قضايا
علي حسين: ثرثرة على ضفاف الفلسفة
في سنواتي الاولى مع القراءة والكتب عثرت بالصدفة على كتاب اسمه "هؤلاء علّموني"، الكتاب لم يكن رواية مثلما خمنت، لكنه أشبه برحلة يقوم بها المؤلف سلامة موسى متقصياً لحياة وأعمال عددٍ من الشخصيات. انزويت بالكتاب جانباً، كانت المرة الاولى التي اسمع فيها باسم سلامة موسى، في ذلك الوقت لم أكن أرى من الكتب سوى الروايات التي يصدرها محمود حلمي في سلسلته الشهيرة "كتابي". لكني الآن مع كتاب مختلف وصاحبه مختلف ايضا، كان قد نشر عشرات الكتب التي أثارت حفيظة المتزمتين آنذاك.
كان هذا أول عهدي بكتاب فكري، لم اسمع بأسماء الذين يروي سلامة موسى حكاياتهم، ولا أعرف ما معنى الانسان السوبرمان، ونظرية التطور، وما الذي يمكن ان ينفعني من منطق جون ديوي، لكن الكتاب استولى على عقلي، والحقيقة أنني انتهيت منه دون أن أعرف ماذا يريد المؤلف ان يقول، فهي المرة الأولى التي أقرأ فيها كتاباً لا حكاية ممتعة، ولا مسامرات بين الأبطال، كنت أقرأ في كلمات لا أفهمها، لكن الرغبة في أن أعرف جعلتني ألتهم الكتاب في يومين.
ثم كان أول لقاءٍ حقيقي لي مع سلامة موسى. كان لي صديق في مثل عمري، له أخ يدرس في كلية الآداب وكانت لديه مكتبة تضم عشرات الكتب، وكنت في كل مرة أدخل فيها الى بيتهم لابد ان أمرّ على هذه المكتبة وأتحسّس كتبها وأنظر اليها مأخوذاً أسأل نفسي: هل يمكن ان تكون لي مكتبة بهذا الحجم في يوم من الأيام ؟
بعد ذلك سيكون هذا الاخ الكبير ا أول من يشرح لي ألغاز كتاب سلامة موسى، وأخبرني، وهو يشير الى مجموعة من الكتب، أن هناك كتباً كثيرة لسلامة موسى، وأن لكلّ كتاب موضوعاً يحتاج منّي أن أقراه بانتباه. وأعتقد أنني بعد شهور من التفرغ لقراءة كتب سلامة موسى، بدأت أتذوق واستطعم هذا النوع الفخم واللذيذ من الكتابة.
في الرابع من كانون الثاني عام 1887، كانت ولادة سلامة موسى في بيت لموظف كبير يتقاضى نهاية كل شهر سبعة جنيهات. الطفل الذي رحل والده قبل عامين، لا يتذكر شيئا من هذا اليوم الذي اطلقت عليه والدته "يوماً أسود"، هكذا يخبرنا في كتابه "تربية سلامة موسى"، ولا ينسى ان يضيف أنه كان طفلاً منعزلاً، فقد كانت أمه تخاف عليه، فألبسته ملابس البنات اتقاءً للحسد، ومنعته من الخروج الى الشارع حتى نشأ على ما قال "محبا للوحدة والانطواء".
في مقدمة كتابه "أحلام الفلاسفة" يكتب سلامة موسى تعريفاً لحياته: "كنت ذلك الصبي الذي أرادت والدته ان تشكّله مثل عجينة طريّة ".. في تربية سلامة موسى التي أسماها سيرة ذاتية يقسم حياته مثل فصول الكتاب الى قسمين أساسيين، الأول بعنوان "تربيتي الادبية" والثاني "تربيتي العلمية". ويفسر لنا في السيرة، كيف أنه ربّى نفسه ثقافياً: "عندما أرجع الى البذور الأولى والجذور التي نشأت ونبعت منها ثقافتي الحاضرة، أجد أنها تكاد جميعها تعود الى الفترة الواقعة بين 1907 و1911 حين كنت في لندن، ففي تلك الفترة كانت طائفة من المذاهب والنظريات في الأدب والعلم " تتجرثم" وقد كان من حظي ان أدركت الجراثيم الاولى لهذه الحركات ".
