قضايا
محمد يونس محمد: الاعلى والادنى في دين الطائفة
في جميع الأديان السماوية الثلاث الدين لله، لكن مؤسسات بشرية سيست الدين وحولته من دين لله إلى دين للبشر، اي استبدلت الجهة العليا بالجهة الادنى، وهناك اشارة من القرآن في هذا الصدد، وذلك لم يكن جديدا بل هو متصل بعمق التاريخ، حيث اختلف البناة على أصل بناء المعبد، فمنهم من قال إن المعبد يبنى للرب، وقسم آخر قال إنما يبنى المعبد لنا نحن البشر، وتاريخ تلك الواقعة بعد موسى بقرون، وهناك إشارة ميثولوجية إلى أن – كل بشر عرفوا مشربهم –، حين كانت هناك اثنتا عشرة عينا ينبع منها الماء، وتلك الإشارة دليل على التعدد في الأنفاس الدينية واختلاف حالات الوعي، وأيضا هناك أنماط متعددة من الإيمان، وأيضا الحس النفسي للدين يختلف كثيرا، واختلف معنى الدين من حينها في النفوس، وما من دين إلا مر بمحنة أثناء وجود النبي وبعد موته الذي يؤكد بأن النبي هو فرد بشري لا يختلف عن الآخرين إلا باختيار السماء له، وسبيل التبليغ الموكل به، وصراحة تلك هي الحدود الدينية العقلانية والمنطقية، فالنبي ليس بوكيل على سلوك وحياة الناس، ودوره ينحصر في التبليغ، بل كان الأنبياء حتى العداء الملموس ضدهم يبادلونه بروح إنسانية، فهم صراحة امثلة بشرية نموذجية، ورغم أنهم في الطبائع العامة كبقية البشر ولا يختلفون عنهم، الا في السمو الإنساني، وصراحة في نظرية علم الاجتماع الجديدة للدين، يكون الانبياء قد بعثوا لمجتمع متكامل وليس بعثوا لأجل افراد او جماعة منحسرة، فذلك يتعاكس مع المنطق النظري، ولا يتفق معه، فالمجتمع هو المعادل السلبي للنبوة، والنبوة تحوله الى معادل ايجابي اذا توافق مع المضامين التي تطرحها النبوة.
بعد تطور المجتمعات الدينية وانفتاحها على الحضارة والمدنية واجهت أطر تجديد وتحديث، ومن الطبيعي أن الإطار النظري للدين يبقى كما هو، فيما شكل الدين وظاهره لا بد عليه من استيعاب الوضع الجديد وملامسته، كي يكون الدين مظهرا مدنيا، وهذا المنطق العضوي هو حالة تحديث وليس بتغيير لمنظومة الدين، ولكن الأمر انقلب فيه الحال، ففي ما بعد الحداثة نلمس هناك عودة المظهر للتراث الديني، وبالشكل السوريالي المثير، وذلك السلوك يسعى أن يفرض على الأفق المدني للحياة شكله التاريخي، وغريب جدا أن ترى سيرورة تتخلى عن نفسها وتعود إلى صيرورتها وتدور داخلها باستمرار، وهذه المعارضة النوعية لتحديث المظهر الديني وتجديده لمواكبة روح العصر، قد واجه هجمة شرسة من الطائفة الرجعية، والتي تسعى أن يبقى المظهر الإسلامي داخل صيرورته، ونحن لسنا ضد ذلك، لكن نحن أبناء الحقيقة الملموسة، ولا بد من أن ننجذب إليها بشكل عقلاني، والتراث إحدى صور التاريخ الجامدة، وفارق كبير أن أعيش في المتحرك الديناميكي وانتمى للجامد التراثي، والمنطق العضوي لروح العصر يحتم على التعايش الموضوعي، وأن لا أكون في حالة من الشذوذ الشكلي، ونطق الحياة العامة يجب مسايرته والامتناع عن ذلك يعني مخالفة الإطار العام، ومخالفة شكل الحياة أضاف شكل الطائفة مخالفة لمضمونها وبالتالي ينجم من ذلك معارض للأعراف العامة.
