قضايا
عبد الخالق الفتلي: العنف الرمزيّ احتيالٌ أخلاقيّ
يضرب العنف جذوره في الفعل التاريخي للبشر، فمنذ فجر الطبيعة والإنسان يَقمع و يَضطهد ويَتحايل على أبناء جنسه، وتكشف قصة الحضارة عبر سيرورتها الطويلة ما أُزمت به الأرض من جرائم عرقيّة وصراعات دينيّة.
واللافت أنّ الحضارة كلما تقدّمت بالإنسان أسرع ليتوّسلها في ابتكار أدوات خطيرة للتحايل وأساليب مختلفة للترميز العنفي، والذي يظهر أنّ منطقة العُنف تتشخّص بطبيعة العلاقة المركبة بين (المُعنِّف والمُعنَّف)؛ فلا يختار المعنِّف إلا الأسلوب المتاح له إمكاناً والمؤثّر تمكّناً بالآخر المعنَّف به، ولعل أبرز معايير اختيار أسلوب العنف هو ما تتلذذ به الطبيعة البشرية وما يغطس في لا شعورها من أنانيات متراكمة، فذو الطبيعة الشرسة لا يفضّل الأسلوب العنفي الذي يختاره ذو الطبيعة الهادئه!
حدّثني أحد الأصدقاء الكادحين في سبل العيش، أنّ مرؤوسه في العمل إذا سخط عليهم، أثقلهم بساعات عمل طويلة أزاء أجر زهيد، حتى إذا اقترب رأس الشهر أبطأ عليهم استحقاقهم قصداً منه، وتمنّن لسانه جميلاً عليهم، والتوت كلماته بما يبرّر أفعاله، وقد يرهف جسد بلغةٍ تلوح بما هو ودود وتخفي ما هو أناني، ويستطرد الصديق ليقول:(إنّ بعض العاملين معنا ينصاع للباقة حديثه، وآخرين يقتنعون بتبريراته، وطرفاً ثالث يفضّل أن يتعايش بصمت)
في هذه القصة الحيّة تلّبس العنف بثوب يبدو لطيفاً وعقلياً (التمنّن الجميل، التبرير المنطقي)، ولكنّه في الحقيقة يضمر ما هو قهريّ وتحيّزيّ وإجباريّ.
يشخّص علماء الانثروبولوجيا هذا النوع بالعنف الرمزي، ويعني أن يفرض المسيطرون طريقتهم في التفكير والتعبير والتي تكون أكثر ملائمةً لمصالحهم وتسلّطهم عبر أسلوب لطيف وعذب
والأخطر من هذا ما ذهب إليه بورديو أنّ العنف الرمزيّ قد يكون " غير مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم، عنف يمارس عبر الطرائق والوسائل الرمزية الخالصة".
ويظهر أنّ استعماله الرموز هو ما يجعله خفيا من جهة وهلامياً واسعاً من جهة أخرى، فالرموز تتعدى ما هو لساني لتشمل الأيقونات ولغات جسد ونبرات الصوت وكل هذه علامات قد تتخفى لتطلب ذهنية وقادة لتشخيصها، الرموز عالم واسع وفضاء متحرّك.
العنف الرمزي هو ايديولوجية تعمل بخلسة على توجيه ضحاياها واستغلالهم بالكيفية التي تريد، وقد يكون غير مرئي لأنّه يأخذ حالة بداهة مُلقنة مؤسّس لها لا يحق لأي أحد الخروج عليها، وقد يكون مبطّن بمشاعر معنوية وبتواصل حميم يصعب معها كشفه، العنف الرمزي يصادر حقوق العقل والوجدان معاً.
أظن أنّ هذا النوع هو أكثر أنواع العنف شهرتاً وتأثيراً في عالم يكتظ بالتكنولوجيا وماكنات التواصل الاجتماعي فمع السيولة المستمرة للحداثة الرقمية والفهم المغلوط للحرية، اتسعت أشكال العنف الرمزي وأخذت صوراً عديدة من الابتزاز والتشهير والتنمّر.
أتساءل أخيراً، عن امكانية معالجة هذا المشكل، هل يمكن للدين بما يوفّره من رقابة وجدانية وايقاظ للضمير أن يخفف حدّة هذا النوع من العنف؟
هل للعقد الاجتماعي والقوانين الوضعية أن تحجّم مَن يعنّف الآخرين رمزياً؟
هذه أسئلة ملحّة تنتظر جواباً واقعياً.
***
عبد الخالق الفتلي