قضايا
علاء اللامي: الخليل الفراهيدي: مزيج الذهب والمسك وكبرياء الفقراء! (1- 2)
"مَن أحبَّ أن ينظر إلى رجلٍ خُلِقَ من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد/ سفيان بن عُيينة ونسبها د. مهدي المخزومي إلى سفيان الثوري (ابن سعيد بن مسروق"
لا يحتاج الخليل إلى التعريف به مني أو من سواي بين المتخصصين في المعجميات وعلوم اللغة، فهو علم من أعلام التراث والسردية الثقافية العراقية والعربية الإسلامية في عصرها الذهبي، ولكنها محاولة لاغتنام مناسبة إهدائي معجمي هذا "معجم اللهجة العراقية" إلى ذكراه الجليلة للإضاءة على بعض الجوانب التي قد تكون مجهولة أو معتم عليها من سيرته وشخصيته وإنجازاته العلمية من خلال هذا العرض الذي يستلهم ويعتمد عدة دراسات وتقارير علمية:
هو أَبُو عَبْدِ اَلرَّحْمَنْ اَلْخَلِيلْ بْنْ أَحْمَدْ اَلْفَرَاهِيدِي اَلْأَزْدِيّ اَلْبَصَرِيَّ المعروف بَالْفَرَاهِيدِي، نسبة إلى جده فرهيد أو فرهود (وتعني الشبل) بن شبابة بن مالك، عربي من قبيلة الأُزْد اليمانية. ولد وفق أقوى الروايات سنة (100 هـ - 718م) وتُوفي سنة (170 هـ - 786م)، وهناك من يقول إنه ولِدَ في عُمان ثم انتقلت أسرته وهو طفل صغير إلى البصرة، كحاتم الضامن وضياء الحيدري، دون أن يذكرا مرجعاً أو إسناداً قديماً لقولهما. وكان الخليل يحب أن يتلقب بالبصري دون سواه من ألقاب كما ورد في مقدمة كتابه الأشهر والتأسيسي "العين".
كان والد الخليل خارجياً يأخذ بالمذهب الإباضي، ولكن ابنه الخليل حين شبَّ وكبر صاحبَ الفقيه والصوفي على مذهب السنة والجماعة أيوب السختياني البصري، ويقال إنَّ الخليل تأثر به دينياً وفقهياً ومسلكيا، وأن السختياني زين له الاهتداء إلى مذهبه والتخلي عن المذهب الإباضي. أما د. مهدي المخزومي، أحد محققيْ كتاب العين، فيقول إنَّ الخليل نشأ خارجياً إباضياً ثم أصبح سُنيا وانتهى شيعيا. وماتزال هذه القضية موضع أخذ ورد بين الكتاب المعاصرين، ولكنني لا أعتقد بأنها ذات أهمية في ما يتعلق بالتراث العلمي الغزير لهذا العالم العبقري الجليل إذا كان هو نفسه لم يشر ولا مرة واحدة إلى هذه الأمور العقدية والمذهبية في كتبه وتصاريحه.
تلقى الخليل العلم على يد علماء بصريين كبار منهم أبو عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر الثقفي وعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي. وأخذ العلم على يديه العديد من العلماء الذين أصبح لهم شأن عظيم في اللغة العربية وآدابها ونحوها ومنهم سيبويه واضع أول كتاب في النحو العربي سماه "الكتاب" في القرن الثاني الهجري الموافق للثامن الميلادي، ويقال إن هذا ليس اسمه ولكن الناس سمَّته به لأن سيبويه تركه دون اسم أو عنوان، والليث بن المظفر الكناني الذي نسب خصوم الخليل كتاب العين إليه وسنفصل الكلام في الموضوع بعد قليل، والأصمعي، والكسائي، والنضر بن شميل، وهارون بن موسى النحوي، ووهب بن جرير، وعلي بن نصر الجهضمي، بمعنى أن غالبية أئمة ومعلمي مدارس اللغة والنحو والمعجمية العربية المؤسسين خرجوا من عباءة الفاهيري!
