قضايا
حاتم حميد محسن: هل البوذية دين ام فلسفة؟
تُعتبر البوذية رابع الديانات الشعبية المعروفة في العالم يدين بها ما يقارب 507 مليون تابع في كل انحاء العالم. عند التجوال في الهند والصين وغيرها من الدول التي تشهد انتشارا للبوذية تتجلى المعابد الانيقة وأضرحة بوذا والأتباع المتدينين (اشبه كثيرا بالأديان الكبرى الاخرى).
لكن البوذية هي ايضا يُشار لها دائما كفلسفة، خاصة من جانب الناس في الغرب. هي تشترك في العديد من تعاليمها مع المدارس الفكرية الشهيرة الاخرى مثل الرواقية. وبوذا ذاته أكّد على الطبيعة الخاصة لأفكاره مفضلا التحقيق الفلسفي على الدوغما الدينية.
كل هذا يثير سؤالا: هل البوذية فلسفة ام دين؟ هذا المقال يستكشف لماذا وكيف تعني البوذية مختلف الاشياء لمختلف الناس، وما اذا كانت حقا صُنفت كشيء واحد بعينه ام لا .
هل البوذية دين ام فلسفة ام الاثنين معا؟
اول ما نشأت البوذية في الهند في القرن السادس قبل الميلاد. انها دين غير ايماني. بمعنى لاتؤمن بوجود خالق كالله، على خلاف الاديان الايمانية كالمسيحية. تاسست البوذية بواسطة سيدهارتا غوتاما(ويُعرف ايضا ببوذا) الذي طبقا للقصة القديمة كان في وقت ما اميرا هنديا. لكن سيدهارتا قرر بالنهاية التخلي عن ثروته واصبح بدلا من ذلك حكيما. هو اتخذ هذا القرار بعد حصوله على وعي واطّلاع بمعاناة الانسان وما تسبّبهُ من ألم للناس. وبالنتيجة سلك سيدهارتا اسلوب حياة زهيدة. هو كرس نفسه لتطوير نظام عقيدة يمكن ان يعلّم الاخرين كيفية تجنب الـ سانسارا وهي كلمة في اللغة الهندية القديمة تصف" دورة الحياة والموت واعادة الميلاد المحكومة بالمعاناة، بدون بداية او نهاية"(Wilson 2010).
ورغم شعبيتها اليوم، كانت البوذية في البدء بطيئة في اكتساب الأتباع. اثناء القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، كانت الهند تباشر فترة من الاصلاحات الدينية الهامة. البوذية تطورت استجابة لفشل الهندوسية المفترض للتعامل الكافي مع الحاجات اليومية للناس. ولكن فقط في القرن الثالث قبل الميلاد اكتسبت الديانة جاذبيتها. الامبراطور الهندي اشوكا العظيم تبنّى البوذية وبالنتيجة انتشرت بسرعة في شبه القارة الهندية وجنوب شرق اسيا.
بعض التعاليم الأساسية
كما ذكرنا اعلاه، بدأ بوذا بتطوير تعاليمه بعد ادراكه الحجم الحقيقي للمعاناة في العالم. وخصيصا،هو ادرك انه بسبب موت الانسان، فان كل شيء أحبه سوف يموت بالنهاية (بما فيه ذاته). لكن الموت ليس هو المعاناة الوحيدة في حياة الانسان. اعتقد بوذا ان الناس يعانون في الولادة (كل من الأم والرضيع)، وطوال حياتهم نتيجة للرغبات والحسد والخوف وما شابه. هو ايضا اعتقد ان كل شخص تناسخ في السامسارا(دورة الحياة والموت اللامتناهية) وحُكم عليه لإعادة هذا العملية الى الأبد. لذلك فان التعاليم البوذية تهدف الى كسر هذه الحلقة. "الحقائق النبيلة الأربع" توضح اتجاه بوذا بتفصيل اكثر:
1- الحياة معاناة
2- سبب المعاناة هو الاشتهاء او الرغبة الشديدة
3- نهاية المعاناة تأتي مع نهاية الاشتهاء
4- هناك مسار يقود المرء بعيدا عن الاشتهاء والمعاناة
هذه الحقائق تعطي الأساس لكامل هدف البوذية والذي هو لإيجاد مسار بعيد عن الإشتهاء والمعاناة من خلال التنوير.
المظهر "الفلسفي" للبوذية
لاحظنا سلفا ان بعض المظاهر الفلسفية للبوذية بدأت بالظهور. الحقائق النبيلة الاربع أعلاه تبدو مشابهة لتفكير منطقي عادي يستلزم مقدمات وعلاقات بين المقدمات. لكن ربما العناصر الفلسفية الاكثر وضوحا في هذا الدين تأتي من بوذا ذاته. بدلا من ان يتوسل أتباعه ليتّبعوا تعاليمه حرفيا، شجع بوذا الناس على التحقيق فيها. التعاليم البوذية والتي تُعرف بـ Dharma (كلمة هندية قديمة: "حقيقة حول الواقع")، تحتوي على ست خصائص متميزة، احداها هي ايباسيكو. هذه الكلمة استعملها بوذا دائما وتعني حرفيا "تعالوا وانظروا بانفسكم".
