قضايا
عدنان عويّد: الإرهاصات الأولية للمشروع السياسي في الخلافة الإسلاميّة:
(السياسة، ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه رسول ولا نزل به وحي). (1)... اين القيم الجوزيّة
يعد الفكر السياسيّ في سياقه العام، شكلاً من أشكال الوعي الأيديولوجيّ، هدفه وصول حوامله الاجتماعيّة إلى السلطة بمشروع أو بأجندة تعبر عن مصالح هذه الحوامل. أو هو تعبير عن النظم الاجتماعيّة بكل مستوياتها الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة، مهما تكن طبيعة وشكل الحكم السائد في هذا النظام الاجتماعيّ أو ذاك، ودرجة تطوره، والمشكلات التي يعانيها. وبالتالي فإن هدف الفكر السياسيّ في المحصلة، هو حل المشكلات التي يتعرض لها أي نظام بكل مكوناته، وتحقيق تقدم ملموس في بنيته العامة.
ابتدأت الإرهاصات الأوليّة لتسييس العقيدة في تاريخ الخلافة الإسلاميّة مع قيام خلاف السقيفة أولاً، عندما أطلق القريشيون (المهاجرون) المجتمعون في السقيفة حديثاً للرسول يقول "(الخلافة في قريش)، وذلك لإبعاد الأنصار من الأوس والخزرج عن الخلافة بنص مقدس (الحديث). ثم راحت العقيدة الإسلاميّة تأخذ لبوساً سياسيّاً أيضاً مع الفتنة الأولى في الإسلام، أي مع احتجاج الكثير من المسلمين ضد سياسة عثمان بن عفان، حيث ظهرت هنا السبئية (نسبة إلى عبد الله بن سبأ)، وطرحها لمسألة (الوصيّة في ولاية علي بن أبي طالب)، أي اعتبار عليّاً هو خليفة رسول الله وبنص دينيّ أيضاً هو حديث الغدير: ("... من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار، اللهم هل بلغت ". رواه مسلم.
أما موقف الخوارج من الصراع الذي دار بين عليّ ومعاوية على الخلافة، فكان الأكثر بياناً ووضوحاً بالنسبة لأدلجة العقيدة وتسييسها، وذلك كون ما طرحه الخوارج بالنسبة لقضيّة الخلافة، كان يدعوا إلى فصل العقيدة عن القبيلة، بل راح الخوارج يسيسون العقيدة ويعملون باسم العقيدة ضد القبيلة. فهم أول من طرح فكرة الحاكميّة لله، والحكم شورى، وأحقية الخلافة حتى لو كانت لعبد حبشي، وتمسك الخوارج بأن القرآن لم يذكر نسلاً معيناً يكون منه الإمام، بل اشترط العدل فقط في الحاكم، فيقول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا.(58) سورة النساء. وقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.). (59). سورة النساء. إن تمسك الخوارج بهذا النص المقدس جاء للخروج من صراع البيت القريشي على السلطة (صراع معاوية وعليّ) في صفين. ففي هذا الموقف الخوارجيّ من السياسية والعقيدة معاً، نجد وبكل وضوح كيف راح يتبلور الموقف الأيديولوجيّ للعقيدة، والعمل على توظيفها وفقاً لتفسير وتأويل النصوص المقدسة.
مع وصل معاوية إلى السلطة، ظهرت مسألة توظيف النص الجبري لخدمة الحاكم وحكمه العضوض، وهنا بدأ الموقف الأيديولوجيّ يوظف تماماً العقيدة لمصلحة السلطان، حيث راح يوظف الحديث (الذي لم يأمر الرسول بكتابته) ويوضع كنص مقدس، ومنها حديث الخلافة الذي يقول بأن الخلافة ستؤول لبني أميّة بعد ثلاثين عاماً: (الخلافة في أمتي ثلاثين عاماً، ثم تتحول إلى ملك عضوض). (رواه أبو داوود والترمذي. وذلك لتأكيد خلافة معاوية الذي حولها فعلاً إلى ملك عضوض من خلال تسليمه الخلافة لابنه يزيد، ضارباً بذلك فكرة الشورى. واعتبار الخلافة أمرً مقدراً من الله. وهذا ما قاله معاوية عندما خطب بأهل الكوفة : (يا أهل الكوفة: أتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج وقد علمت أنكم تصلون وتحجون وتزكون؟. لكني قاتلتكم لأتمر عليكم وعلى رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وانتم كارهون). ثم قال بصدد البيعة ليزيد: (إن أمر يزيد قضاء وقدر وليس للعباد الخيرة من أمرهم فيه.). (2).