إنجازات الخليل العلمية:
اتخذ الخليل الاستقراء العلمي طريقة ومنهجاً في البحث والتنظير، وشفعه بالمنهج التجريبي التطبيقي في صيغته البسيطة والأولية، مستعملا البوق والمطرقة والجرة الفخارية في تجاربه لدراسة الأصوات ومكوناتها وصفاتها. ويعتبر الخليل من مبتكري ومؤسسي عدة علوم تطورت في عصور لاحقة واستقرت على هيئتها وتعاريفها، ولكنه أسسها ووضع ركائزها في عصره ومنها؛
- علم التأثيل المفرداتي إيتمولوجي (Etymology). ،
- وعلم فقه اللغة المقارن فيلولوجي (Philology) ،
- وعلم الصوتيات الوظيفي فونولوجي (Phonology)، الذي يعنى بدراسة الكلمات، وكيفية تكوينها، وعلاقتها بكلمات أخرى في اللغة نفسها. إنه يحلل بُنية الكلمات وأجزاء من الكلمات، مثل التفرعات والكلمات الجذرية والبادئات واللاحقات،
وعلم الأصوات الصرفية مورفولوجي (Morphonology).
* كتاب العين: إنه أول معجم مفرداتي أُلِّفَ في اللغة العربية، يعكس عنوانه هدف مؤلفه في اشتقاق الأصول الاشتقاقية للمفردات والمعاني العربية. قبل هذا الكتاب ألفَّ العرب كتباً موسوعية تخصصية قليلة قد لا ترقى إلى نوع المعاجم اللغوية ومن هذا القبيل الموسوعي كتاب الأصمعي عن الخيل، كما ألفت كتب أخرى عن أنواع الأسلحة وكانت هذه الكتب تسمى دواوين المعاني.
لكنَّ الفراهيدي في كتاب العين أسس نظاماً تأثيليا للغة العربية جمع فيه كل مفرداتها بطريقة رياضية حاصرة، فقد تمتع بعقلية حسابية رياضية، "فأنتج معجم العين معتمدا على ظاهرة التباديل والتوافيق ورد الكلمات إلى جذورها وهو من وضع فكرة الجذر، فمثلا الفعل "كتب" يضع له صيغا افتراضية هي بكت وتكب وبتك، ثم يقوم بعرض الصيغ على اللغة العربية المتمثلة بالقرآن والشعر العربي الجاهلي حتى العصر الأموي، ويقرر على هذا الأساس إن كانت الصيغة مستعملة أم مهملة، فما كان مهملا أهمله، وما كان مستعملا أثبته"، كما يقول د. محمود حمزة.
وبهذه الطريقة الحسابية الميسرة استطاع استحضار جميع كلمات اللغة العربية متدرجة من الأصول الثلاثية والرباعية، ومن ثم الخماسية.
كان سيبويه والأصمعي من بين تلاميذ الخليل، وكان الأول مديناً للفراهيدي أكثر من أي معلم آخر تعلم لديه. يقول ابن النديم المعتزلي البغدادي وكاتب السير المتوفى في القرن الرابع الهجري - العاشر الميلادي، أن كتاب سيبويه "الكتاب" هو في الواقع عمل تعاوني ساهم فيه اثنان وأربعون من الكتاب، وأكد ابن النديم أن المواضيع والمبادئ في كتاب "الكتاب" استندت إلى نظائرها عند الخليل. فقد نقل سيبويه، واقتبس عن الخليل في كتابه "الكتاب"، أكثر من ستمائة مرة أي أكثر من أي مصدر آخر، فيما قدرها د. محمد حماسة عبد اللطيف بخمسمائة وسبعين اقتباساً وذكراً وفق إحصائيات معاصرة. والملاحظ أن سيبويه يكرر قوله «سألته» أو «قال»، دون تسمية الشخص المشار إليه بالضمير، ولكن المتفق عليه بين التراثيين القدماء والمحدثين أنه يقصد الخليل الفراهيدي.
