قضايا
محمد حبش: الحشاشون
ومناسبة الكلام بالطبع هو المسلسل الذي يتصدر الجدل الإعلامي في رمضان 1445، وهو حديث النقاد والمحللين والخبراء الإعلاميين، وهو يضيف للأسف وقوداً جديداً لمحرقة الكراهية بين السنة والشيعة التي باتت أكثر ما يواجهه المشرق العربي تحديداً من نار البغضاء.
بالطبع لن أتناول الأمر هنا من زاوية نقدية إعلامية، فلست من أهل الاختصاص، ولكنني سأتكلم في الأمر من زاوية تاريخية بحتة، وبمقارنة موضوعية وهدفي بالطبع هو التقليل من الآثار الضارة التي يلهبها في العادة هذا اللون من المسلسلات من الكراهية بين السنة وبين الشيعة.
والمقصود بالحشاشين أبناء المذهب الاسماعيلي الكرام، الذين يتوزعون في فرقتين كريمتين الأولى هي الداودية وتعرف أيضا بالبهرة المستعلية، والثانية هي الآغاخانية وتعرف بالنزارية.
والحشاشون كما يقدمهم المسلسل هم أسلاف الطائفة النزارية الآغاخانية الاسماعيلية، ولمن لا يعلم فالآغانية اليوم عدة ملايين ينتشرون بشكل أساسي في سوريا والعراق والهند وباكستان، ولهم وجود قوي في أوروبا حيث يقم رأس هذه الطائفة الكريمة الآغاخان كريم الدين، وهو زعيم عالمي نادر، أطلق أكبر وقفية تنموية غير حكومية في العالم باسم شبكة الآغا خان، وتقدر الإيرادات التي تحققها الشبكة لعام 2022 بمبلغ 4.5 مليار دولار تعمل في نحو عشرين بلداً نامياً، لتحسين حياة الأفراد في الأرياف خاصة.
أما ظهور الاسماعيلية في التاريخ فإن شيعة أهل البيت انقسموا بعد موت الإمام السادس جعفر الصادق 766م إلى فرقتين اتبعت الأولى موسى الكاظم والأئمة من بعده إلى الثاني عشر وهؤلاء هم الجعفرية الإمامية الاثني عشرية الذين يحكمون إيران اليوم، والثانية اتبعوا اسماعيل بن جعفر وهو الأخ الأكبر لموسى الكاظم، وقد واجهوا اضطهاداً عنيفاً، واعتصموا بالستر والتخفي نحو 150 عاماً حتى ظهر إمامهم عبيد الله المهدي معلناً قيام الخلافة الفاطمية 909م وهي الخلافة التي أنشأها الاسماعيليون وقادت الغرب الإسلامي في أفريقيا وكذلك الشام والحجاز واليمن لمدة 270 عاماً ونشرت الثقافة والعمران والفنون في مصر بشكل قوي ومتين.
وقد استمرت الاسماعيلية مذهباً واحداً إلى وفاة المستنصر الفاطمي 1029م حيث انقسمت إلى فرقتين النزارية والمستعلية، وهنا ظهر الحسن بن الصباح داعياً لنزار ومعارضاً للدولة الفاطمية، ورحل من مصر إلى العراق ومنها إلى جبال نهاوند حيث استولى على جملة قلاع سلجوقية أهمها قلعة آلموت المحصنة، ومنها قاد كفاحاً ضارياً لنشر المذهب الاسماعيلي، كما قاد في الوقت نفسه حركة متميزة لنشر الفلسفة والعلوم والحكمة.