كان يتمنى أن يعيش مئة عام، يموت ومن حوله الكتب، مثلما كانت نهاية الجاحظ، لم تجتمع لكاتب عربي غيره قوة التأثير والتنوع في الكتابة، أصبحت كتبه مَعلماً من معالم المكتبة العربية، وتفشت أفكاره حتى اعتقد أدباء ذلك العصر ان هذا الرجل المتوسط القامة سيسحب البساط من تحت أقدامهم، ما دفع الكثير منهم ان يخصص جزءاً من وقته للرد على "هرطقات" سلامة موسى.
كانت كتبه أشبه بالتحدي لموقف المجتمع من العلم والحضارة والتطور، وبرغم العديد من الكتابات التي صنّفت سلامة موسى بخانة الأدب، إلا ان الرجل وهو الذي كتب عن تولستوي وبرناردشو والأدب للشعب، وفي الحياة والأدب، وخصص أحد كتبه للأدب الانكليزي الحديث، يرفض ان يكون أديباً، فقد ظل الى اللحظة الأخيرة من حياته يعتبر نفسه مفكراً: "لم تترك الكتب الأدبية في رأسي مركبّات ذهنية، كتلك التي تركتها كتب داروين ونيتشة ومقالات اينشتاين، فقد غيرني داروين، اما اوسكار وايلد وكارليل من الأدباء فقد نسيتهم."
كان يرى ان فكرة التطور التي أطلقت نهاية القرن التاسع عشر نجحت في تفسير الظواهر الإنسانية والاجتماعية والتاريخ، ويتساءل في كتاب "نظرية التطور وأصل الإنسان" الصادر عام 1928 عن إحساسه تجاه نظرية داروين فيقول: "عندما استبطن إحساسي الديني أجد بؤرة هذا الإحساس هو التطور، فأنا أفهم أننا وجميع الأحياء أسرة واحدة بما في ذلك النباتات وان الخلية الأولى التي نبض بها طين السواحل، قبل ملايين السنين هي عنصرنا الأول وأننا مازلنا ننبض ونتغير في تجارب لاتنقطع وان سنّتنا هي سُنّة التغيير، وجريمتنا هي جريمة الجمود ".
كان سلامة موسى يرى ان المفكرين هم الذين يغيرون العالم. وتعريفه للمفكر هو الذي يصنع شسئا من اجل تطوير حياتنا وتغييرها، وهو الذي يوقضنا وينبهنا على افكار جديدة. وحين يتامل سلامة موسى تاشخصيات التي اثرت في حياته، سيشير في البداية الى نيتشه ومغامرته الفلسفية يكتب في هؤلاء علموني: " هبط عليَّ نيتشه كما لو كان وحيا أو كشفا، نثرٌ ساحرٌ كأنه أبيات من الشعر، وخيال يرتفع إلى آفاق المستقبل، وجرأة تكاد تجمِّد ذهن الناشئ رهبةً وجزعا. ثم إلى ذلك فلسفة تعلو على برود المنطق، وتأخذ بحماسة الإيمان وغلواء التفاؤل، وفي كل ذلك ارتباط بالتطور، ( إني أعلمكم علم السوبرمان، أو الإنسان الأعلى، ما هو القرد إزاء الإنسان؟ أضحوكة أو خزي، وكذلك يجب أن يكون الإنسان إزاء السوبرمان، أضحوكة أو خزي! إنما الإنسان معبر أو جسر يصل بين القرد والسوبرمان، سوف يكون السبرمان ازدهارًا وخيرًا وتعبيرا نهائيا للأرض، أستحلفكم أن تكونوا أمناء للأرض، وأن تكفوا عن التطلع إلى النجوم تنشدون منها آلاما ومكافآت، إن عليكم أن تضحوا بأنفسكم للأرض حتى يتاح لها أن تنجب يومًا ما السبرمان … الإنسان شيء يعلى عليه، فماذا فعلتم كي تعلوا عليه؟ )، كلمات رائعة كان وقعها في نفسي، وأنا حوالي العشرين، وحيا أو كشفا، فتعلقت به، وكتبت عنه مقالا في مجلة المقتطف في عام ١٩٠٩ بعنوان: (نيتشه وابن الإنسان) ". والفيلسوف الثاني الذي يستحوذ على اهتمام سلامة موسى هو كارل ماركس الذي يصفه في مقال نشره بعنوان " تربيتي العلمية " بان تاثيره يزداد بمرور السنين، ونظرياته تحيا في كل مكان: " المتعمق في دراسة ماركس لا يتمالك من الشعور بانه هو لا فرويد، الاساس الصحيح لفهم السيكولوجيا، فإن ماركس اثبت ان العواطف الاجتماعية، اي التي نكتسبها من المجتمع، اكبر قيمة وابغث على التغيير والتطور " – تربيتي العلمية – في حوار اجرته معه مجلة القاهرة عام 1996 يقول نجيب محفوظ: " سلامة موسى ابي الفكري، فهو استاذي العظيم. الشديد التطلع والشغف الذي لا يوصف بالعلم والحضارة "
لم تكن الفلسفة بعيدة عن تفكير نجيب محفوظ الذي بدأ حياته الادبية بكتابة المقال الفلسفي وقد نشر له سلامة موسى في مجلته " الجديدة " اول مقال وكان بعنوان " احتضار معتقدات وتولد معتقدات "، وفيه يشير نجيب محفوظ إلى أن " المدنيات القديمة قامت على معتقدات ترسخت في وجدان شعوبها، لأنها كانت بمأمن في نفوسهم من النقد والبحث اللذين يولّدان الشك والريبة، غير أن الوضع الحالي أصابه تغير بتسليط ضوء العقل على تلك المبادئ التي قامت بها تلك المعتقدات القديمة، ولذلك فإن العصر الحالي يعاني فيه الناس من الاضطراب والتخبط الفكري والمعرفي،لأنهم يشهدون عصر احتضار وتولد معتقدات. ولذلك فالمقياس الذي علينا أن نتشبث به هو العقل والتطور العقلي، لأنه سيجعلنا نتوجه إلى الطريق الأصوب، وإذا كانت الفلسفة تطرح الأسئلة، فبإمكاننا أن نقول إن الأدب يحاول طرح إجاباتها، وتشكيل زوايا لرؤية تفاعل الشخصيات مع تلك الأسئلة، وكذلك محاولاتها للحل في المعالجة الفنية. وهو ما يقوم به الأديب ذو الخلفية الفلسفية على وجه التحديد". كان ذلك عام 1930 وكان نجيب محفوظ يبلغ من العمر آنذال تسعة عشر عاما، ويتذكر في الحوار الذي اجراه معه رجاء النقاش ونشر في كتاب بعنوان " صفحات من مذكرات نجيب محفوظ " انه ارسل عام 1929 رسالة إلى سلامة موسى يبدي اعجابه بكتاباته، وكان نجيب محفوظ وقتها طالبا في الثانوية، ويقول ان صورة سلامة موسى في ذهنه في ذلك الوقت " كانت ترتبط بالعدالة الاجتماعية، والديمقراطية، والتصنيع، وحرية المراة، واهمية العلم، هذه المفردات كانت شاغل سلامة موسى الأساس ".. بعد ذلك سينشر نجيب محفوظ عام 1936 وفي مجلة " الجديدة " ايضا مقالا بعنوان " فكرة الله في الفلسفة " وفي نفس العام مقالا بعنوان " الثقافة والفن "، يقول نجيب محفوظ لانيس منصور ردا على سؤال حول اهم الاشكال الادبية التي جربها: " لقد بدأت حياتي بكتابة المقال، كتبت بصفة متواصلة بين عامي 1930- 1936 مقالات في الفلسفة، ثم اهتديت الى وسيلتي التعبيرية المفضلة، وهي القصة والرواية ".
