قضايا
جاسم بني عرابة: (هوياتيٌّ أيضًا!).. دفاعا عن الهوية العربية
"واعتقادنا أن النهضة لم توفق هذا التوفيق إلا لأنها امتازت على ما تقدمها من النهضات بمزيتين ظاهرتين: أولاهما أنها كانت نهضة أمة كاملة وجدت زعيمها ولم يكن زعيم رهط محدود أو طبقة خاصة، والثانية أنها طلبت الاستقلال حيثما وجدت إليه سبيلا ولم تقيده بوسيلة من الوسائل أو نظرية من النظريات" (العقاد في كتاب سعد زغلول زعيم الثورة). لا يهدف هذا المقال للتنظير لماهية الهوية وتعريفاتها والخلافات الفلسفية والاجتماعية وغيرها حولها، وإنما ينطلق من مشكلة ازدادت في الظهور بقوة بعد السابع من أكتوبر وبدء عملية طوفان الأقصى، وهي التشكيك في الهوية العربية والاستنقاص منها، مما يسبب مشكلة أعمق، لأن الصراع مع دولة الاحتلال ليس سياسيا وعسكريا واقتصاديا فحسب، بل هوياتيٌّ أيضا!
إن نقاشا قديما كان يجري والهدف منه تفتيت أطراف ومراكز الهوية العربية بهدف الوصول إلى حالة من الهويات المتعددة -غير العربية- في العالم العربي، وقد ذكر جمال حمدان في شخصية مصر هذه المسألة:
"ونبدأ فنقول إن مصر لم تكن الوحيدة التي أثير حولها هذا الجدل، فالسودان وُصف بأنه إفريقي وليس عربيا، والمغرب زعموا أنه بربري لا عربي، وقيل عن لبنان حينا والشام حينا آخر إنه فينيقي أو سوري وليس عربيا، والعراق كذلك لم ينج من الاتهام. بمعنى آخر، أن كل أجزاء العالم العربي خارج الجزيرة العربية دمغت بصورة أو بأخرى بأنها ليست عربية، ولكنها مستعربة على أساس أن السكان قبل التعريب لم يكونوا عربا جنسيا". والحقيقة أن هذا الادعاء يتساقط إذا عُلم بأن ما يشكل الهوية العربية هو الثقافة لا العرق، بمعنى أن الهوية العربية تعتمد بشكل مركزي على وجود اللغة العربية مع حامليها وبالتالي الثقافة والذاكرة والفكر العربي، وكان هذا دأب العرب منذ القدم، إذ أن كثيرا من مشاهير التاريخ العربي -إذا صح هذا التعبير- ليسوا من العرب عرقيا، غير أن انتماءهم للثقافة العربية وتشبعهم بها جعل التشكيك في عروبتهم باعتبار العرق ضربا من المغالاة الشعوبية لا غير، ويبرز منهم كثير مثل عنترة وبلال بن رباح ثم الجاحظ وسيبويه وأبو نواس وغيرهم الكثير. ولما كان الأمر كذلك فإن كل من انتمى ثقافيا إلى العروبة فهو داخل في الهوية العربية غير خارج منها حتى وإن كان عرقيا من بعيد أو قريب ليس عربيا، وفي هذا أيضا يبرز كلام تاريخي وأنثروبولوجي كثير يطرح سؤالا ما إذا كان كل من هم خارج الجزيرة العربية ليسوا عربا عرقيا، والنتيجة التي يُمكن الوصول إليها -إذا ليس يسع تفصيل المقدمات هنا- هو أن هناك ترابط أنثروبولوجي-عرقي كبير بين العالم العربي حاليا، ويكفي القول بأن محمد عزة دروزة في كتابه "الوحدة العربية" قد وصل إلى أن هناك أكثر من عشرة آلاف كلمة بين المصرية القديمة (الحامية) والعربية (السامية)، لذلك فإنه لا معنى للقول بأن كل من يقع خارج جزيرة العرب ليسوا عربا سواء من الناحية الثقافية وهي المبدأ الأولي الذي تقوم عليه الهوية العربية، أو من الناحية العرقية، والنتيجة هي التي يصل إليها جمال حمدان حين يقول "ومن ثم بالتالي كان مصير مصر عربيا من الناحية السياسية، بمثل ما أن مصير العرب مصري من الناحية الحضارية"، وهو يؤكد بهذا الاتصال الكامل بين المنطقة العربية بمعنى أن مصير الجزء هو مصير الكل والعكس، مع الاحتفاظ بالخصوصيات الثقافية والاجتماعية وحتى السياسية -في ظل انعدام الاتحاد السياسي والاقتصادي والمعوقات التي تحد من وجوده- لكل جزء من هذه الأجزاء، كما أن هناك خصوصيات ثقافية واجتماعية لكل مجتمع داخل الدولة الواحدة غير أنهم جميعا يتأثرون بمصير الدولة، أو كما جاء في التعبير النبوي" ... إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
من الأسباب كذلك لاتهام الهوية العربية بالنقص والقصور هو ربط الهوية بالحكومة، باعتبار أن الحكومات هي الممثل لهذه الهوية، وعلى الرغم من بديهية بطلان هذا الادعاء -غير المصرح به- إلا أنه ينتشر لا سيما بين المستائين من عدم وجود ردة فعل حقيقية -كما يتصورونها- من الحكومات للحرب على غزة. والحديث عن الهوية العربية لا يتخذ الطابع القطري للهوية باعتبارات الحدود القائمة وإنما الطابع القومي الثقافي الذي سبق الحديث عنه، لأن الهوية القطرية لها أبعاد تتعلق ببناء الدولة ذاتها أو كما يصف كينيث هوفر في إجابته على سؤال: لماذا الهوية؟ فيقول:" بأن الناس يخلقون الدول لإثارة النقطة حول من هم، وكم هم مختلفون عن أناس آخرين في الجانب الآخر للحدود" وهذا غير متحقق -حاليا على الأقل- مع الهوية العربية، وعليه فإنها تتخذ الطابع الكلي لا الجزئي، وهذا ما تدل عليه المناصرة العابرة للحدود للقضية الفلسطينية والشعور بأنهم جزء من هذه المعاناة لا خارجها.