أمام هذا المواقف السياسيّة الجبريّة من الخلافة. بدأت توظف العقيدة وتتبلور أكثر كموقف أيديولوجيّ سياسيّ، وهذا وجدناه مع الثورات المناوئة للحكم الأموي، حيث اتخذت الأيديولوجيا الدينيّة سلاحاً ضد الأموين، وخاصة مواقف الشيعة، (ثورة التوابين، والمختار الثقفي. وزيد بن علي) وغيرها، وتبنيهم للنص الديني ومحاولة تسييسه تفسيراً وتأويلاً لصالحهم ضد سلطة الأمويين.
مع الدولة العباسيّة، وظهور الموالي واختراقهم للسلطة بسبب اعتماد الخلفاء العباسيين عليهم، كالفرس والديلم والسلاجقة والبويهيين.. الخ. راحت تظهر هنا الفرق والمذاهب الدينيّة بطابع أيديولوجيّ، لدى السلطة الحاكمة، ولدى المعارضة معاً، ففي هذه المرحلة بدأت مسائل عقيديّة كثيرة تتبلور ويتخذ منها مواقف سياسيّة ويوضع لها الأصول على مستوى الفقه وعلم الكلام والفلسفة، كما أصل الشافعي للفقه السني ضداً بالبرامكة وفكرهم الشيعيّ، وجعفر الصادق للفقه الشيعيّ، وأبو حسن الأشعري للفكر السنيّ، وبناءً على هذا التأصيل ظهرت مذاهب الفقه السنييّة، والمذهب الجعفريّ الاثنا عشريّ، والفرق الكلاميّة كالأشاعرة والماتريديّة والمعتزلة، والطوائفيّة كالإسماعيليّة والعلويّة والكيسانيّة والموحدين والطرق الصوفيّة. فكل هذه الفرق والمذاهب والطوائف راحت تؤدلج العقيدة وتتحصن خلفها.
إذن نستطيع القول إن تحول العقيدة إلى أيديولوجيا سياسيّة، بدأ يأخذ أبعاده وعمق تجذره، بسببين اثنين أساسيين هما: السبب الأول: الموقف السياسيّ ممثلاً بالخلفاء الأمويين والعباسيين، الذين وظفوا الدين لمصالحهم، وخاصة الآيات والأحاديث التي تدعو إلى الجبر، وهنا راح هذا التوجه السياسي السلطوي يوجه رجالات الفقه وعلم الكلام لتأصيل المواقف الأيديولوجية في العقيدة فقهياً كما بينا أعلاه بالنسبة للشافعي وجعفر الصادق
أما السبب الثاني، فيمثل الموالي الذين دخلوا تحت راية الخلافة الإسلاميّة، والذين عانوا من التفرقة بينهم وبين العرب، وما لقوه من ظلم بسبب هذه التفرقة، حيث اعتبروا كرعايا من الدرجة الثانية والثالثة أمام العرب الذين حملوا رايّة الإسلام أثناء ما سمي بالفتوحات، وخاصة من بقي منهم في الكثير من الأمصار واستقر فيها وهم يعاملون كأسياد يعيشون على الغنيمة كمجندين، أو مجندين متقاعدين. وشكلوا ثروات طائلة وعاشوا عيشة ارستقراطية بروح قبليّة. أو بسبب مواقف شعوبيّة مناوئة للعرب ومحاولة النيل منهم ومن الدين الإسلاميّ ذاته الذي يعتز العرب بأنهم هم حملته ودعاته.
نقول: إن الموالي الذين نالهم الاضطهاد وشظف العيش والتفرقة العنصريّة، رغم دخولهم في الإسلام، وجدوا في الدين الإسلاميّ مرتكزاً لهم من خلال تفسير النص المقدس وتأويله لمصالهم كما فعل قائد ثورة (الزنج) في القرن الرابع للهجرة عندما اتخذ من نص الآية التي تقول: (ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين). (سورة القصص الآية 5). وهذا حال الحركات الأخرى كالخرميّة والقرامطة والبابكيّة، فكلها اعتمدت على العقيدة وقامت بأدلجتها، بعد أن قام هؤلاء الموالي بإدخال الكثير من معتقداتهم الدينيّة القديمة التي كانوا عليها قبل دخولهم الإسلام.
***
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث من سوريّة.
...........................
الهوامش :
1- ابن القيم الجوزيّة – الطرق الحكميّة في السياسة الشرعيّة – تحقيق محمد جميل غازي- مكتبة المدني – 1977- ص 17.
2- (الجابري العقل السياسي. ص 260).
إن تحول العقيدة إلى أيديولوجيا سياسيّة، بدأ يأخذ أبعاده وعمق تجذره، بسببين اثنين أساسيين هما: السبب الأول: الموقف السياسيّ ممثلاً بالخلفاء الأمويين والعباسيين، الذين وظفوا الدين لمصالحهم، وخاصة الآيات والأحاديث التي تدعو إلى الجبر،