قضايا
عدنان عويّد: الأحزاب الديمقراطية الثوريّة وربطها العروبة بالإسلام
لقد اشتغلت هذه الأحزاب براغماتيّا على مستوى الخطاب الديني عندما ربطت برؤية توفيقيّة/ تلفيقيّه ما بين العروبة والإسلام، لاعتقادها بأنها قادرة بهذا الربط أن تُكسب مشروعها السياسي مشروعيته أو مصداقيته عند الجماهير التي يغطي الخطاب الديني حيزاً كبيراً من وعيها أولاً، ولمنافسة الأحزاب الدينيّة، وبخاصة (الإخوان المسلمون) الذين ربطوا الدين بالسياسة أيضاً عبر طرحهم مشروع الحاكميّة لله ثانياً، ثم منافسة الأحزاب اليساريّة (الشيوعيّة) التي تشاركها الشعارات النهضويّة والتقدميّة وإظهارها معادية للدين أمام الجماهير ثالثاً. هذا دون أخذها بالاعتبار أنها بربطها بين العروبة والإسلام كانت تعمل على تعميق أزمة خطابها السياسي، كون الدين (الإسلامي) بشكل خاص بالنسبة هو في المحصلة أيديولوجيا ترفض الفكرة الوطنيّة والقوميّة، كما ترفض فكرة المواطنة وكل ما يتعلق بمفاهيم الحداثة والعلمانيّة التي تتبناها هذه الأحزاب في خطابها الأيديولوجي، فالأيديولوجيا الدينيّة غيبيّة لا تؤمن بوجود فكر وضعي قادر أن يتحكم بأليّة عمل الظواهر الطبيعيّة والاجتماعيّة، كما لا تؤمن أيضاً بوجود أي قوى اجتماعيّة قادرة على التشريع لحل قضايا الناس بعيدا عن التشريع الذي وضعه الله وأقره السلف الصالح. وهذه المسألة يقرها خطاب الإخوان وكل القوى السلفيّة المعاصرة في خطابهم السياسي الذي يكفر كل من يخرج عن فكرة الحاكميّة كما جاء في كتاب (الخلافة والملك) لأبي الأعلى المودودي، وكتاب سيد قطب (معالم في الطريق)، أو في أدبيات القاعدة وفروعها مثل داعش والنصرة ومن يلتقي معها. وإن ما تقوم به هذه القوى الأصوليّة اليوم في ثورات الربيع العربي يؤكد ذلك.
إن مسألة الاشتغال على الخطاب الديني لتحقيق مصالح سياسيّة لقوى اجتماعيّة ذات توجهات دينيّة سياسيّة محددة، يبقى لها مخاطرها ومحاذيرها إذا ما اشتغلت عليه الأحزاب التقدميّة، وذلك كون الدين إذا ما تجذر ايديولوجيّا في عقل لإنسان، لم يعد من السهل بمكان توجيه عقل وتفكير هذا الإنسان خارج توجهات هذا الدين الذي امتلك عقله ورحه معاً، ففكرة الانتماء للمواطنة أو الوطن أو الانتماء القومي، تتنافى مع مسألة الانتماء الأممي للدين، وهذا ما أكده الكثير من رجال لدين ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ الإمام "محمد عبده" حيث يقول: (لأن جرثومة الدين متأهلة في النفوس بالوراثة من أحقاب طويلة، والقلوب مطمئنة إليه... فلا يحتاج القائم بإحياء الأمّة (قصده الأمّة الإسلاميّة) إلا إلى نفحة واحدة يسري نفثها في جميع الأرواح... ومن طلب إصلاح أمّة شأنها ما ذكرنا بوسيلة سوى هذه، فقد ركب شططاً وجعل النهاية بداية.). (1). ثم يقول أيضاً: (إن الأجناس قامت على العصبيّة القوميّة. لأن أفرادها تلاحموا حفاظاً لحقوقهم من جور حاكم من جنس