* علم العروض: كان الفراهيدي أول عالِم أخضع عَروض الشعر العربي الكلاسيكي لتحليل صوتي معمق. كانت البيانات الأولية التي أدرجها وصنفها دقيقة ولكنها معقدة للغاية وصعبة الإتقان والاستخدام، وفي وقت لاحق طوَّر المنظرون اللاحقون صيغاً أبسط مع قدر أكبر من التماسك والمنفعة العامة.
عرف الخليل بذائقته العالية للشعر وبأذنه الموسيقية، فقد كان هو نفسه شاعراً معروفاً وكان يستمع في بعض الأحيان لشعر لا يتوافق مع الإيقاع الشعري العربي المألوف والذي تعود عليه، فيأخذه العجب والتساؤل كيف تمكنَ من معرفة هذا الخلل، وهذا ما جعله يفكر بوضع علم وقواعد محددة لضبط الأوزان الشعرية العربية لمعرفة الصحيح من الفاسد من الشعر.
وحين بدأ الخليل تأسيساته العلمية فقد استمد مصطلحاته من بيئته العربية الصحراوية فأخذ كلمة العروض اسما للعلم. والعروض هي العارضة التي تعترض الخيمة فتقام عليها وترفعها، كما استخدم الوتد والسبب وهما أيضاً من مكونات الخيمة وبيت الشَّعر العربي الصحراوي.
وقد أوجد الفراهيدي، مستعينا بحاسته الموسيقية دون معلّم، ما يسمى بالوحدة التي تتبادل فيها الحركة والسكون، هذه العلاقة أوجدها من خلال التقليب، ولازمته وعاشت معه وأنتج بها معجم العين وعلمي العروض والقافية.
استخرج الخليل خمسة عشر بحراً من بحور عروض الشعر العربي وأتمها تلميذه الأخفش الأوسط (سعيد بن مسعدة) ببحر أخير هو السادس عشر وسماه بحر المتدارك، أو المستدرك، أي البحر الذي استدرك به الأخفش على بحور معلمه، وكان الخليل يعرف هذا البحر ولكنه أهمله لانعدام أمثلة شائعة من الشعر عليه.
* علم القافية: أحدث الخليل طفرة لغوية بوضعه معجم العين، كما كان تحديده لعلمي القافية والعروض طفرة موسيقية للعلماء والنقاد والشعراء. وعلم القافية مكمل لعلم العروض، وقد اتحدا كلاهما ليكمل أحدهما الآخر، فالقافية اصطلاحا تشير إلى آخر كل شيء (وجذرها؛ قفا يقفو؛ بمعنى يتبع. ويقول صاحب الصحاح: ومنه سمِّيت قوافي الشعر لأنَّ بعضها يتبع أثر بعض) والجذر اللغوي للقافية يشير لمؤخر الأشياء، يقتفي أو يقفو، والذي يقفو أثر فلان لا بد أن يكون سائراً خلفه، أما في الشعر فالقافية هي آخر حرف في البيت الشعري.
* علم التعمية "التشفير": كان كتاب "علم التعمية" للفراهيدي أول كتاب في علم التشفير وتحليل الشفرات السرية كتبه عالم لغوي في عصره. يحتوي هذا الكتاب - المفقود في عصرنا للأسف - على العديد من القواعد الأولية بما في ذلك أول استخدام للتباديل والتركيبات لسرد جميع الكلمات العربية الممكنة مع وبدون حروف العلة. لاحقاً لجأ علماء التعمية العرب وغيرهم إلى التحليل الصوتي للفراهيدي لحساب تكرار الحروف في أعمالهم. وقد أثر عمل الخليل في علم التعمية على الفيلسوف الكندي (801- 873م)، الذي اكتشف طريقة تحليل الشفرات عن طريق تحليل التكرار.