تخرج نجيب محفوظ من قسم الفلسفة كلية الاداب عام 1934، وقضى عامين في اعداد رسالة لنيل الماجستير عن مفهوم الجمال في الفلسفة الاسلامية، باشراف الشيخ مصطفى عبد الرازق، لكنه تركها لينصرف الى الرواية،، وفي هذه السنة ينشر مقالات عن الفلسفة وكان واحدا منها بعنوان " ماذا تعني الفلسفة ؟ " يشير فيعه الى ان اهم وظيفة للفلسفة هي النقد: " ويشير بذلك الى الفيلسوف الالماني ايمانويل كانط الذي: " استطاع ان يمحص المذاهب الفلسفية السابقة، ويقصي عنها المبالغات والادعاءات المتطرفة لبنتخي بانشاء فلسفة قوية تُعد من امتن المفاصل في هيكل الفلسفة العامة " وهو يرى ان كانط يرجع كل المسائل الى العقل، فكل شيء صحيح مادام ننظر اليه بعين العقل. الى جانب كانط وسقراط وهيغل وشيلينغ وافلاطون، يولي نجيب محفوظ اهتمام خاص لفلسفة هنري برجسون وكان يتمنى ان يحصل على شهادة عليا في فكر الفيلسوف الفرنسي الشهير، وسيتناوله في اكثر من مقال، خصوصا عند الحديث عن الشخصية وسلوكياتها، وفي مقال بعنوان " فلسفة برجسون " يصف نجيب محفوظ هذه الفلسفة بانها اقوى رد على فلسفة القرن التاسع عشر، كما انها: " توجه الى المادية ضربات شداد، وسوف نلاحظ آثارها في الفلسفة الحديثة بوجه عام " – فلسفة برجسون 1934 –. ويمكننا تتبع اهتمام نجيب محفوظ بفلسفة برجسون من خلال ابطال رواياته. فها هو كمال عبد الجواد في السكرية يقرأ كتاب برجسون منبعا الاخلاق والدين: " لما فيه من نزعة رومانسية صوفيه " – السكرية –، ونجد نفس المشاعر لدى ابراهيم عقل في المرايا الذي يقرأ كتاب برجسون نفسه. ويصف نجيب محفوظ في السكرية حال كمال – الذي هو يجسد شخصية نجيب محفوظ – بانه: " قد يلوذ من الوجشة بوحدة الوجود عند سبينوزا او يتعرى عن هوان شأنه بالمشاركة في الانتصار على الرغبة مع شوبنهاور او يُهون من احساسه بتعاسة عائشة بجرعة من فلسفة ليبنتز في تفسير الشر او يروي قلبه المتعطش الى الحب من شاعرية برجسون " – السكرية -
العام 1939 ينشر روايته الاولى عبث الاقدار متسلسلة في مجلة " الجديدة " مع مقدمة بقلم سلامة موسى يبشر بولادة روائي جديد " خليق بالعناية والاعتبار "..العام 1956 حين ينشر نجيب محفوظ " بين القصرين " في كتاب، وكانت قد نشرت عام 1954 متسلسلة في مجلة الرسالة الجديدة، وهي الجزء الاول من ثلاثيته، يكتب طه حسين مقالاً في صحيفة الجمهورية المصرية يشيد بالرواية ويعتبرها: " اروع ما قرات من القصص المصري منذ ان اخذ المصريون يكتبون القصص " ثم يشير طه حسين إلى نقطة مهمة وهي علاقة الفلسفة برواية بين القصرين فيكتب: " وكل شخصية في هذه دليل واضح قاطع على ان الاستاذ نجيب محفوظ قد انتفع بما سمع في كلية الاداب من دروس الفلسفة.. لم يصبح فيلسوفا ولا مؤرخا للمذاهب الفلسفية، وانما اصبح فقيها بالنفس الانسانية بارعا في تعمقها وتحليلها، قادرا على ان يضع يد قارئه على اسرارها ودقائقها