وبعيداً عن طبيعة المسلسل، والصورة البشعة التي يقدمها للحسن بن الصباح تحت اسم مؤسس الحشاشين المتوفى 1127م، وهو رجل يحظى باحترام كبير لدى الطائفة الاسماعيلية، فإنني أريد تقديم عدد من الحقائق:
لم يذكر أي مؤرخ إسلامي على الإطلاق كلمة الحشاشين وصفاً للطائفة الاسماعيلية النزارية، ولا لجماعة الحسن بن الصباح، على الرغم من أن كثيراً من كتب التاريخ ترجمت للحسن بن الصباح بالتفصيل، ولكن مصطلح الحشاشين غير وارد على الإطلاق في اي من كتب التاريخ المعتمدة التي عاصرتهم، ولم يرد ذكر كلمة الحشاشين في الكتب التاريخية الرئيسية التي أرخت للاسماعيلية خاصة تاريخ ابن عساكر وتكملة الطبري والقلانسي وابن الأثير وابن كثير وابن الجوزي والبنداري وابن بشكوال وأبو شامة وابن خلدون، حتى الغزالي وابن تيمية في فتاويهم المتوحشة لإبادة الاسماعيلية فإنهما لم يذكرا مصطلح الحشاشين على الإطلاق، حيث كانا يفضلان صطلح الباطنية، وجميع هذه الكتب شرحت باستفاضة حركة الحسن بن الصباح وخلفائه ولكن لم يذكر أحداً على الإطلاق لفظة الحشاشين اسماً لهم.
والعجيب أن المحققين لهذه الكتب يذكرون في الحواشي دوماً أن المقصود هم الحشاشون مع أن هذه الكتب الأصلية لم تستخدم أبداً هذه اللفظة.
أول مرة وردت لفظة الحشاشين لوصف هذه الطائفة كانت في رحلة بنيامين التطيلي وهو حاخام يهودي كتب وصفاً لرحلته التي قام بها في الشرق الإسلامي لتقصي أحوال اليهود وذكر فيها أن أربعة آلاف يهودي كانوا يعيشون في جبال نهاوند ويطيعون شيخ الحشاشين، دون أن يذكر أي تفصيل عن شيخ الحشاشين ولم يأت بحرف للحديث عن الطائفة الاسماعيلية.(رحلة بنيامين التطيلي المتوفى 569ه) وقد طبعت الرسالة بتحقيق المجمع الثقافي بأبو ظبي.
ولو سألت أي مؤرخ مسلم إلى عام 1800 عن الحشاشين فسيكون جوابه لم أسمع بهذا الاسم من قبل، ولم يكتب عنهم بهذه الصفة أي مؤرخ على الرغم من أن كتابات كثيرة تولت الهجوم على الاسماعيلية وحركاتهم المناوئة للخلافة العباسية وللسلاجقة، فمن أين جاء اسم الحشاشين إذن، وكيف صار هذا الاسم اليوم شائعاً لوصف هذه الطائفة الإسلامية الكريمة؟
كتب الباحث سامي مبيض في مقال له بمجلة المجلة 19/3/2024: "أول من حاول تسليط الضوء على ظاهرة الحشاشين كان المستشرق الفرنسي دنيس ليبي دي باتيلي Denis Lebey de Batilly، الذي جاء على ذكرهم في 1603، لكنّ أول من ذكرهم في سياق المذهب الإسماعيلي كان المستشرق الفرنسي بارتليمي دي إربلو Barthalemy de'Herbelot في "الموسوعة الفرنسية المشرقية" عام 1697. وفي سنة 1809 كان البحث الأهم للمستشرق سلفستر دو ساسي Sylvester de Sacy الذي أكد أن كلمة "الحشاشين" انحدرت من العربية، وأنها استُخدمت للحطّ من شأن جماعة الصبّاح أكثر من كونها صفة حقيقية لأفعالهم".
