قضايا
عبد الامير كاظم زاهد: معطيات فلسفية عابرة للزمن في أطروحة النائيني
تنطوي أطروحة النائيني تنبيه الامة وتنزيه الملة على مجموعة معطيات لم تعبر فقط عن زمنها بل تخطت في حيويتها الازمان اللاحقة وهي اليوم لاتزال بلسما لمعضلات قائمة ومنها:
1- انفردت الاطروحة في اكتشاف نقطة الارتباط والتوازن بين الدين كمصدر أساس للمعرفة والعقل الحضاري وبين النزعة المدنية التي أصبحت ضرورة وليست خيارا وذلك لتطور الحياة والتكنولوجيا ووسائل الاتصال والتواصل وتعقيد عملية الإنتاج وسبل الإفادة من الثروة الطبيعية والبشرية فلم تعد الثقافة الدينية بمكوناتها التاريخية حلا لمشاكل العصر كلها لاسيما مع توقف حركة التفكير والاجتهاد في الكلام والفقه وانحسار الجهد المعرفي بالشان الديني التاريخي وضمور الإنجازات التطبيقية وبسبب جمود التفكير الشرقي وعودة الغرب للهيمنة على بلاد الإسلام محملا بالانجازات التقنية التي وظفها لازاحة السائد الديني من واقع دنيا البلدان التي سلخت من الإمبراطورية العثمانية بعد خسارتها في الحرب الأولى 1914-1918 وتحول تلك الولايات الى دول صغيرة رسمت الدول المنتصرة حدودها ونظمها وقوانين مجتمعاتها فكانت مجاميع تلك الشعوب التي كانت مكبلة ومقهورة بنظام امبراطوري كان المحتم عليها طاعة الخليفة وتطبيق احكامه الفقهية التي يرجحها والتي لم يجر عليها تحديث وفقا لمتطلبات الازمان اللاحقة لزمن وقف الاجتهاد واقصاء العقلانية والمنطق وفجاة تستفيق على الغرب قد اغتال نظام الخلافة فتبنت الطبقات المحافظة مبدأ استعادة الخلافة والرجوع الى قوانين الفقهاء و بناء الدولة الدينية والإصرار على اعتبار المدنية غربة ثقافية وعصيان للدين وخضوع لارادة الغرب.
وقبالتها جماعة ادركت خطر التخلف التقني والاقتصادي وطالبت بان تكون الدولة مدنية وعلى وفق المسار الأوربي للخلاص من شقاء الانسان والتخلف والخضوع الابدي لقوة الغرب. فكانت رؤية رسالة تنبيه الامة الا تتبنى الامة القطيعة الكلية او الأغلبية مع الدين وقوانينه ولا تغرق في نزعة مدنية منفصلة عن تراث ثقافي صاغ العقل السياسي والاجتماعي للامة منذ الف واربعمائة سنة لكنها أيضا قررت الا تهمل اكتساب الخبرة والفكر المنهجي الأوربي والعلوم الحديثة وإقامة الدولة على أساس مدني لكن يجب ان يكون مرتبطا بتراثه وموظفا الانتماء الديني لخدمة تطلعات الانسان التي تتفق مع مقاصد والشريعة وبذلك تخلصت نظرية النائيني من كونها في طرف العصا الذي يظل قلقا للخلل في التوازن من الطرف الاخر لذلك نجد انها قد انحازت الى هذه التوازنية وفيما بعد اثيتت تجربة اليابان وسنغافورة وماليزيا وربما البيرستريكا في الصين ان تلك التوازنية هي الحل الانجح مقابل مقاربتين عدة (العلمانية هي الحل) و(الإسلام هو الحل).
2- مقابل نظرية اننا جزء من الامة الإسلامية (التي تحتاج الى خليفة الهي او الى ولي فقيه مرشد الهي ايضا) فينازعها اتباع الأديان الأخرى كونهم من امة دينية أخرى او من مذاهب أخرى لاترى الولاية للفقهاء وكذلك مقابل اننا جزء من الامة القومية (العربية او الكردية او التركمانية ...الخ) اوجزء من امة الرابطة الفكرية مثل العالم اليساري المتضامن مع الدولة اليسارية الام كالاتحاد السوفياتي اختارت أطروحة النائيني مصطلح الامة الوطنيةational nation وجعلت الرابطة الإخلاص للوطن وحمايته مع المواطن والسعي لرفاهه وعزته ومستقبله.