كان نجيب محفوظ، يشعر بأنه أمضى حياته وهو يتجه نحو نقطة يتمكن معها من كتابة رواية عن مفهومه للدين والعلم، فهو الآن في الثانية والأربعين من عمره (عام 1953)، ويتذكر مقاله الذي كتبه عن فكرة الله في الفلسفة والذي نشره قبل اكثر من عشرين عاما، وفيه يقول : "شعر الفلاسفة المحدثون، كغيرهم من المفكرين في أي عصر آخر، بأننا نستطيع أن نعرف القليل عن الله، لكننا لانستطيع أن نعرف عنه كل شيء، فثمة طرق نستطيع أن نعرف فيها الله وأخرى لانستطيع أن نعرفه فيها".. ولهذا سيظل سؤال الوجود يطارده فنجده في الثلاثية يسلط الضوء على إزمة الإنسان الوجودية ورؤية أبطال الرواية الى الكون، وشكوك البعض منهم تجاه المعتقدات المتداولة آنذاك: "وجَّهني سلامة موسى إلى شيئين مهمين، هما العلم والاشتراكية، ومنذ دخلا مخّي لم يخرجا منه حتى الآن".
في الجزء الثاني من الثلاثية قصر الشوق - يرصد نجيب محفوظ القادم من الفلسفة الى الرواية، ما حصل لكمال عبد الجواد وهو يتعرف على أحدث النظريات العلمية: قبل الخروج الى صلاة الجمعة بساعة، دعا أحمد عبد الجواد، كمال الى حجرته. كان بعض أصحابه قد وجهوا نظره مساء أمس الى مقال ظهر في البلاغ الأسبوعي بقلم الأديب الناشئ (كمال عبد الجواد). ومع أنّ أحداً منهم لم يقرأ المقال إلا العنوان (أصل الإنسان) فإنهم اتخذوا منه مادة للتعليق والتهنئة وممازحة السيد.
قال بهدوء مصطنع: - لك مقال في هذه المجلة، أليس كذلك؟
رفع كمال عينيه عن المجلة، ثم قال بلهجة لم يمكنها من الإفصاح عن اضطرابه: بلى خطر لي أن أكتب موضوعاً تثبيتاً لمعلوماتي وتشجيعاً لنفسي على مواصلة الدرس.
قال السيد بهدوئه المصطنع: لاعيب في ذلك.. ماذا أردت بهذه المقالة؟ اقرأها واشرحها لي، فقد غمض عليّ مرامك.
-إنه مقال طويل يا بابا، ألم تقرأه حضرتك؟ إنني أشرح فيه نظرية علمية.
-ماذا تقول هذه النظرية؟ لقد لفتت نظري عبارات غريبة تقول إن الإنسان سلالة حيوانية، أو شيء من هذا القبيل، أحق هذا؟.
-هذا ما تقرره هذه النظرية.
علا صوت السيد وهو يتساءل في انزعاج:
-وآدم أبو البشر الذي خلقه الله من طين ونفخ فيه من روحه، ماذا تقول عنه هذه النظرية العلمية؟!
قال بصوت خافت: - دارون صاحب هذه النظرية لم يتكلم عن سيدنا آدم.