ولكن الصورة الشائعة اليوم عن الحشاشين تعود بشكل أساسي إلى المؤرخ البريطاني ول ديورانت 1981م الذي جمع إلى هذه الأقوال تصورات منسوبة إلى الرحالة الإيطالي ماركوبولو المتوفى 1324م، الذي زار الصين وعدداً من بلاد الشرق الإسلامي، صرح فيها بأنه يروي حكايا سمعها من الناس عن قلعة آلموت وذكر الحسن بن الصباح ولكن لم يذكر كلمة الحشاشين، ولكنه ذكر أن الزعيم الاسماعيلي كان قد أعد حديقة في فناء القلعة كثيرة الخضرة والثمار وفيها من النساء الحسان والبيوت المطلية بالذهب، وكان يعد تلامذته بتدريب قاس، ثم يسقيهم شراباً مخدراً، ويدخلهم الحديقة فيظنون أنهم في الجنة، وينالون ما يريدون من الخمرة والنساء ثم يخرجهم منها قبل أن يفيقوا، وكان في ذلك يعدهم لمهام الاغتيال الانتحارية ويعدهم بالجنة، فإن قتلوا رفعوا إليها في السماء، وإن نجوا أخذهم إليها في الأرض، وذلك تفسير إقدامهم بقوة وشجاعة على العمل العنيف الانتحاري.
والواقع أن الكلمة التي نقلها سلفستر دي ساسي عن وصف الاسماعيلية النزارية بالحشاشين تأسيساً على عبارة assassins التي وصفهم بها باتيلي نقلاً عن العربية تحتمل ثلاثة معان، وهي إنكليزياً تعني الاغتياليين الذين يقومون بعمليات اغتيال لخصومهم، كما تحتمل عربياً معنى الحشاشين، كما تحتمل وصف الأساسيين الأصوليين، والاحتمالات واردة، ولو كان المراد الحشاشين بالفعل لاستعمله خصومهم خلال التاريخ الذين كتبوا بشدة في مهاجمتهم ولكن لم يصفهم أي مؤرخ مسلم بوصف الحشاشين.
قناعتي أن الثوار النزاريين في قلعة آلموت كانوا لوناً من اليسار الإسلامي الغاضب، وكانوا يحملون أفكاراً تحررية وثورية ناقمة، ويحملون تأويلاً باطنياً للقرآن الكريم، يتيح لمفكريهم أفقاً أوسع من الاجتهاد.
من المؤكد أني لا أريد رسم صورة وردية للثوار النزاريين، خاصة أنهم أولغوا في الدم، وذلك في سياق حروبهم مع خصومهم من السلاجقة تحديداً، ولا شك ان لديهم سجلاً من الاغتيالات أبرزها اغيال الوزير السلجوقي الأشهر نظام الملك عام 1092م وكذلك اغتيال القائد الصليبي كونراد بعد مائة عام 1192م، ووصولهم إلى خيمة صلاح الدين وزرع خنجر قرب رأسه كناية عن قدرتهم على اغتياله، ولكن يجب أن نفهم ذلك في سياق نزاع تاريخي وتطاحن سياسي وردود أفعال لا تنتهي.
الثوار النزاريون تمردوا على الحكم العباسي خاصة بعد دخوله في الكنف السلجوقي، وكانوا دوماً بمثابة اليسار المتطرف في مواجهة النظم السياسية في المنطقة، وعلى الرغم من نزاعهم مع العباسيين فإنهم كانوا يشكلون قوة مقاومة صلبة في وجه الصليبيين وكذلك في وجه المغول، والواقع أن كل جهود العباسيين والسلاجقة والأيوبين للقضاء على الجماعة النزارية باءت بالفشل حتى كانت النهاية على يد هولاكو الذي حاصر قلعة آلموت ثم اقتحمها ببطش شديد 1258م، وبعد سقوط آلموت بأشهر قليلة استطاع هولاكو سحق بغداد وارتكاب أكبر مجزرة في التاريخ الإنساني.
لا أدري بالضبط كيف ستمضي حلقات هذا المسلسل الصاخب، وكل ما أرجوه أن لا يكون ذراعاً أسود لنزاعات الكراهية في المنطقة، وأن يقدم الصورة الممكنة من التاريخ، بحياد ودقة، وأن لا يحقق لدعاة الكراهية مزيداً من الحجج لصناعة البغضاء بين السنة والشيعة.
***
د. محمد حبش