قضايا

رائد عبيس: الفلسفة المؤسسية في البلدان العربية.. من فرضية الجدوى إلى واقعيتها

في السنوات الأخيرة، شهدت الفلسفة تراجعًا داخل الأوساط الأكاديمية. ولقد أصبحت الفلسفة التي كانت ذات يوم تخصصًا مزدهراً خارج حدود الجامعة، معزولة بشكل متزايد داخل الأقسام الأكاديمية والمجلات العلمية. وقد ترافق هذا التحول مع التخصص المفرط الذي غالبًا ما ينتج نثرًا غير قابل للاختراق وقاحلًا من الناحية الأسلوبية. في حين قد يجادل البعض بأن القوى الأكبر التي تؤثر على العلوم الإنسانية كلها هي المسؤولة عن هذا التراجع، فمن الواضح أن الطرق التي يتم بها متابعة الفلسفة وإدارتها تلعب أيضًا دورًا مهمًا. لكي تستعيد الفلسفة أهميتها ومكانتها في الأوساط الأكاديمية، يجب عليها إعادة التعامل مع جوهرها الحقيقي: طرح أسئلة ذات معنى واستكشاف الادعاءات الجريئة.

يمكن إرجاع تراجع الفلسفة إلى الأوساط الأكاديمية إلى أوائل القرن العشرين عندما بدأت التطورات التكنولوجية والثورات العلمية في تحولات المجتمع الغربي. وكان لهذه التغييرات آثار بعيدة المدى على مختلف التخصصات، بما في ذلك الفلسفة، وبينما سعت المجالات الأخرى إلى محاكاة العلم بطريقة ما، خضعت الفلسفة أيضًا للاحتراف والتخصص.

ومع ذلك، على عكس التخصصات العلمية حيث يمكن حل الخلاف من خلال الأدلة التجريبية، فإن الخلافات الفلسفية تميل إلى أن تكون غير قابلة للحل في نهاية المطاف لا توجد طريقة محددة لتأكيد أو دحض وجهات النظر الفلسفية بخلاف تقديم أسباب اعتناقها، هذه الطبيعة المتأصلة للفلسفة تجعلها مناسبة لطرح الأسئلة بدلاً من تقديم الإجابات. لسوء الحظ، عندما أصبح الفلاسفة أكثر رسوخًا في المساعي الأكاديمية، أصبح عملهم منفصلاً عن الخطاب العام. كان تراجع الفلسفة داخل الأوساط الأكاديمية يعني أن عددًا أقل من الأشخاص تعرضوا للأفكار الفلسفية خارج دورات المستوى التمهيدي التي تتطلبها برامج التعليم العام. وبالتالي، غالبًا ما واجه الطلاب " الفلسفة" كوسيلة لكبار أعضاء هيئة التدريس للتخلص من واجبات التدريس بدلاً من اعتبارها مجالًا محفزًا فكريًا للبحث.

أدى تراجع الفلسفة في الأوساط الأكاديمية إلى التركيز على التخصص الفائق بدءًا من كلية الدراسات العليا فصاعدًا، لقد تعمق الفلاسفة بشكل متزايد في مجالات بحثية ضيقة، مما أدى إلى مشاريع تقنية تتميز باللغة التي لا يمكن اختراقها والجفاف الأسلوبي. في حين أن هناك مكانًا للعمل الفني والتحليلي في الفلسفة، فإن هيمنة مثل هذا العمل قد طغت على الجوانب الأوسع والأكثر تأملية في هذا التخصص.

تاريخيًا، أنتجت الفلسفة أعمالًا كانت في متناول جمهور أوسع وتناولت القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية الملحة. وابتكر مفكرون مثل بيكو ديلا ميراندولا وإيراسموس ومونتين أعمالًا فلسفية لاقت صدى لدى الناس من جميع مناحي الحياة. لم تكن هذه الأعمال صارمة فكريًا فحسب، بل كانت أيضًا جذابة بشكل إبداعي.

