قضايا
مصطَفَى غَلْمَان: استقالة المثقف أم اختفاؤه؟
(هو موت رمزي عن طريق اختفاء الذات، يدخل الشخص في القفاز، وقد أصبح غريبا عن نفسه، وحتى عن ذويه، وقد آل إلى بعض الصيغ ..)... دافيد لوبروتون
ليس من البدعة أن نجعل راهن الثقافة اليوم حدا من حدود السياسة، ولا مضمارا لاصطدام "الثقافات" وصراعاتها، أي بين ما نعتبره في العلوم الاجتماعية والسوسيولوجية اليوم، صراعا محتدما بين "الثقافات" السياسية Cultures politiques و"تقييم الثقافات" Évaluation interculturelle..
فاعتماد اشتراك البعدين لا يناقض البتة، المدى الذي يتم فيه استمرار وثوقية الثقافة وارتهان السياسة عليها، غير بعيد عن استخدامات كل منهما، إيجابا أو سلبا. لأن جماع الوصل بينهما أكبر بكثير من تفرقات القيمة والمجال. على الرغم من كون "الثقافة" في العمق تتسم بالتعدد، وهو ما يشي على مستوى الوعي بها، وبمدلولها وأثرها في البنى الاجتماعية والثقافية، بالطابع المركزي وقوة استئثارها بكل ما يدخل في سياقات قيم معينة بالمجتمع، أو ثقافة فرعية، أو ثقافة مضادة، بواسطة إنتاج ونشر واستقبال أدوات المعنى، ووسائل ودعم المعنى الرمزي.
وغير بعيد عن هذه البديهيات، يستأثر صعود وتأثير وسائل الإعلام، والصناعات الثقافية، وتكنولوجيات المعلومات والاتصالات الجديدة، من ناحية، والحاجة الجديدة لقضايا التثاقف الداخلي والخارجي للمجتمعات، والمناقشات المرتبطة بالهوية والتعليم، والاستثناء الثقافي والتنوع، من ناحية أخرى، بأنساق وأسئلة الراهن الثقافي والسياسي، حيث تختفي الخلفيات السياسية للصناعات الثقافية المرتجاة، وتتكرس بخلفيات وتمثلات استهلاكية بديلة عن قيم المجتمعات وتاريخها الحضاري والإنساني.
وهذا يستدعي بالتالي، إعادة تدوير التقائية الثقافة بالصراع السياسي، وبالهويات الأيديولوجية Identités idéologiques التي تجعل من مسرح الثقافة هاجرة ركح منظاري، تستنزف فيه العقليات والأفكار، سرعان ما تذوبها الصراعات وتهلكها المصالح والرباغماتية المقيتة.
في البلدان العربية، وضمنها المغرب طبعا، تتوارى أدوار النخب الثقافية والسياسية، ويصبح ظهورها الاعتيادي، على رقعة قحلة من خارطة التنمية، كأنما هو نمط مقطع على شاكلة ما يطلب، وليس وفق ما يجب أن يكون عليه منطق الحاجة والقيمة. وتتحول الوظيفة المستحلبة للمثقف، إلى مجرد عبور عكسي لمستقبل المجتمع والإنسان، مدفوع الأجر مقيد الهوية. وهو نفسه، الخطاب السائد في موقع "سلطة القرار السياسي"، حيث يشمل معيار التوظيف والاختيار، السياسة العمومية المتعاقد عليها، في التخطيط والاستراتيجيا وصناعة أو دراسة الجهل / الشك المتعمد الناتج عن الثقافة، وهو علم قائم الذات، يسمى "علم اجتماع المعرفة"، أو "علم التجهيل" (أغنوتلوجي).
لا حاجة إلى ممارسة النقد هنا، ومساءلة الإطار الذي تقوم عليه الوظيفة الحقيقية للمثقف، خارج السلطة السياسية، فالوعي كما يذهب لوبروتون "والذي يتجذر في الإحساس بالهوية، لا يكون قط تنبها لا يخطئ، بحيث يتنقل بشكل واضح من حالة إلى أخرى، فهو يعرف تذبذبات لا حصر لها بين اليقظة والسكر ولحظات التردد المعيشة باطنيا ". (1). من ثمة تصبح هذه الهوية المسترقة، مدارة هشة، وواجهة قابلة للتهديد والتلاشي.
هي استعارة مشابهة تماما لما يحصل عند فقدان الشكل الثقافي لحامل تلك الهوية، حيث تبدو الأدوار غير مكتملة، ومحجوزة بفعل التحويل والاستدراج، فلا تستوي مدلولاتها وآثارها في المجتمعات، إلا كما يُقَوِّمُ عود الإعلام مواجد التقلبات والانثيالات، التي تفرضها الظروف وتوجبها المخافي.
ولأن استقالة المثقف، مكتسبة على الشيء المقضي بعدم حدوثه، فإن انسياق الإعلام بتينك الحقيقة المؤلمة، وترجمتها على وجه من وجوه ما لا تستطيع الذوات ترجمته واستحضاره، فإن اختفاء هذه الرغبة وانفصالها عن النفس المجهدة والمفعول بها، "يؤدي حتما إلى التهميش والإقصاء" و "تفكك الروابط الاجتماعية" (2)، وسقوط قيم التنافس والتفكير المعرفي، والاقتدائية السليمة.
ما يجعل مآلات الثقافة في مجتمع العاهات، ترفا زائغا، في عالم موبوء ومدجن، تستغفله الأشكال العولمية الجديدة للذكاءات الاصطناعية، وفضاءاتها السابحة في ذرى المجهولات، جارفة الإعلام المثقف، الذي يمثل آخر "وسائل إيصال ونشر الوعي العام"، مؤبدا أحلامنا الضائعة، المنذورة لتقريب "الشقة بين المواقع والقارات والحضارات" (3)، متورطا ويا للأسف الشديد، في تغليف وإقبار جواثم النهب وإفساد الذوق، والاستيلاء على مقدرات الأمة، وسرقة تاريخها وثقافتها ووجدانها الحضاري والعمراني.
***
د. مصطَفَى غَلْمَان
........................
هوامش:
(1). دافيد لوبروتون (اختفاء الذات عن نفسها) مبادرة ترجم السعودية 2023 / ص 240.
(2). ادغار موران (لنستيقظ) مبادرة ترجم السعودية 2022 / ص 68
(3). مالكة العاصمي (نحن وأسئلة المستقبل) منشورات الزمن المغرب 2001/ ص 71