3- تبنت الاطروحة ان الفلسفة السياسية التي يجب ان تعتمد في دولة ما بعد سقوط الانموذج الامبراطوري العثماني فلسفة دولة ترسم الجغرافية ملامحها وتكون حدودها الجغرافية ميدان تطبيق سيادتها اما امتداداتها دينيا او قوميا او أيديولوجيا فيجب ان يوظف لاعلاء شان الوطن وخدمة شعب الوطن فهي تؤسس للمواطنة التي تتبنى شعار الوطن أولا وثانيا وعاشرا وبذلك فهي لا تعادي الإسلام والمسلمين ولا تتبنى رؤية الإسلاميين في بناء الدولة والشان الاجتماعي على أساس تاريخي ولا تضحي بمصلحة للوطن لصالح المسلمين خارج الوطن وترى ان الاخوة الدينية والقومية عاطفة محترمة لكنها ينبغي الا تكون مؤثرة على مصالح الوطن والمواطن ورفاهيته وتمتعه بثروات بلده.
وهي كما لا تتقبل الأيديولوجية القومية والاسلاموية والارتباط العرقي والديني الا انها ترى ان القومية انتماء غريزي محترم كانتساب الى عرق بشري لكن الانسان حرا في اختياره ان يبني تجربته على أساس أولوية الوطن والمواطنة.
وثالثا لاتتبنى الاطروحة الارتباط بدولة اجنبية كائنة ما كانت بسبب الأيديولوجيا كارتباط دول من العالم الثالث بالاتحاد السوفيتي بسبب الايمان بالعقيدة الماركسية فليست الاطروحة عرقية ولا ايدولوجية ولا دينية بالأساس لكنها لا ترى مانعا من توظيف هذه الامتدادات لصالح الوطن والمواطنة
4- لا تتبنى أطروحة النائيني فكرة دولة المكونات والطوائف كالانموذج اللبناني انما تنصهر فيها كل الأعراق والأديان والمذاهب والثقافات والتراث التاريخي في مركب المواطنة الممتازة والاطروحة تنقل النظام الاجتماعي من نظام الرعوية للسلطان او الخليفة الى مواطن كامل المواطنة الدستورية.
5- تعلن أطروحة النائيني – بعد ان عاش عالمنا المتعب نظام حكم استبدادي يتمتع الخليفة فيه بكل الصلاحيات وبقداسة مستقرة على انه النائب عن النبي ص الذي استمر الف وثلاثمائة عام ان النظام الاصلح هو نظام الدولة الوطنية الدستورية البرلمانية القائمة على أساس شورى فعلية وحقيقية ومجالس نيابية بدائرة واحدة وتقسيم العمل بين السلطات التشريعية والتنفيذية وان يكون القضاء مرتكزا على اجتهاد القضاة ونزاهتهم المثلى والفصل المرن بين السلطات وان يكون دور الدين ومهمات العلماء ترصين الايمان والأخلاق فمتى حصل خلل في هذه التوصيفات تقف الاطروحة صارمة وفورية باتجاه التغيير نحو مقتضى الاطروحة.
6- تقدم الاطروحة رؤيتها النقدية للديمقراطية الغربية بوصفها ترى ان المؤهل وغير المؤهل يشارك في صنع القرار للوطن والأمة الوطنية فهي ترى ان صناع القرار هم المتعلمون والعلماء والمثقفون والمهنيون وهؤلاء من حقهم الترشيح والانتخاب ويحق ان يتم اختيارهم للمهام التنفيذية لكن على أساس انجازاتهم ونزاهتهم ومهنيتهم الأفضل فالامثل فيكون المجلس النيابي مجلس يتقن التشريع ويتقن الرقابة بلا استغلال للموقع ويكون المجلس التنفيذي امهر من يحول الخطط الى حقائق على الأرض ويتطور القضاء بالاجتهاد والتعمق واحقاق الحق والعدل.
***
ا. د. عبد الامير كاظم زاهد