لاستعادة مكانتها الاجتماعية وأهميتها داخل الأوساط الأكاديمية، يجب على الفلسفة إعادة اكتشاف قدرتها على التعامل مع الأسئلة الكبيرة واستكشاف الادعاءات الجريئة. ينبغي تشجيع الفلاسفة على متابعة مشاريع تأملية أكبر لتستحوذ على الخيال وتتخطى الحدود. ومن خلال إعادة التأكيد على الإبداع إلى جانب مخرجات البحوث في تقييم أعضاء هيئة التدريس، تستطيع المؤسسات الأكاديمية أن تعمل على تعزيز بيئة مواتية للتساؤل الفلسفي الذي يتجاوز الجوانب الفنية الضيقة.

ما يميز الفلسفة عن التخصصات الأخرى هو قدرتها على طرح أسئلة عميقة تتحدى المفاهيم المسبقة حول العالم الذي نعيش فيه. غالبًا ما تقودنا الاستفسارات الفلسفية إلى إعادة تقييم معتقداتنا وافتراضاتنا الأساسية. تفتح عملية التساؤل هذه طرقًا جديدة للاستكشاف وتساعدنا على فهم أنفسنا ومكانتنا في العالم بشكل أفضل.

في حين أن الفلاسفة قد لا يقدمون إجابات محددة على هذه الأسئلة، إلا أنهم يلعبون دورًا حاسمًا في تشكيل الخطاب العام من خلال إثارة قضايا مهمة يجب على المجتمع التعامل معها. إن رؤاهم في الأخلاق، والسياسة، وعلم الوجود، ونظرية المعرفة، وعلم الجمال - من بين مجالات أخرى - تقدم وجهات نظر قيمة حول التجارب الإنسانية المعقدة.

تمتد مساهمات الفلسفة إلى ما هو أبعد من الأوساط الأكاديمية؛ لقد أثروا في مجالات متنوعة مثل الأدب، والفن، والعلوم، وتطوير التكنولوجيا، وصنع السياسات، ومن خلال إدراك هذه الإمكانات متعددة التخصصات المتأصلة في اتساع موضوعات البحث الفلسفية، فمن الممكن للفلسفة أن تستعيد مكانتها كمجال حيوي داخل كل من الأوساط الأكاديمية والمجتمع ككل.

هل يكمن إعادة تصور دور الفلسفة:

لتنشيط الفلسفة داخل الأوساط الأكاديمية، من الضروري إعادة تصور دورها والغرض منها. ولا ينبغي للفلسفة أن تقتصر بعد الآن على جدران المؤسسات الأكاديمية فحسب؛ وينبغي أن تشارك بنشاط في المجال العام. و يجب على الفلاسفة المغامرة خارج نطاق المكتبية الخاصة بهم والإنشغال بإيصال أفكارهم بطرق يسهل الوصول إليها والتي يتردد صداها مع جمهور بطريقة واسعة .

وبدلاً من التركيز فقط على التفاصيل التقنية، يجب على الفلاسفة أن يتبنوا مشاريع تأملية أوسع تستكشف الروابط بين التخصصات وتعالج التحديات المجتمعية، وهذا يتطلب الابتعاد عن الاتجاه الحالي للتخصص المفرط نحو نهج أكثر شمولية وإبداعا.

إن تراجع الفلسفة داخل الأوساط الأكاديمية لا يرجع فقط إلى عوامل خارجية تؤثر على العلوم الإنسانية؛ كما أنه يتأثر بمشاكل الفلسفة الداخلية، من خلال إعادة الاتصال بطبيعتها الجوهرية كمجال يثير أسئلة مهمة ويستكشف الادعاءات الجريئة، وبهذا تتمكن الفلسفة من استعادة أهميتها داخل الأوساط الأكاديمية والمجتمع ككل.