هتف الرجل غاضباً
-لقد كفر داروين ووقع في حبائل الشيطان، إذا كان أصل الإنسان قرداً أو أي حيوان آخر، ألم يكن آدم أباً للبشر؟
يكرّر نجيب محفوظ في معظم رواياته علاقته مع العلم والفلسفة. وقد كان يؤمن أن الفكر الفلسفي وحده يستطيع النفاذ والنظر الى مشكلة الألوهية والخلق، فهو يرى أنّ العلم هو الصورة الوحيدة للمعرفة البشرية،، وكان يرفض اعتبار اللاهوت أو الفلسفة الميتافيزيقية ميادين للمعرفة، فالعالم الذي يصفه العلم هو العالم الوحيد الموجود، وهو يرى أن مسائل الدين والأخلاق يجب أن تخضع لمعايير العلم.. يتذكر نجيب محفوظ أنه نشر عام 1933 مقالاً عن عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي أوغست كونت الذي أيقن في السنوات الأخيرة من حياته أن فلسفته تنطوي على أسس لعقيدة جديدة للبشرية وأنها هي وحدها الملائمة في نظره لعقل البشر في عصر علمي، فالأديان التقليدية تقتضي قبول معتقدات لاهوتيّة غير علميّة. لكنّ المؤسف أن كونت في السنوات الأخيرة من حياته أصيب بعلّة ذهنية اعتقد فيها أنه يبشّر بديانة جديدة، ولم يكتف بالدعوة الى عقيدته الجديدة، وإنما اتجه الى وضع طقوس خاصة لها، وكان يؤمن بأنه النبي الحقيقي لعقيدته الجديدة، وبأنّ زوجته هي القديسة الحامية لهذا الدين..يكتب كونت: "إذا كانت الأصولية المسيحية قد انهارت فهذا لا يعني أن الدين قد انهار، وإنما يعني أننا بحاجة إلى بلورة مفهوم جديد للدين: أي مفهوم كوني واسع يشمل البشرية بأسرها، مفهوم قائم على الحب وتجاوز الأنانيات الشخصية والمصالح العابرة للبشر."
في " ثرثرة فوق النيل" تتناثر على لسان ابطال الرواية عبارات العبث والتمرد والوجودية، حتى ان بعض ابطال الرواية يتهكمون على الفلسفة الوجودية التي يصفونها بانها تبيح كل شيء.. لا شيء يستحق الاهتمام هكذا يؤكد ابطال ثرثرة فوق النيل، فنجدهم يجربون حياة العدم الذي هو المحور المسيطر على حياتنا، كما يؤكد نجيب محفوظ في ثرثرة فوق النيل.
يكتب محمود امين العالم: " ان ادب نجيب محفوظ هو ارفع صورة بلغها الادب الفلسفي في تراثنا الادبي المعاصر، وإذا كان توفيق الحكيم هو فيلسوف الادب في فترة ما بين الحربين، فان نجيب محفوظ فيلسوفه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو فيلسوفنا بوجه خاص خلال السنوات الاخيرة ".
في كتابه " الدنيا بعد ثلاثين سنة " الذي نشره عام 1936 يكتب سلامة موسى: " التطور يسير بسرعة مذهلة.. لن ارى الاشتراكيىة عام 2000 كما توهمت " فيالرابع من آب عام 1958 يرحل سلامة موسى عن عالمنا وكان قد كتب في الصفحات الاخيرة من كتابه " تربية سلامة موسى " تعريفا بنفسه: " "وإذا شئت أيها القارئ، زيادة في التفاصيل فاعرف:
1 - أني أؤمن بالحقائق. ومن هنا تعلقي بالعلم لأنه حقائق.
2- وإذا كان لا بد من عقيدة فإني أؤمن بها عندما تكون ثمرة الحقائق العلمية. فإني أعتقد مثلاً بالمستقبل الاشتراكي للعالم كما لمصر. وأعمل له. لأن الإقتصاديات العصرية تومئ بذلك.
3- وأؤمن بأنه ليس في الدنيا أو الكون أو المجتمع إستقرار. لأن التطور هو أساس المادة والأحياء والمجتمعات، أي أساس الوجود. وأن الجمود الاجتماعي هو معارضة آثمة من الأشرار لسنن الكون والحياة ".
***
علي حسين – رئيس تحرير صحيفة المدى البغدادية