قضايا
فؤاد الجشي: تأملات في رحلة الإنسان

عندما تغيب الشمس تميل النفوس إلى مخدعها بعد يوم طويل، يتحدثون عن يومهم في حزن وفرح، وآلام وآمال تنتظر أن تبصر النور يومًا ما، يتآلفون ويؤلفون بين الحقيقة والخيال، صراخ وهدوء، اختلاف وتوافق، صدق وكذب ونفاق ومجاملات، إنها مكتومة في بعضها لا يعلن عنها في حينها.
تلك هي ماهية الحياة تتطور بفعل اتفاقاتنا واختلافاتنا، منها عقول تضع الطوب فوق بعضه، ناهيك عمن يهدمها، الإنسان وحده عاشق لنفسه سرًا أو جهرًا، جميع الأحاسيس تعمل في آنٍ معًا، تستقبل ما أنتجته ذاته ورؤيته وتفسيره لهذا النشاط الأرضي، في النقاط الجمعي نفكر في أرضية سطحية لا تصل إلّا للمسافة نفسها، القليلون يحاولون التماس الأفق، والحقيقة التي لا نشعر إلّا بنسبيتها شعورًا، باستثناء العلم والمعرفة هي من تساهم في الهدف نفسه للتطور والمعرفة والفضول الذي لا يستقرّ.
في مرحلة الشباب تضاء الشموع بالأمل بين وهج ثابت في شكوكه، ومع مدار الإنسان وتجربته تتغلف الفكرة المتوسطة تدريجيًا، تصعد برؤية مختلفة، يقول دوستويفسكي: لا أستطيع الإفصاح عما أشعر به بشكل كامل، كذلك لا يمكنني محاولة ذلك، ينبغي أن يكون هناك شيء مجهول في داخل الإنسان.
الجهل عتمة مخيفة، نفق مظلم، لكنه مستقيم تبنى عليه أفكار، تغيّب المعرفة يعطل الإبداع، رياح لا تعرف وجهتها تحطم السكون، تمضي بلا غاية، لكنّ الحياة تعود بثوب جديد تقف كأنها تُبعث من رمادها، تظهر وجهها الوضاء بعد العاصفة، كأنها تقول لا شيء يدوم، لا الرياح ولا الانكسارات، يعود اللحن كما أنتجه الإنسان، يروي ذات القصة بألوان مختلفة شاهدًا على القدرة في لحظات الشك والصمت.
يستمر الوجود بقياسه الثابت بين الطبيعة والسماء، ويظلّ العقل يفتش عن المكنون في أسرار الكون ونفسه، يبحث عن الحقيقة عن الغايات والمعاني يحاول فك شفرة الحياة بجداله المعرفي وفي ذاته لا يرتوي ولا يقف أمام ما يجهل، يبدأ بخياله وينسج أساطيره في حدود الزمان والمكان يبني عوالم موازية، يمنح نفسه القوة يخلد أفكاره وأحلامه، شاهدة على قدرته على الابتكار ورغبته في تفسير المجهول.
يفنى العقل بفعل طبيعته البيولوجية في رثاء مؤقت بعد ولادة أخرى تكمل المسير في نسيج متصل لا ينقطع بل يتجدد، يقول الفيلسوف الفارابي: إنّ العقل هو القوة التي تمكن الإنسان من إدراك الحقائق والمعاني المجردة. لا شيء أفضل من الماضي ولا الماضي أفضل من الحاضر، إنها بحار سبعة تموج بين بقدرته، وهذا الإنسان العظيم يرى ويسمع ويغامر بفكره وإبداعه وجسده لمعرفة الحقيقة التي لم نصل إليها بعد، بل لا نزال نلامس أطرافها على شواطئ المعرفة اللامتناهية.
إنها عقول لا تغفر لنفسها تحمل أعباء الماضي كأنها سلاسل لا تنكسر، تعيد التفكير في كلّ خطأ، تعيش دوامة الندم، وتنسى أنّ الحياة تمضي، قسوتها أنها لا تكترث بكسراتك وانفعالاتك، تنظر إليك كأنك لم تكن، تحاول أن تلفت انتباهًا، تبوح فلا تبالي، تقترب ثم تبتعد، قسوتها ليس صراخًا، بل غياب الشعور فراغ قاتل يتركك تتلاشى شيئًا فشيئًا، حتى تصبح ذكرى على هذه الأرض، يقرؤك الخلف بألحانه المتعاطفة، ينقد غيابك في نبض أنغامه، يحاول الزمن استعادة ما كان، يمسك بطيفك بين الأيام، إنها رحلة الأيام السبعة، تزيد أو تنقص هذا شأنها،، هل فكرت يومًا، ماذا نفعل في هذه الحياة؟، وبين المحطة الأخيرة تتجلى حقيقة الرحلة التي لا تستطيع الحروف كتابتها، إنها البعد الأخير. انتهى.
***
فؤاد الجشي