هناك نفس ملتبس للطائفة يسعى للهيمنة على المحيط الإنساني للدين، وتغيرت المقاصد من استخدام الخطاب إلى استخدام السيف كسلاح تراثي والمسدس كسلاح للوضع الحاضر، والأمر فيه نوع من الغرابة، فالتزام المظهر التراثي يمتنع عن التماس مع تجديد الحياة لكن يستخدم أدواتها الجديدة، فيستخدم المسدس لقتل الخصوم والموبايل للاتصال بالآخرين، وغريب جدا أن الهوية المعنوية لفرد الطائفة تتصل بالتراث والصيرورة مباشرة وتتخلى عن روح المعاصرة، وبذلك تفقد بالتدريج روح المدنية والمسالمة، وتتحول الذات البشرية إلى وحش يسعى للفتك إلى كل معارضة للطائفة التي يمثلها، وطبعا على المستوى النفسي نجد أن فرد الطائفة حالة من الانفعال العاطفي غير المبرر، وهذا يعني أنه يصعق كلا من بتماس معه من طائفة أخرى، والتفسير السياسي للطائفة يعني التزمت الأيديولوجي ونكران صفة التعدد المشترك بطريقة تولتا ريه، والطائفة في المعنى الإنساني هي المرض والسقم الفكري، فالنفس الطائفي لا يؤمن بوجود نفس آخر يشاركه الحياة، بل على أقل تقدير في يرفض ذلك، وإذا تفاقم الحس العاطفي، تكون لديه رغبة لكتم ذلك النفس المشترك، والتفرد بالموقف الديني وعدم مشاركة من يعارض خطاب الطائفة، وحتى المظهر المعارض نفسيا يعتبر التزاما بمظهر الكفر، والكافر عند الطائفة عدم تحديد له بل إجماليا تتعامل الطائفة ضده، فكل الغرب عند النفس السياسي للطائفة المتشددة هو كفر حتى لو كان يمتلك معتقدا دينيا ويلتزم به.
لقد استطاعت الكنيسة تجاوز محنها التاريخية وتقدمت بمستوى حضاري وتتمتع بمواقف ديموقراطية، وباعتدال متميز، لكن على عكسها أصبحت الجوامع، فبعدما كانت لعامة المسلمين، ولا تحدد موقفا طائفيا، أصبحت اليوم مركزا للطائفة، واعتقد الطائفة قدم الجوانب الثانوية التي يصح بها الأخلاف على الجوانب الأساس التي لا يصح بها الأخلاف، فالتوحيد عند الطوائف هو واحد بلا أي اختلاف، لكن الاختلاف هابط بما من معنى فيه، ومن العيب أن أصحاب الرقي الديني تداوله، وهو أيضا لا يحتاج لتعريف له، فهو أصبح وحدة أساس في التدين الطائفي، ونناقش العقل الطائفي عنه سبب تقديم الميزة على التوحيد المشترك بين الطوائف، ومن الطبيعي أن تكون الإجابة عاطفية وليس بمنطق ديني، لكن لا يتحرر الفرد الطائفي من تقديم الميزة على التوحيد، والميزة سياق للدين وليس التوحيد نفسه، والأمر غريبا في تدين الطائفة المسيسة وعاطفية، فالمعنى الديني العام هو ذاته عند الطوائف، ولكن تختلف السياقات له، وتتعارض الطوائف على السياقات المتعددة، ولا تهتم للموقف الواحد للمعنى الديني، وسيتحول أفق العلاقة بالمعنى الرباني إلى الترميز (إذا كان التمثيل الرمزي للإله "يتقدم" بالخطوات التي يتقدم بها التمثيل الرمز للشر والاسمية، فأنه لا يكمل مسيرته داخل هذا الارتباط)1، ومن الطبيعي لا يمكن للبشر التفكير المشترك في أكثر من جانب بوقت واحد، وهنا نرق من لديه رقي ديني يكمل المسيرة بتمثيل الإله مباشرة دون وسائط بشرية، فيما المقدم لعاطفته الطائفية يقدم عدوانية الآثمة كل شيء ما دامت هي المعتقد المجاهر به.
التفسيرات المعرفية للطائفة تعني بكافة الجوانب أن الطائفة إثم تبرره العاطفة المسيسة، تفسير تلك العاطفة دلت عليه الوقائع بأنه صادق نسبيا ومزيف أيضا، فالصدق العاطفي لا يلمس فقط من أجل التضحية، بل من خلال ثبوت العاطفة وعدم تزعزعها، فيما الزيف يكشف من خلال التحول من عاطفة إلى أخرى من خلال المصالح أو من خلال الضغوطات النفسية، لكن هناك عاطفة زائفة رغم عدم التحول من طائفة إلى أخرى، فزيف العاطفة مثلما موجود في الأفق السياسي يوجد في الأفق الديني، فثمة من يشرب الخمر لكن هيمنت طائفة متشددة على مدينته فانتمى إليها، وحمل السلاح وأرعب ناسا مسالمين، وهنا يكمن انفعاله النفسي، فهو بدل من أن يكون ضعيفا ومسلوبا الإرادة، يكون في الجهة المعاكسة مؤمنا إرادته داخل نفسه، ومن خلال العاطفة الزائفة التي يراها الفيلسوف بستراند مرسل أنها واسعة التداول أصبحت بسب تصاعد نفس السياسة والدين اجتماعيا، ويرى مرسل يخافون الأفكار أكثر من أي شيئا أكثر من الخراب، حتى أكثر من الموت، أن من الممكن أن تكون الأفكار تكون ينفس ثوريا تخريبيا، وكما أن أكثر تدميرا وأثرا وكما أن الأفكار لا ترحم المزيات، بل تزيحها وتحل بدلا منها، والأفكار الطائفية مسمومة تؤثر بقسوة نوعية على أفق الحياة العام وتربكه.
***
محمد يونس محمد
.........................
1- في التفسير محاولة في فرويد – بول ريكور، ترجمة وجيه أسعد، أطلس للنشر والتوزيع- 455