شجع بوذا الناس بقوة على الانخراط في التفكير النقدي وطرح خبراتهم الشخصية لإختبار ما يقوله. هذا النوع من الموقف يختلف جدا عن الاديان كالمسيحية والاسلام، حيث الأتباع عموما يتم تشجيعهم لقراءة واستيعاب وقبول الكتب المقدسة بلا سؤال. انه ايضا من المهم ملاحظة ان التعاليم البوذية رفضت تقاليد فلسفية متميزة. عندما بدأ الناس يكتبون دروسهم بعد موت بوذا بقرون، برزت مختلف التفسيرات بين مختلف الجماعات الفلسفية. في البدء، استخدم الناس الذين يناقشون التعاليم البوذية وسائل واساليب لتوضيح وجهة نظرهم. لكن منطقهم كان مدعوما بايمان كامل بان بوذا كان صائبا مهما قال. بالنهاية، بدأ الناس من اديان اسيوية معينة لكنها ذات صلة يحللون التعاليم البوذية وهو ما أجبر البوذيين على التفرع الى مجالات تقليدية للفلسفة (مثل الميتافيزيقا والابيستيمولوجي) لإثبات قيمة البوذية للناس الآخرين الذين لا يعتبرون تعاليم البوذية موثوقة.
المظاهر الدينية للبوذية
بالطبع، هناك الكثير من المظاهر الدينية لهذا الدين ايضا، نحن رأينا سلفا ان بوذا يعتقد في التناسخ مثلا. هو يصف كيف عندما يموت شخص ما، فانه يولد من جديد كشيء آخر. إعادة ولادة الفرد تعتمد على افعاله وكيفية تصرفه في حياته السابقة (كارما). اذا اراد البوذي ان يولد من جديد في عالم من الناس، وهو ما يراه بوذا أحسن شيء لتحقيق التنوير، عندئذ هو يجب ان يستلم كارما جيدة ويتبع التعاليم البوذية. لذا حتى عندما يشجع بوذا على التحقيق النقدي، هو ايضا يعطي حافزا ممتازا لإتباع ما يقوله.
العديد من الديانات العالمية ايضا تقدّم نوعا من المكافأة النهائية لأتباعها لكي يسعون ويهدفون لها طوال حياتهم. بالنسبة للمسيحيين المكافأة هي الوصول الى السماء بعد الموت. اما البوذيون فالمكافأة هي حالة من التنوير تُعرف بالنيرفانا. غير ان النيرفانا ليست مكانا وانما حالة من الذهن المتحرر. النيرفانا تعني ان احدا ما ادرك الحقيقة النهائية حول الحياة. عندما يحقق الفرد هذه الحالة فهو عندئذ يكون قد هرب من دورة المعاناة وإعادة الميلاد الى الأبد، لأنه في ذهنه المتنورستزول جميع أسباب هذه الدورة .
هناك ايضا العديد من الطقوس البوذية والمراسيم التي تشكل جزءا هاما من العبادة عند معظم الناس حول العالم. PuJa هو احتفال يقدم فيه الاتباع الطقوس الى بوذا. هم يقومون بهذا لكي يعبّرون عن تقديرهم لتعاليم بوذا. اثناء مراسم البوجا يمارس الأتباع فعاليات اخرى يتأملون، يصلّون، يرددون، يكررون التعاويذ.
هذه الممارسة التعبدية تُنفّذ لكي يفتح الأتباع انفسهم بعمق لتعاليم بوذا وليرعى تفانيهم الديني. خلافا لبعض الاديان، التي يجب ان تتم فيها الاحتفالات تحت تعليمات من قائد ديني، البوذيون يستطيعون الصلاة والتأمل اما في المعابد او في بيوتهم الخاصة.
لماذا نحتاج لتصنيف البوذية الى دين ام فلسفة؟
كما نرى، البوذية تحتوي على عدة خصائص تطمس الخطوط الفاصلة بين الفلسفة والدين. لكن الحاجة لهذا التصنيف تبرز بشكل واضح في المجتمعات الغربية بالذات دون غيرها. في الغرب، الفلسفة والدين مفردتان متميزتان جدا. العديد من الفلسفات (والفلاسفة) ضمن التقليد الغربي لا يعتبرون انفسهم افرادا متفانين دينيا. واذا قاموا بذلك، فان الأتباع المعاصرين كانوا قد تمكّنوا بنجاح من عزل المظاهر الفلسفية عن الدينية لمدرسة معينة من الفكر.
العديد من الناس الذين يعتبرون انفسهم ملحدين او لا ادريين يميلون لتجاهل المظاهر الدينية للبوذية . في النهاية، تعاليم البوذية تتناسب بسهولة مع تركيز كامل للذهن والتأمل وحركات اليوغا التي اكتسبت شعبية في الغرب في العقود الأخيرة. احيانا هذه التعاليم يتم اتّباعها بدون فهم مناسب لإصولها، كما نرى الناس ما بعد بوذا يقتبسون من بوذا في الميديا الاجتماعية او يدّعون انهم مهتمون بالبوذية بدون ان يدرسوا أي من مناهجها الاساسية.
الحقيقة هي ان البوذية دين وفلسفة في آن واحد، وكلا المظهرين لتعاليمها يمكن ان يتعايشا جنبا الى جنب في سلام نسبي. الناس المهتمون في الفلسفة البوذية يمكنهم بسهولة دراستها كمدرسة للفكر طالما هم لايحاولون إنكار ان هناك الكثير من العناصر الخارقة للطبيعة محتواة ضمن التعاليم البوذية. الرهبان البوذيون والمعابد والاحتفالات الدينية توجد لسبب. المراسيم والطقوس هي مظهر هام جدا للبوذية لملايين الناس حول العالم. ولكن بنفس المقدار، من الممكن ايضا للملحد اتّباع الكثير من تعاليم بوذا بدون الشعور انه ملزم بتنفيذ أفعال عبادة.
***
حاتم حميد محسن