قضايا

آمال طرزان: صرخة زوجة قهرها إهمال الحكيم.. زوجة سقراط المجني عليها

ومع مجىء الليل الدامس، استيقظت على صوت صرخات باكية قادمة من كل حدب وصوب؛ فاندفعت نحو النافذة ألتمس سر هذه الأصوات. وإذا بامرأة مرتدية ثوبًا أسود قاتمًا، تحمل مصباحًا لينير طريقها المعتم. اقتربت المرأة شيئًا فشيئًا من نافذة غرفتي، وكأنها تريد محادثتي، لم أملك إلا أن ألبي نداءها؛ فخرجت مسرعة باتجاهها ولكنها اختفت كلمح البصر. ومع ذلك تتبعت صوت الصرخات المدوية، فقادتني إلى قصر عتيق تبدو عليه علامات الشيخوخة من نوافذه المتعددة تطل نساءً كثيرات، وفي إحدى هذه النوافذ ذات الزجاج المحطم رأيت السيدة حاملة المصباح. اتجهت بخطوات قلقة نحو القصر؛ ففوجئت بأستاذي د. "حليم عثمان" و د. "نجيب راشد" وصديقتي الصدوق "نور الهدي"، وإذا د. "حليم عثمان" قائلًا: كأنما الأمر لم يكن وليد المصادفة؛ لابد من أن السيدة حاملة المصباح قد جمعتنا هنا لغاية في نفسها.

-  نعم أستاذي هناك شيء ما وراء هذه السيدة ومصاحبتها للأصوات الباكية. لم يتحدث أستاذي د."راشد"؛ ولكنه كان ينظر نظرة فاحصة إلى القصر المنهك، وبادر بفتح بابه الحديدي للدخول. ووجدنا مصباحًا مشتعلًا بجوار المدخل، حمله  أستاذي "د.عثمان" وتتبعنا هذه الأصوات لتقودنا إلى حديقة القصر حيث السيدة حاملة المصباح يبدو على وجهها الذل والانكسار؛ فقد جفت عيناها الحمراوان على إثر دموعها المنهمرة ، وقد كانت متكئة على إحدي شجرات الحديقة الباكية.

السيدة: قائلة بصوت مبحوح لقد استدعتكم هذه الصرخات لتعبر عن الظلم الذي طال النساء منذ فجر التاريخ الإنساني، قد ظل الرجال يبطشون بنا ويسعون إلى تهميشنا وحرماننا من أبسط الحقوق المشروعة. وها أنا واحدة من تلك الأصوات المعذبة. أتتذكرين كلماتي ا.آمال لا توجد فائدة.

- نعم أتذكر هذه الكلمات يوم لقائنا سيدة "زانثيب" زوجة الفيلسوف "سقراط"، والأم لأبنائه الثلاث إمبروكليس وسوفرونيسكوس ومينكسونوس، فقد علمنا من تراث الفكر الفلسفي بعلاقتك غير المثالية بزوجك الحكيم، مع أنه كان ملهمًا لكثير من البشر. (1)

- زانثيب: تنهدت بحزن وبصوت مكسور قائلةً: مع أن الحكيم كان ملهمًا لكثير من البشر لم يحقق التوازن والانسجام في علاقته معي كشريكة دربه، والسبب في ذلك –كما يقال-  "هو تأنيبي وتوبيخي المستمر له؛ بسبب عدم تحمله المسؤولية والاهتمام بعائلتنا، فأصبحت في نظر الجميع الزوجة التي تتصرف بأسلوب ينافي اللياقة والآداب التي يجب أن تتسم بها المرأة الأثينية؛ لكثرة توبيخ الحكيم أمام أصدقائه".[1] (1)

-  أشعر من حديثك أن كل ما تحلمين به هو ما ترغب فيه أي امرأة أن يشاركها زوجها تحمل مسؤولية شؤون عائلتهما. وهذا للأسف ما يفتقده الحكيم لعل كثرة  تأنيبك وإلقاء اللوم عليه أمام  الجميع، أحدث خللًا في العلاقة الزوجية بينكما.

