قضايا
رشيد الخيّون: طمس التَّاريخ.. إلغاء مواطنة نوري السّعيد
تناولنا في المقال السّابق، على صفحات الاتحاد (25/10/ 2023)، طمس إرث السّنوسيّة، وبالتالي إلغاء أثر المَلك المؤسس للدولة اللِّيبيّة الحديثة إدريس السّنوسيّ(تـ: 1983)، والعبث بتاريخ أحد أعلامها عمر المختار(أُعدم: 1931)، في ترجمة كتاب «عمر المختار وإعادة الاحتلال الفاشيّ لليبيا»، وقد هيجت تلك القصة مواجع تَجْرِيف التّاريخ، بما هو أشد وأنكى.
أفصحت زينة فلاح صباح نوري السَّعيد، عن واقعةٍ خطيرةٍ، في تاريخ العراق المعاصر، ألا وهي طمس تاريخ أشهر رئيس وزراء عراقيّ، واقعةٌ لم تسجلها الأقلام، ولم تتداولها الألسن، أنهت ماضي أسرة بغداديّة عريقة، جاء ذلك في سياق حديثها عن أسرتها آل السّعيد (قناة الفلوجة 6/ 6/ 2017).
قالت: إنَّ عمَّها عصام صباح السّعيد سعى إلى إعادة جنسيته العراقيّة؛ وكان موجوداً بلندن، عندما قُتل والده صباح وجده نوري (غداة 14 تموز 1958)، وقد اعتذرت دائرة الأحوال المدنيّة عن تلبية الطَّلب لعدم وجود قيد لأسرته، فالقيد جُرف مِن السّجلات تاماً، ولم يعد رئيس وزراء العراق نوري السّعيد لأربع عشرة وزارة، وأحد بناة الدّولة العراقيّة الحديثة، عراقيَّاً، ولحق الشّطب أحفاده، حتّى هذا اليوم.
لقد راجعت زينة وأختها، بعد (2003)، السّفارة العراقيّة، بالعاصمة الأردنيّة عَمان، فطُلب منها أوراق إثبات لجدها نوري السّعيد، ومنها شهادة ميلاده، فلم تنجح المحاولة للسبب نفسه، فيبدو تزامن قتل الجد وتَجرِيف تاريخه مِن قيد النُّفوس، وهنا نتكلم عن الحقّ الطَّبيعيّ بالمواطنة، والأمر يتعلق بأبناء وأحفاد، أمّا بقية المتعلقات كالمُلكيَّة الشّخصيّة، مِن العقار والمال، فلا أحد يسأل عنها، فِمن المؤكد أنَّ السّعيد كانت لديه دارٌ يرثها الأحفاد، وهذا متعذراً أيضاً بسبب مصادرة «الأموال المنقولة وغير المنقولة». ليس أكثر مِن سماع هذه العقوبة، على جُناة السِّياسة خصوصاً، لأنها كانت تُذاع عبر الرّاديو، وتنشر في الصُّحف.
إنها عقوبةٌ قديمةٌ، كثيراً ما نقرأ خبرها عند الإطاحة بوزير أو قاضي قضاة، أو أيِّ موظف كبير، على مدى تاريخ العهود العباسيّة ببغداد، بما عُرف بـ«المصادرات»(المُصادرات لتحسين حميد مجيد)، حتّى يومنا.
كان طمس المواطنة جارياً بشكل سريّ وعلني، كإسقاط الجنسية العراقيّة الأصليَّة، ولغرض سياسيّ. طال ذلك أعضاء في أحزاب سياسيّة، والأكثر مورس ضد يهود العراق(1951)، يوم تقرر السَّماح لهم بالمغادرة بشرط التّخلي عن المواطنة. حصل ذلك في العهد الملكيّ، الذي فتح هذا الباب وظل مفتوحاً، حتّى كان أفظعها عمليات التّهجير في الثّمانينيات، التي طالت الألوف المؤلفة ممِن عرفوا بالتّبعية وغيرهم، حيث الرّمي خارج الحدود، مع إسقاط القيود.
لم يكن شطب القيد أو التَسجيل، وبالتالي المواطنة، مقتصراً على آل السّعيد، كي نقلل مِن شأن عدم الاكتراث بها، مِن قِبل السَّاسة في مذكراتهم، ومِن قِبل أصحاب الأقلام، وبينهم مَن يعرف ذلك، وشهد الوقائع أو سمع بها، إنما يخص شعباً كاملاً، قامرت به السّياسة، حتّى لم تعد المواطنة ذات شأنٍ.
إنّها فاجعةٌ أنْ تعترف بوطنك ولم يعترف بك، كم تدنيه وكم يُقصيك، ولمعروف الرُّصافيّ(تـ: 1945): «هي المواطن أدنيها وتقصيني/ مثل الحوادث أبلوها وتبليني/ كأنني في بلادي إذ نزلتُ بها/ نزلتُ منها ببيتٍ غير مسكونِ»(الدِّيوان 1959).
صحيح أنَّ آل سعيد، أصبحوا مواطنين بدولة أخرى، عُزوا بها كلَ العزِّ، فلا يحتاجون جنسيةً ولا جواز سفرٍ، لكنه حقّ المواطنة الأصل، ففلاح وعِصام ابنا صباح السّعيد، تركا بغداد، والعِراق في ذاكرتهما كان وطناً وليس فندقاً.
لم تكن لآل السّعيد قصورٌ، كالخضراء اليوم، كي يبكوها، والقول لأحمد شوقيّ(تـ: 1932)، في عزل عبد الحميد الثّاني(1908): «ذَهب الجميع، فلا القصو/ رُ تُرى ولا أهل القصورِ»(الشّوقيات)، لكنَّ جرح المواطنة يبقى ثاغباً، عبر الأجيال.
***
د. رشيد الخيون