قضايا
محمـــد سيـــف: رِهـــانُ العقـــل على المِحَكّ

"العقل هو عبد الانفعالات، ويجب أن يكون كذلك فقط، ولا يمكنه أبدا أن يدّعي القيام بأي مهمّة أخرى غير خدمة وطاعة هاته الانفعالات" (1) هكذا صمَّم ديڤيد هيوم في القسم الثاني من رسالة في الطبيعة البشرية (A Treatise of Human Nature) أنْ يرسيها عبارةً متمرّدة على كل تمويه يدفع المعنى لانزياح مشوّه أو تلطيف مُخِلّ، وكأنّه يرومُ من خلال ذلك أن يطلقها صرخة مدوّية بأنّ العقل الذي ما ننفكّ نراهن عليه ونفاخر بحيازتنا إياه مَائِزًا دُونًا عن بقية الكائنات الحية، ما هو سوى أداة متحيّزة حتى النخاع، وليس مصدرًا مطلقًا للصواب، فلا يتأهّل للركون إلى حكمه على وجه اليقين، وهيوم إذْ يلقي على العقل رداء العبودية، يشير بوضوح إلى أنه إنما يأتي في درجة لاحقة في سلّم تَبَنّي الأحكام، وليس مؤسِّسا إياها إلا بقدر ما يُظهر وَهَجَها ويُخبّئ قَتامَتها، تماما كرجل دين يشرعن مراسيم سلطانه! بِلَيّ عنق الأدلة؛ كرمى رضاه ونَواله!
وفي (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة) يؤيّد برتراند راسل جرأة هيوم كليا، مؤكدا في سياق المصدر الحاكم والمهيمن على ما يَنِدّ مِنّا مِن سلوكيات على أنّ "الانفعالات هي الأسباب الممكنة الوحيدة للتصرفات، والعقل ليس المسبب للتصرف بل هو المنظّم له فحسب" (2) فهو بذلك - أي برتراند - يحدد على نحو دقيق دورَ العقل في مَعْمعة تفاعلنا، إذْ ينحصر في العملية التنظيمية، والانتقال بين حُزمة ما سمحت له الانفعالات بالطَّفْو على مسرح الاحتمالات، لكن أن يكون المسبِب؟! كلا، هكذا ينظر إليه برتراند، فهو يرى العقل منظِما في الوقت الذي يراه هيوم مبرِرا، وكلاهما يتفق على أن دور العقل لاحقٌ مُتَلَقٍ، خاضعٌ تحت إِمْرة الانفعالات!
ليسا وحدهما، فها هو غوستاف لوبون في الآراء والمعتقدات ينص على أنّ العقل "يذعن على الدوام لأكثر اندفاعاتنا العاطفية والدينية والمخالفة للصواب كي يزكّيها"(3) مُعزّزا فكرة أنّ العقل يمكن أن ينقلب على نفسه ويناقض نتائجه ومبادئه - كمنافق متزلّف - إذا ما كانت الانفعالات منحازةً ناحية جانب ما، وبهذا فليس كل ما يصدر عن العقل معقولا - إنْ صحّ التعبير - ويردف غوستاف ذلك بصفعة صارمة: "والواقع هو أنّ الآراء اليومية تتكوّن مستقلة عن كل عقل، وقد لا تكون ضد العقل" فهناك - بحسب غوستاف - مصنع ينتج آراءَنا ذو استقلالية - ليست منفصلة - عن عقولنا التي نحسبها واهمين أن الحكم مَرَدُّه إليها! ومرةً أخرى، فقد تتساوَقُ وما يليق بالعقل تبنّيه، وقد يكون لا، إذْ ينكص على عقبيه معلنا إيمانه بآلهة الانفعالات التي لا شريك لها!
إنّ عقولنا - شئنا أم أبينا - محدودة من ناحية، ومَشُوبة بالكثير من الانحيازات التي تدفعها يمنة ويسرة، وتشكّلها عوامل شتّى، فخُذْ مثالا على ذلك التشوّه المعرفي الذي يظهر في أشكال عِدّة متنوّعة، فالعقول ليست وحدة تحكيم مُبَرّأة من الزلَل والخَطَل، بل يجري عليها ما يجري على كل نسبيّ متأثّر، والاتكاء عليها جزما، والتعويل عليها بإطلاق، والتعامي عن طبيعتها النسبية ما هو إلا وهمٌ لا يصمد أمام الواقع إطلاقا، أَفَتقودنا عقولنا أم تقودنا انفعالاتنا متنكّرة في هيئة العقل ومنتحلةً صفته الحاكمة؟! يبدو أنّ الأخيرة يدعمها العلم والواقع.
نعم، كل شيء يمكن تبريره عقليا! ولذا تَحُفّ بأحكامنا العقلية شبهةُ المَيل لصالح رغباتنا المستعِرة ومحاباة انحيازاتنا المتغوّلة فينا، وهذا خطير، غير أنّ الأخطر منه حين تُضْفى على الحكم العقلي مَسحةُ الديني، فيكون الاجتهاد العقلي مقرونا بالتقديس، ومتبوعا باستباحة الإنسانية في أبشع تمظهراتها حين النظر إلى المختلف، فيصبح الحكم العقلي للمتدين عَين كلمة إلهه، التي من خالفها فقد تنازل عن حقه في الاحترام، بل الحياة في أحايين كثيرة!
فإذا كان ذلك كذلك، فإنه لا يمكن منح مُنتَج العقل طابعا مجرّدا عن انفعالاتنا خصوصا المتقادم والناشبة بمخالبها عميقا فينا، فأحكامنا هي نتاج شبكة معقدة متداخلة وليس عملية خطية (Linear) يُعرف مُبتدؤُها ومُنتهاها.
