. كيف تغيّرنا المعرفة؟

منذ لحظة تذوق الإنسان للمعرفة، لم يعد كما كان. كتب آرثر ميلر عبارة تلخص هذا التحول العميق: "لا يمكن إعادة التفاحة إلى شجرة المعرفة؛ فعندما نبدأ في الرؤية، نُصبح محكومين ومُطالبين بأن نجد القوة لنرى أكثر، لا أقل."

يشير ميلر في قوله هذا إلى شجرة الحكمة في سفر التكوين في العهد القديم. عندما أكل آدم وحواء الفاكهة الممنوعة، حصلا على الحكمة والمعرفة بالخير والشر، وخسرا موقعهما في الجنة. للقصة جوانب عديدة، وأحدها أن الإدراك يغيرنا بلا عودة. متى رُفع الغطاء عن جهلنا، نفقد براءتنا ونصبح جشعين نريد المزيد. سأحاول هنا أخذ قول ميلر هذا وإسقاطه على تطورنا وإدراكنا العلمي والفلسفي المتسارع. التفاحة في العهد القديم هي التلسكوب اليوم، هي الميكروسكوب والخوارزميات والنظريات الفلسفية. والمعرفة المتأتية منها تغيّر أنفسنا ومجتمعاتنا بشكل سريع ومخيف في الوقت ذاته. والسؤال هنا: هل تؤدي المعرفة إلى ضياع الإنسان أم إلى تحرّره؟

عندما نظر غاليليو بمنظاره إلى السماء وقدم أدلة تجريبية على أن الأرض تدور حول الشمس، لم يغير وجه علم الفلك فحسب، بل غيّر أيضًا رؤيتنا للعالم وموقعنا فيه. بهذا الاكتشاف، تحدّى غاليليو الكنيسة ومن في السلطة. لقد كشف عن حقيقة مُرّة آنذاك للجميع: لسنا نحن مركز الكون، بل نحن جزء لا يتجزأ منه، لكنه لا يدور حولنا. إدراك هذه الحقيقة أضاف للعلم لمسة من التحدي وأشعل التفكير النقدي، لكنه في الوقت ذاته أنتج حالة من الخوف والنكران والتساؤل حول معنى الحياة والوجود. ومن غاليليو إلى اليوم، يكاد لا يمر يوم لا نرى فيه مقالات تتحدث عن الذكاء الاصطناعي ومستقبله وحدود تطوره. كثير من هذه المقالات تطرح مخاوف ووقائع حقيقية حول مدى تأثيره على حياتنا وتفكيرنا. إذاً، فمنذ الثورة العلمية، لم تعد المعرفة مجرد معلومات نتشرّبها، بل أصبحت عدسة ننظر من خلالها إلى أنفسنا وكل ما يحيط بنا.

ولكن، ماذا نرى من خلال هذه العدسة؟ للإجابة عن هذا السؤال، نعود إلى قول ميلر، حيث ذكر أننا نصبح "محكومين" لنرى أكثر. رؤية "الأكثر" هي كل الأشياء الجديدة التي تترتب على ما اكتشفناه. غالبًا ما تتحدى هذه الأشياء ثوابت وأعرافًا متجذّرة فينا وفي مجتمعاتنا. وهذا يجعلنا نُسائل أنفسنا حول صحة هذه الثوابت وموقعها في العالم الجديد. غالبًا ما يرافق هذه الأسئلة نزق وجودي، وقد يؤدي ذلك إلى الخوف والقلق، وأحيانًا إلى التمرد على الواقع الذي كان الفرد يعيشه، وعلى الأفكار القديمة. وهذا ما قد يؤدي إلى السقوط في فخ العدمية. وهكذا، كان لكل اكتشاف عظيم أثر مضاعف: توسيع حدود المعرفة، وتوسيع رقعة القلق الوجودي. فحسب فلسفة فريدريك نيتشه، عندما تنهار البديهيات والقيم القديمة، يفقد الإنسان مرجعيته ويتحول الوعي إلى عبء وجودي. ومن هنا، دعا نيتشه إلى مواجهة العدمية من خلال الإرادة القوية وخلق قيم جديدة.

لكن ليس الجميع يرى في المعرفة المتزايدة لعنة أو عبئًا وجوديًا. فعلى النقيض من العدمية النيتشوية، نجد في أقوال علماء كريتشارد فاينمان وكارل ساغان موقفًا مختلفًا جذريًا؛ موقفًا يرى في الجهل نفسه جمالًا. يقول فاينمان: "من الأفضل أن نعيش بلا معرفة، على أن نخدع أنفسنا بأننا نعرف." وساغان بدوره احتفى بحقيقة أن الكون لا يمنحنا أجوبة سهلة، بل يدعونا باستمرار إلى السؤال. هذا الموقف لا يتجاهل التيه، بل يحتضنه كتجربة إنسانية نبيلة. وهكذا، حيث يرى نيتشه في سقوط اليقين بداية أزمة معنى، يرى هؤلاء العلماء في هذا السقوط فرصة لبداية حقيقية: لا نحتاج إلى أوهام كي نصمد، بل نحتاج إلى شجاعة السؤال، إلى ما سماه ميلر "القوة لنرى أكثر". وكأن المعرفة ليست ما يقودنا إلى العدم، بل ما يساعدنا على تجاوزه، حين نقبلها كرحلة، لا كملاذ. بذلك، يصبح التساؤل المستمر هو ما ينقذنا من العدمية، وليس ما يوقعنا فيها.

إذاً، فالمعرفة والإدراك المتناميان يفرضان صراعًا حتميًا بين الخوف من المعرفة والاحتفاء بالشك. إننا، في النهاية، مثل آدم وحواء، لا نملك ترف الجهل بعد أن تذوقنا المعرفة، لكننا نملك ترف اختيار كيف نتعامل مع هذا الإدراك والأزمات المترتبة عليه: بالخوف أم بالمواجهة.

***

فضل فقيه – باحث

........................

قراءات اضافية:

Nietzsche, F. Thus Spoke Zarathustra. 1884.

Feynman, R. P. The Pleasure of Finding Things Out. (Perseus Books, 1999).

في المثقف اليوم