- نور الهدى: سيدة "زانثيب" مع هذه الخلافات وعدم التوافق بينكما؛ فلماذا اقترن الحكيم بك؟

-  زانثيب: يبدو على ملامح وجهها علامات الألم والأسى قائلةً:  في قصة زواجنا ذكريات تنقر على أوتار قلبي نغمات الحسرة والشجن "فقد كنت أصغر من "سقراط"  بقرابة 35 عامًا عندما تزوجته"، وأكثر ما يؤلم قلب المرأة قد فعله بي منزل الفلسفة من السماء إلى الأرض؛ فعندما سُئل عن سبب اختياره لي كرفيقة دربة، لم يذكر أنه انجذب إلىَّ؛ بسبب جمالي أو حبه لي، بل قال: إنه اختارني؛ لأنني كنت ذات طبع عصبي وناري، وكان يرى في ذلك فرصة لتحفيز تفكيره الفلسفي وتدريب نفسه على المناقشات الجدلية([2]) (2) . وأعتقد أنه إذا استطاع أن يتعامل معي بانسجام، سيتمكن من التحدث مع أي شخص في أثينا.([3])([4])  (3) (2) وأصبحت مقولته الشهيرة "تزوج يا بني فإن وفقت في زواجك عشت سعيدًا، وإن لم توفق أصبحت فيلسوفًا ترمز لتسلطي وشراستي معه([5]). (4) وما أغرقني في بحر الحزن حديثه عن إعجابه بحكمة "ديوتيما" فقد وقف منها موقف التلميذ من الأستاذ ليقتبس منها، ويتلق عنها معرفة الحب باعتبارها معلمته في الحب[6]، إلى جانب إعجابه بفصاحة "إسبازيا" فهي من علمته البيان([7]).(5) ومع حبي الشديد له إلا إنني اشعر أن الحياة انطفأت بداخلي من شدة تهكمه عليَّ وإعجابه بالأخريات.

نور الهدي: أشعر من نبرة صوتك صدى المعاناة من هذا الوضع المميت لمشاعر أي أنثى - سيدة "زانثيب"-  عندما تكتشف أن شريك دربها لم يتزوجها بدافع الحب والاهتمام. وللأسف الشديد كان الحكيم أنانيًّا بشكل لافت للنظر؛ فشغله الشاغل الانغماس في عالمه الفكري والفلسفي وزواجه منك فرصة لتطوير مهاراته الجدلية والفكرية دون أن يضع في الاعتبار مشاعرك كأنثى.

-  زانثيب: لم يكن هذا كل شيء أستاذة "نور" فعلى الرغم من مشاركته بانتظام في المناقشات الفلسفية، إلا إنه رفض قبول أي مقابل مادي نظير هذه المناقشات؛ فقد كان لديه قناعة راسخة بأن السعي وراء الحكمة والحقيقة هي الهدف الأسمى للفيلسوف. ومن ناحية أخرى، لم يكن لديه وظيفة أو مصدر للدخل المادي لإعالة عائلتنا[8]، لكن ماذا عن وضعي ووضع أبنائنا؟ هل عائلتنا في دائرة اهتمامات وتفكير الحكيم كمناقشاته الفلسفية التي لا تنقطع؟ الحقيقة أنه لم يضع في اعتباره رعاية أسرته وتوفير احتياجاتها[9].

- د. عثمان: لقد تخلى "سقراط "عن دوره كرب أسرة ومعيل لهم، لينشغل بمناقشاته الفلسفية تاركًا عليك "زانثيب" عبء الإنفاق والرعاية. وهذا، لا شك، ينهك قدراتك البدنية والعاطفية، بوصفك المسؤولة الوحيدة عن توفير الاحتياجات المادية للأبناء. لعلك انتابك الشعور بالقلق الدائم على مستقبل أبنائك.

-  يبدو لنا أن ارتباط الحكيم "سقراط" بالحياة الفلسفية جعل السيدة "زانثيب" تشعر بأنها مهمشة؛ فأخذت تعاني من الوحدة والحرمان؛ بسبب إهمال أبي الفلسفة اليونانية لها، وهذا النوع من الإهمال العاطفي من جانب رفيق الدرب يعذب توأم روحه. وأخذت التساؤلات تراودني هل كان سقراط يدرك مدى تأثير غيابه على زانثيب؟

- زانثيب: الأسوأ من ذلك طالما كان زوجي الحكيم ينغمس في حالة السُكر خلال تلك الندوات الفلسفية التي يحضرها الرجال فيشربون من وعاء نبيذ مشترك، وبمجرد أن يصبح الجميع لطيفين، تبدأ المناقشة الفلسفية أما أنا فأظل وحيدة في منزلي، أترقب عودته في وقت متأخر من الليل تسكنني الهموم لرؤيته بعد أن أفرط في شرب النبيذ[10]. (3) أليس بإمكان سقراط أن يقضي بعض الوقت مع عائلتنا؟ ألم ينتبه لحالة الحزن والانكسار التي تخيم على مشاعري؟

وتستمر زانثيبي في الحديث أريدكم مشاركتي لحظة وداعه الأخير يوم إعدامه فعندما دخل أصدقاؤه إلى الزنزانة، كنت أجلس بجانبه، ممسكة بطفلنا الأصغر بين ذراعي. غارقة في بكائي عليه فأخذت انتحب وأندب.  أتعتقد د. "عثمان" أنه أخبرني بحبه لي؟ هل احتضن طفلنا وقبله وأخبره أن كل شيء سيكون على ما يرام د. "راشد"؟ أنه طلب من أحد أصدقائه إيصالي للمنزل دون وداع[11].(5)  حاولت "نور الهدي" تضميد جراح "زانثيب" وتخفيف وطأة المحنة التي أثقلت كاهلها مبررةً موقف سقراط قائلةً:

