قضايا
طه جزاع: جمهورية هادي العلوي
كتب لي أحد أصدقائي الخلص يهزأ مني قائلاً : «لعلك الآن تسمي نفسك أبو ماو، بعد أن كنت تتسمى أبو فيدل « وأنا اليوم لا أبو فيدل ولا أبو ماو، فالمقدس عندي هو القضية والثوابت المبدئية وليس الأسماء، على أني أميل الآن إلى تلقيب نفسي «سليل الحضارتين». بهذه الإجابة الطريفة والعميقة يرد هادي العلوي على سؤال من الأسئلة الكثيرة في آخر حوار معه أعده خالد سليمان وحيدر جواد في كتاب «حوار الحاضر والمستقبل». والحديث عن هذا المفكر العراقي الزاهد يأتي لمناسبة تسمية الدورة القادمة لمعرض العراق الدولي للكتاب باسم « دورة هادي العلوي»، احتفاء به واستذكاراً لفكره وحياته بعد أكثر من 24 عاماً على رحيله، ذلك أن الرجل قد خرج من العراق منذ العام 1976 بعد عودة الشيخ جلال الحنفي البغدادي من الصين، فأخبر صديقه العلوي أن الصينيين طلبوا منه أن يرشح لهم من يحل محله ممن يرضي خلقه ودينه، فأختاره لتبدأ غربته الطويلة متنقلاً بين الصين ولندن وبيروت ودمشق التي توفي ودفن فيها أواخر أيلول 1998 .
ولعل من مفارقات الأقدار، ومن سوء حظ القراء والمثقفين في العراق، أن تغيب نتاجات هادي العلوي عن مكتباتهم وعن متناول أياديهم وهو في عز سنوات عطائه الفكري في سنوات الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي مع أنه نشر بحثه الأول في العام 1960 باسم مستعار خوفاً كما يقول من وزير الارشاد وقتذاك الذي كان يحارب المنابر اليسارية في العراق، ففي تلك السنوات صدرت وهو في الغربة معظم مؤلفاته المثيرة في الفكر والاقتصاد والأدب والتصوف والتراث الإسلامي، وكان لدار المدى للإعلام والثقافة والفنون فضل المبادرة بإصدار أعماله الكاملة لاحقاً لتكون متاحة للجميع، ومع ذلك يبقى العلوي من المفكرين الذين حرموا من الانتشار الواسع في وطنه أثناء حياته، في الوقت الذي تصدرت فيه مؤلفات بعض مجايليه في الفكر والتراث والفلسفة والسياسة والاقتصاد والمجتمع رفوف المكتبات وأرصفة شارع المتنبي بحرية كاملة مع أنه يبزهم جميعاً في عمقه وألمعيته وفرادة أسلوبه، بل وفي طرافته ونكاته التي لا يكاد يخلو منها كتاب من كتبه الكثيرة.
كانت شخصية العلوي سليل الحضارتين الإسلامية والصينية مثيرة للدهشة، فبسبب قراءاته التراثية المبكرة التي اتاحتها له مكتبة جده، وبسبب انغماسه في العمل الوطني وتعاطفه مع التيارات اليسارية، اكتسبت شخصيته طابع الثورة والتمرد، مثلما تحصنت بالزهد والتعفف على مسار الشخصيات الملهمة في التاريخ الإسلامي، حتى صار اسلامياً ماركسياً لينينياً مشاعياً ثورياً كاستروياً ماوياً، ومتصوفاً متعالياً على اللذائذ، لا يملك شيئاً لئلا يملكه شيء، كأي مثقف كوني. وفي هذه الخلطة الفكرية السلوكية العجيبة صار لينين شيخنا الروسي فلاديمير لينين، وصارت ركعة الصلاة ركعة كونفوشية، وما كان لفيلسوفي الصين لاوتسه وكونفوشيوس أن يتركا أثرهما في العلوي لولا نزوعه الروحي إلى المطلق الصوفي، فنجده يعمل أول ما يعمل خلال السنوات الأولى لوصوله إلى الصين، على ترجمة كتاب « التاو» لا كمترجم فحسب، بل كواحد من التاويين أصحاب الطريق القويم. وقد أعجب بالصين والقادة الصينيين: « ومن المفارقات أن راتبي في ذلك الوقت كان أكبر من راتب ماوتسي تونغ وخليفته هوا كوو فُنغ . فقد كان راتبي خمسمئة يوان وراتبهما أربعمئة يوان « !.
ولعل المشاعية وتراثها الصوفي في الحضارتين الإسلامية والصينية، هي التي ألهمت العلوي لإنجاز كتابه «مدارات صوفية «بل وزاد عليه انه وضع في نهاية الكتاب ملحقاً يتضمن برنامجاً للحركة المشاعية العراقية تحت عنوان الهيئة المشاعية العليا في العراق، متخذاً له قول أبو ذر الغفاري شعاراً : «عجبت لمن لا يجد في بيته ما يأكله كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه «. وفي هذا البرنامج لجمهورية هادي العلوي تفرض الهيئة المتخيلة عدداً من المطالب في مقدمتها استحداث وزارة باسم وزارة التنظيم المشاعي للمجتمع ، تُعهد ومؤسساتها إلى أشخاص رحماء موصوفين برقة القلب ونزاهة الضمير بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية وعقائدهم الدينية، ولا يستلم وزيرها راتب وزير بل راتب يُقنَّن بحاجاته الضرورية شأن أي مواطن. ولا تستعمل الوزارة السيارات الفارهة والغالية بل السيارات الشعبية الرخيصة. «!». وماذا بعد أيها الزاهد ؟ تقود الهيئة حملة شعبية للاستيلاء على قصور الدولة وفنادقها السياحية لإسكان المواطنين فيها ومنع توزيع القصور على المثقفين والأدباء والسياسيين الذين يحلمون بوراثتها. وماذا بعد ؟ إلغاء وزارتي الإعلام والثقافة، وتحويل اعتماداتهما إلى وزارة التنظيم المشاعي . « !! « .
كان رحيلك المبكر يا هادي العلوي رحمة لنفسك ودماغك وأعصابك، ورفعاً للإحراج عن الآخرين، فليس لمتصوف زاهد حالم مثلك كرامة في المدينة التي تحتفي بك بعد ربع قرن على رحيلك .
***
د. طه جزّاع – أستاذ فلسفة