ولكن وسط هذا التفاؤل الذي يبقى قائماً ما دام الإنسان حياً ومفكراً، تعلن الأوساط الفلسفية العربية والمصرية مفاجئتها من قرارات وزارة التعليم العالي والتربية في مصر من إلغاء الدرس الفلسفي من الثانويات العامة. ونرى أن لا محل لهذه المفاجئة ما دام هناك تاريخ من التفاوت والمفارقات في التعامل مع الفلسفة في قرارات وزارات التعليم العالي والتربية في البلدان العربية عامة. فبلداننا تتعامل مع الفلسفة والدرس الفلسفي في خجل ووجل، بين محرم لها كما كان حالها في السعودية، وبين من يبيحها ويسمح بها ولكن لا يرى جدوى عملية منها. ولعل انعدام الجدوائية العملية هي التي دفعت الحكومة المصرية إلى إلغائها من التعليم الثانوي في عامها الدراسي 2025. ولعله نفسه جعل الحكومة العراقية ووزارة التربية لم تدخل الدرس الفلسفي بشكل موسع في الثانويات العامة. وأبقت على درس هامشي لم يدخل حتى في التقييم العام للطالب طيلة عقود من تاريخ (الفلسفة المؤسسية) في العراق، وللإضافة لا يوجد في العراق إي جمعية فلسفية على الرغم من وجود 6 أقسام فلسفة، وهناك أعداد كبيرة من خريجي الفلسفة فيه. فهناك تفاوت كبير في العراق في التعامل مع الفلسفة، يضع الفلسفة في موقف اللاجدوى، وهذا التفاوت هو بين وجودها المؤسسي في وزارة التعليم العالي وتقليصها المؤسسي في وزارة التربية، مما يضعها مخرجاتها في موضع البطالة أو البطالة المقنعة . على عكس الأمر في دولة مصر العربية الشقيقة فيها كرسي اليونسكو للفلسفة، وفيها جمعيات فلسفية، وهذا ما يمكنها من توسيع تشاطها مجتمعياً تعوض به إلغاء (الفلسفة المؤسسية) من ثانوياتها. أما موقف الفلسفة في الجزائر الشقيق فعل هناك مساحة جيدة بين التعليم الجامعي للفلسفة والتعليم الثانوي، فضلاً عن انتشار الجمعيات الفلسفية فيه ولاياتها. ولعل موقفها في المغرب العربي مشابه للحالة الجزائرية، أما موقف الفلسفة في لبنان فهو أيضا متأرجح في الإهتمام الحكومي بين التعليم الجامعي والثانوي على مستوى المناهج وجدواها. أما في سوريا فالأمر مشابه تقريبا للحالة اللبنانية، أما في الخليج العربي فهو يتعاطى معها بشكل محدود جداً على مستوى الدراسة والبحث، ولعله لأسباب إيديولوجية كما هو الحال في السودان.

وما يُثير الأشكال أكثر في تعاطي البلدان العربية المتفاوت مع الفلسفة بالطريقة "المؤسسية" هو إن هناك تيارات فكرية تصنف بما يعرف (تيارات الفكر العربي المعاصر) إي أنه نتاج منظومة فكرية عربية مؤسسية تبعاً للإيديولوجيا التي تحملها سواء كانت قومية، أو شيوعية _ ماركسية، أو وجودية، أو ناصرية، أو مادية، أو عدمية، الهم إن يكون هناك متبنيات فكرية تحمي الدرس الفلسفي في إطاره المؤسسي، ليكون نافذتها للخطاب النخبوي والعام. ولكن حتى هذه البنية في التكوين الإيديولوجي للفلسفة داخل العقلية العربية لم يعد له وجود في الغالب. لذلك الفلسفة فقدت جدوائيتها العملية في التداول العام. وما يزيد الأمر تعقيداً هو ذلك الاختراق الكبير لعالم التكنولوجيا الرقمي والذكاء الأصطناعي وما يقدمه من بدائل عملية لتساؤلات طارئة وحلول سريعة. جعل الأمر يختلف تماماً عن العقلية التقليدية في التعاطي مع الفلسفة وقيمها الغنوصية. وهذا الواقع الجديد الذي وقعت به الفلسفة لا يخص (الفلسفة المؤسسية) عربيا ًبل حتى غربياً، وقد نوهنا لهذا الأمر في بداية المقال.

لذلك نعتقد ان الأمر مرتبط بالدرجة الأسس في الجدوى الفعلية من قيمة (الفلسفة المؤسسية) داخل المؤسسة أولاً، ورغبة الطلبة ثانياً، ولو المؤسسات المصرية عملت استبيان عن رأي الطلبة في قرار الوزارة بشأن إلغاء درس الفلسفة، نعتقد أن الإجابة ستعكس مستوى الرضا عن هذا القرار وتأييده.

***

الدكتور رائد عبيس

في المثقف اليوم