- نور الهدى: ربما  أراد إبعادك عن الزنزانة حتى لا تشاهدي المشهد المؤلم لحظة إعدامه وهو يعلم مقدار حبك وتعلقك به؛ فأراد أن يجنبك لحظة الفراق المميتة لقلبك. [12](3)

زانثيب: كلا عزيزتي أراد الجلوس مع أصدقائه وتلاميذه آخر لحظاته مصممًا على إكمال مناقشته الفلسفية.[13](3) عن خلود النفس قبل رحيله[14].(6)

- نور الهدي: لقد أصبح أمر العلاقة بين "زانثيب" وسقراط واضحًا للجميع؛ لقد كان زوجًا وأبًا فاشلًا في كثير من الجوانب. وللأسف الشديد أن تصور سقراط  السلبي عن زوجته بصفة خاصة والمرأة بصفة عامة ؛ إنما يعكس رؤية المجتمع اليوناني القديم للمرأة والذي امتد عبر العصور الفلسفية إلى يومنا الحالي. وفي هذه اللحظة راودني تساؤل هل كانت زانثيب على حق تمامًا في كل ما أثارته من شكاوى ضد سقراط؟ أم أننا  في حاجة إلى مزيد من التحري والبحث للوصول إلى الحقيقة؟ وهنا تحدثت زانثيب بصوت مفعم بالحزين والشجن .

- زانثيب: ومع عدم رعاية واهتمام زوجي بي وبعائلتنا إلا إنني لم أعمم ذلك على  كافة الرجال والفلاسفة. فقد رأيت كيف يُظهر د. "عثمان" الحرص والاهتمام بحفيدته "كنزي" وكيف يعتني د. "راشد" بابنه "أسلم" وإخوته. لقد تمنيت أن يقدم زوجي الحكيم "سقراط" هذا النوع من الرعاية .

-  أوصلتنا "زانثيب" إلى خارج القصر قائلةً كل ما أتمناه منكم نقل صوتي إلى الحكماء والمفكرين إلى ضرورة تغيير الصورة النمطية عن بنات حواء. وهنا قاطع د. راشد الصمت متحدثًا

د. راشد: أذكركم جميعًا أننا  في حاجة ماسة إلى الدعوة للتكامل بين «إيزيس» و «أوزوريس» على مستوى الحياة الخاصة والحياة العامة والحرص على دعم الأسرة بوصفها النواة الأولى في تكوين مجتمعاتنا وتقدمها. والحرص على معالجة غياب النساء واستبعادهن من السجلات التاريخية على مر العصور من خلال إبراز الدور الذي مثلته النساء في كافة  المجالات التاريخية والسياسية والأدبية والفلسفية والعلمية وغيرها.

ومع مولد الفجر الجديد خرجنا من القصر العتيق المتهالك، وتفرق  كل من أستاذيّ وصديقتي عند مفترق الطرق. وتركني الجميع وحيدة وحائرة أمام هذا التشعب من الطرق إلى أين اتجه؟ وفي هذه اللحظة همس في أذني صوت جدتي "حتشبسوت"، إن مأساة النسوة في زمن مُنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض تحتاج منك أن تتقدمي بثبات نحو هذا الطريق وتتطلعي إلى آفاق جديدة بصحبة "الهرمنيوطيقي العربي"، ترى إلى أين سيأخذني هذا الطريق؟ ومن يكون الهرمنيوطيقي العربي؟

***

د. آمال طرزان - مصر

........................

المراجع:

https://www.encyclopedia.com/women/encyclopedias- almanacs- transcripts- and- maps/xanthippe- c- 435- bce

https://totallyhistory.com/socratess- wife- xanthippe/

Van Bryan: Five Reasons Why Socrates Was A Terrible Husband, In March 3, 2014

https://classicalwisdom.com/people/philosophers/five- reasons- socrates- terrible- husband/ , In: 14/5/2024,  10:25 pm.

(4) مصطفى غالب: سقراط في سبيل موسوعة فلسفية، ط1، دار مكتبة الهلال، بيروت،1989م، ص 11.

(5) إمام عبد الفتاح إمام: نساء فلاسفة في العالم القديم، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1996م، ص175-  158

(6) يوسف كرم: تاريخ الفلسفة اليونانية، مؤسسة هنداوي، 2017 م، ص7.

معًا نحو حركة نسوية شرقية

 

في المثقف اليوم