إن هذا الارتباط بين أفعال الحكومة وقوة أو ضعف الهوية قد ساهم في تفكك الهوية العربية إلى هويات قطرية-جزئية، جعلت من كثيرين -في الجانب المقابل- يعتقدون بأنهم غير ملزومين إلا بما يقع داخل حدود دولتهم، وعلى هذا جاء حديث بعض "رجال الدين" حول عدم إلزامية القيام بأي شيء "إلا الدعاء" للفلسطينيين.
والواقع أن الجانبين مردود عليهما، فإن الهوية العربية أولا غير مرتبطة بأفعال الحكومات كونها ليست ممثلة لها للاعتبارات السياسية من حيث العلاقات الخارجية مع الدول الأخرى ومع النظام العالمي، ولذلك تجيء الأهمية الشعبية لمطالبة الحكومات بعدم الرضوخ كليا لهذه الاعتبارات وإنما عليها اتخاذ موقف ثابت وحازم من القضية، ولذلك فإن هذا الربط لا معنى له، كون أن المجتمع هو الممثل الأول لهذه الهوية، وكما هو معلوم فإن الشعوب -أغلبها على الأقل- لا زالت على فطرتها السوية المناصرة القضية الفلسطينية والغاضبة على الاحتلال واعتبار أن المقاومة بكل أشكالها هي السبيل الوحيد لإنهاء هذه الجرثومة القابعة في صدر الوطن العربي. وأما ثانيا فإن الهوية العربية عابرة للحدود ولا تلتزم بالاعتبارات القطرية، فإن مصير كل من يقع في هذا الإطار واحد -كما تم تبيينه سابقا- ولا يُمكن الاكتفاء بما يقع داخل الحدود، حتى من الجانب الأمني-البراغماتي فإن كل صراع في جزء واحد أو عدة أجزاء من المنطقة، له تأثير بالغ على الأمن القومي لباقي دول المنطقة كونها مرتبطة ماديا ولا ماديا، والشواهد التاريخية على هذا كثيرة وواضحة.
إذن من المستفيد من ضعف الهوية العربية وتفتيتها؟، إن المستفيد الأول من هذه المسألة هي بلا شك إسرائيل، فإن تفتيت الهوية العربية إلى هويات فرعية تتعلق كل واحدة منها بحضارة قديمة لا تأثير مباشر لها في الواقع المعاصر يجعل من الهوية الصهيونية متقبلة وواقعية في المنطقة، وهذا ما لا يتحقق في ظل وجود هوية عربية شاملة وعميقة وقديمة، في مقابل هوية صهيونية قليلة وسطحية وحديثة. ويطرح الدكتور عبد الوهاب المسيري هذه المسألة فيقول:" ولكن الدولة الصهيونية تريد أن يصبح الشرق الأوسط مقسما إلى دويلات إثنية ودينية وعرقية، ومن ثم تصبح الدولة العبرية مسألة طبيعية للغاية، لأنه داخل التشكيل الحضاري العربي تبقى مثل هذه الدولة كيانا دخيلا شاذا. وقد ترجم المخطط الصهيوني نفسه في الآونة الأخيرة إلى فكرة السوق شرق الأوسطية ثم مشروع الشرق الأوسط الكبير، حيث يتم تفتيت الهويات لتظهر الهوية العبرية وتقوم بقيادة المنطقة وتوظفها لصالح الغرب."
وأما بذكر الشرق الأوسط الكبير، فإن هذه الخطة لا زالت قائمة، ولا يُظن أنه تم التغافل عنها، غير أنها تأخذ أسماء أخرى، ولعل من أكبر الأدلة على هذا، الخريطة التي رفعها نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة وتحمل اسم "الشرق الأوسط الجديد" وقد وضع اللون الأخضر على دول "الشرق الأوسط الجديد" هذا، دون أن يَذكر وجود دولةٍ فلسطينية، والواقع أن الشرق الأوسط الذي تحلم به الإدارتان الأميركية والصهيونية لا يتم إلا من خلال هذه الأساليب التي تحاول تفتيت الهوية العربية مبدئيًا واستقلال كل شعب بهويته القطرية، بل زاد الأمر عن هذا فظهرت أصوات تقسم الهوية القطرية نفسها إلى هويات أصغر، مثل القول بأننا وإن كنا جزءًا من نسيج اجتماعي عربي في دولة عربية في جزيرة العرب غير أننا لسنا عربا!، فتجد أن الهويات تصير أصغر فأصغر للوصول أخيرا إلى نتيجة مفادها أن الهوية الصهيونية واحدة من هذه الهويات الصغيرة الموجودة في الشرق الأوسط. لذلك فإن كل انتقاص من هذه الهوية العربية الشاملة هو خدمة للمشروع الصهيوني.
في النهاية أقول بأن الحال يقتضي الحفاظ وإعادة بناء الهوية العربية من أجل الوصول إلى حالة من مقاومة الهوية التي تريد دولة الاحتلال فرضها على الواقع العربي، ولا يتم هذا إلا بالجهود الشعبية الثقافية بداية، ثم يُمكن تطوير الأمر إلى بناء مؤسسات تُعنى بهذا من جميع الجوانب المركزية التي تشكل الهوية.
***
جاسم بني عرابة