أريد أن أنتهي من ذلك إلى أنّ قابلية أحكامنا للتفاعل والتأثّر طبيعة حتمية، وهذا مما ينبغي أن نتماشى معه لا أنْ نرفضه، على أن يتم وفق حذر شديد ومراقبةلا هوادةَ فيها!
ومن الإسقاطات المهمة والحيوية في إطار التنظير الذي نحن بصدده، ما لَفت النظر إليه باروخ سبينوزا في سياق (عبودية الأذهان) في الفصل العشرين: (حرية التفكير والتعبير مكفولة لكل فرد في الدولة الحرة) من رسالة في اللاهوت والسياسة: "فمن المُحال أن نمنع الناس من الاعتقاد بأنّ آراءَهم الخاصة أفضل من آراء الآخرين، وبأنّ اختلاف الأذهان لا يقل عن اختلاف الأذواق" (4) حيث يُجلّي سبينوزا حقّ الفرد في تبنّي آراء مستقلّة من جهة، وأن تفاوت الآراء وتعارضها طبيعي جدا بين الأفراد من جهة أخرى، كحال الذوقيّات تماما، إذن نحن إزاء عملية ذهنية تستند لهذا الحق الطبيعي، ثم ممارسة تعبيرية، والتي قد تترتّب عليها سلوكيات محددة، كل ذلك مستند إلى أنّ الأحكام العقلية لا يحكمها منطلق موحّد وإلا لما تباينت إفرازات عقولنا! كما أننا مدفوعون بما يتجاوز التعقّل، أعني انفعالاتنا في مفهومها العريض.
وعليه؛ فثمّة ثلاثة مستويات: تفكير وتعبير وسلوك، وبما أن الفرد هو جزء من كيان يتبعه، فإن كل تلك المستويات الثلاثة تتم بشكل جماعي مختلف ومتعارض.
وعليه؛ فإن فهمنا لحدود هذه (المساحات الفردية) داخل (الإطار الجمعي) ضروري جدا في تفاعلنا مع الآخرين، وما ذاك إلا نتاج نسبية أحكامنا العقلية، فمن جهة يجب احترام أصالة الحق في هذه (المساحات الفردية)، ومن جهة أخرى يجب (التنازل) عن جانب منها، وهو المتمثّل في حرية تصرّف الفرد كيفما شاء بلا ضابط؛ هذا التنازل يأتي لضمان أمان (الإطار الجمعي) إذ لو كانت الحرية مطلقة لتمزقت المجتمعات بتصادم أفرادها، ولَطَغَتْ شريعة الغاب؛ فننسلخ من ماهيتنا الإنسانية.
إن هذا التنازل لا يعني إطلاقا الرضوخ لآراء الآخرين في بعض الأفكار واستقلاليتها في البعض الآخر، بل يعني تكييف الممارسات على المستوى السلوكي بما يكفل استمرارية النمو المجتمعي، أما على المستوى الذهني، فسلب الحرية في تبنّي الفرد ما يشاء وإصدار الأحكام في ضوء ما يرى، يتجاوز ضرره الفردي ليكون مفسدة مجتمعية؛ إذ ينشأ لدينا مجتمع مكوّن من موجودات عاقلة مسلوبة الحق الأسمى في التفكير والتعبير، وبوظائف بشرية مشوّهة، ويمكنني الزعم بملء فِيّ أنّ الإرادة الفكرية الفردية ضرورة مجتمعية!
إذا كنّا سننتهي من هذا بشيء فلعله سيكون ضرورة محاولة تجنيد العقل بعيدا - قدر وُسعنا - عن المؤثرات غير الموضوعية، مع الانتباه إلى دورية مراقبة أدائه، ومن المفارقات العجيبة أن الدماغ يمتلك القدرة على مراقبة نفسه بنفسه! كما أشارت لذلك دراسة علمية(5) مهمة نشرتها مجلة علم الأعصاب الإدراكي (Journal of Cognitive Neuroscience) قبل شهر من الآن، تحت عنوان: (Monitoring Attention in Self and Others) تناولت تحليل نشاط الدماغ(6) أثناء التفكير فوق المعرفي (Metacognition) ومع ذلك لا يمكننا الاتكال بالكليّة على الخصم حَكَما! وإنما النظر إليه من حيث كونُه أداة مساعدة، وأداة لا عِوَض لنا عنها، فهذا أقصى ما نملكه، العقل! كما أنّ نسبية الأحكام العقلية - شكليًا كما أوضحناه بدايةً من حيث تَحَكُّم الانفعالات - يجب أن تؤسّس لمجتمع يَقبَل مآلات أحكام أفراده العقلية على اختلاف أطيافهم، وما تقوده إليه من ممارسات متفاوتة أو الإفصاح عنها على أقلّ تقدير!
***
بقلم محمـــد سيـــف
..........................
الهوامـــش:
(1) رسالة في الطبيعة البشرية (في الأهواء) (ج2)، ديڤيد هيوم، ص217، الهيئة العامة السورية للكتاب، 2008
(2) المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، برتراند راسل، ص4، مكتبة الأنجلو المصرية
(3) الآراء والمعتقدات، غوستاف لوبون، ص154، الأهلية للنشر والتوزيع، ط1، 2016
(4) رسالة في اللاهوت والسياسة، باروخ سبينوزا، ص454، مؤسسة هنداوي، 2020
(5) للاطلاع على الدراسة العلمية:
(6) قد يَلحظ القارئ أني لربما أقول بترادف العقل والدماغ، إلا أنّ الأمر ليس كذلك بالمرّة، فأنا ممّن يفصلون بينهما، ولكنّي في هذا المقال رميت تناول العقل بما هو أداة التفكير بدون الولوج للحدود الفاصلة بين الدماغ والعقل.