* نظام التشكيل: يُنسب إلى الفراهيدي أيضا المعيار الحالي لعلامات التشكيل العربية؛ فبدلاً من سلسلة من النقاط التي لا يمكن تمييزها، كان الفراهيدي هو الذي قدم أشكالاً مختلفة لعلامات التشكيل بالعربية، مما سهل نظام الكتابة لدرجة أنها لم تتغير منذ ذلك الحين. كما بدأ في استخدام حرف شين صغير ( ّ) للدلالة على علامة الشدة. كان أسلوب الفراهيدي في كتابة الأبجدية العربية أقل غموضاً بكثير من نظام التنقيط السابق له، حيث كان يتعين على النقاط في ذلك الأخير أداء وظائف متنوعة. وبينما كان الفراهيدي ينوي استخدام ذلك التشكيل للشعر فقط، فقد تم استخدامه بعد ذلك للقرآن أيضا.
* إضافة إلى ما تقدم، كان الفراهيدي ضليعاً في علم الفلك والرياضيات والشريعة الإسلامية ونظرية الموسيقى والعلوم الدينية.
الخليل وحُنين بن أسحق:
أما ما قيل عن تأثر الخليل بغيره من علوم وعلماء عصره نتوقف عند ما ذكره د. مصطفى نظيف من أنه تأثر بالنحو السرياني عن طريق الطبيب العباسي حُنين بن أسحق وانه كان على اتصال به وأن حنين كان قد تعلم العربية على يديه. ويفند د. مهدي المخزومي هذه الفكرة تفنيدا تاماً، دون أن يعني ذلك أن الخليل لم يتأثر قط بأحد سواه من علماء عصره، ولكن الخليل كان قد توفيَ وفق أقوى الترجيحات في سنة لا تتعدى 180 هـ في حين أن حُنيناً ولد سنة 190 هـ فكيف تسنى لهما أن يلتقيا ويتواصلا؟
وقد كرر أحمد أمين - كما يخبرنا د. المخزومي - هذا الغلط في كتابه "ضحى الإسلام" رغم أنه ذكر أن حنيناً ولد سنة 194، وهناك روايات أخرى تجعل سنة ولادته أبعد من هذه. ولكنه في الجزء الثاني من كتابه، وحين ترجم للخليل ذكر - أمين - أنه عاش بين (100 و175هـ). ومن القدماء لم يقل بخبر هذا التأثر إلا ابن أبي أصيبعة والقفطي، وكلاهما ولد بعد أكثر من أربعة قرون على ولادة الخليل!
ومن المستشرقين الأوروبيين ذهب الباحث الألماني ليتمان إلى أن النحو السرياني مأخوذ من العربي لا العكس، أما زميله المستشرق البريطاني هاملتون جِب فذهب إلى أن النحوَين العربي والسرياني نشآ معاً وفي وقت واحد. وفي شرحه لموضوعة التزامن بين النحوين العربي والسرياني يكتب د. المخزومي "نعم، أخد السريان يفكرون في وضع قواعد للغتهم حين شعروا بالخطر يتهدد لغتهم بالفناء بعد انتشار اللغة العربية في ربوع العراق وبلاد الشام واستعان الشرقيون منهم وهم سكان العراق بالنُّقط في إعراب بعض الكلمات كما كانت الحال عند العرب، وكان ذلك حوالي سنة 700 ميلادي، وكان العرب إذ ذاك قد فرغوا من نقط المصحف القرآني على يد أبي الأسود الدوئلي بين سنتي 49 و53 هـ أو على وجه التقريب بين سنتي 670 و674 م". يتبع في الجزء الثاني والأخير.
#لهجة_عراقية_اللامي
***
علاء اللامي
............................
* حُذفت الهوامش والمصادر في هذه النسخة لنشرها في الصحافة والتواصليات.