آخر، أما الوضع فيختلف بين المسلمين. وأضاف : وهذا هو السر في إعراض المسلمين إلى اختلاف أقطارهم عن اعتبار الجنسيات، ورفضهم أي نوع من أنواع العصبيات ما عدا عصبتهم الإسلاميّة. فإن المتدين بالدين الإسلامي متى رسخ فيه اعتقاده يلهو عن جنسه وشعبه ويلتفت عن الرابطة الخاصة إلى العلاقة العامة.) (2). ثم أن الأحزاب التي تربط بين العروبة والإسلام سيؤدي هذا الربط بالضرورة إلى تجاهل وجود وتاريخ ومكانة مكونات دينيّة أخرى في مجتمعات هذه الأحزاب وستتحول بالضرورة إلى رعيّة، بل إن التجاهل سينال حتى بنية هذه الأحزاب التنظيميّة ذاتها، كالمكوّن المسيحي وغيره من المكونات الدينيّة التي لها انتماءاتها الدينية الخاصة بها من جهة، والتقليل من أهميّة انتماءاتها القوميّة والوطنيّة وإيمانها بدولة القانون واعتبار نفسها جزءاً أساسيّاً من نسيج الوطن لها حقوق وعليها واجبات، وأن المواطنة بالنسبة لها هي المخرج الوحيد لخروجها من مازق الأقليات أو أهل الذمّة الذي يتبناه دعاة المشروع الإسلامي السياسي الرافض للآخر. وما جرى ويجري اليوم تحت مظلة ما سمي بثورات الربيع العربي من ممارسة مشينة من قبل الإسلاميين المتزمتين (السلفيين) بحق الأقليات الدينيّة يثبت ذلك.
إن من يتابع كتابات عبد الرحمن الكواكبي منذ نهاية القرن التاسع عشر، يجده أكثر قدرة على فهم مسألة الدين وخطورة اللعب على وتره، وخاصة في المجتمعات المتعددة الديانات والطوائف والمذاهب، من فهم بعض هذه الأحزاب التي تدعي القوميّة والعلمانيّة المطالبة بالربط ما بين العروبة والإسلام، متناسية مكوّن هام من مكونات المجتمع وهو الأقليات الدينيّة، حيث يقول عبد الرحمن الكواكبي عن خطورة اللعب على الدين، ومحاولة ربط الدين بالدولة (السياسة) في المجتمع السوري الذي ينتمي إليه:(دعونا يا هؤلاء ندبر شأننا بالفصحى ونتفاهم بالإخاء ونتواسى بالضراء ونتساوى في السراء، دعونا نتدبر حياتنا الدنيا ونجعل الأديان تحكم في الأخرى فقط . دعونا نجتمع على كلمة سواء ألا وهي فلتحيا الأمّة، فليحيا الوطن، فلنحيا طلقاء.) .(3). أما ساطع الحصري المفكر القومي الأصيل الذي يعتبر المنظر الأكثر اهتماماً وعمقاً في الفكر القومي على الساحة العربيّة في القرن العشرين فيقول حول مسألة ربط العروبة بالإسلام: (إن الأبحاث التي نشرتها في مؤلفاتي المختلفة، أظهرت إلى العيان وبأجلى المظاهر وأجلها، الدور العظيم المنقطع النظير الذي قام به ظهور الدين الإسلامي في تكوين الأمّة العربيّة وتوسيع نطاق العروبة، وترسيخ كيان بنيانها، وتشديد مقاومة التجزئة التي عصفت بها، ومع ذلك لم تر تلك الأبحاث مجالاً ولا لزوماً لاعتبار الدين من المقومات الأساسيّة للقوميّة العربيّةّ.). (4).هذا في الوقت الذي نجد فيه مفكراً إسلاميّاً مرموقاً في سورية وله حظوته ومكانته في دولة البعث، وهو الشيخ "محمد سعيد رمضان البوطي"، يقف ضد العلمانيّة بعد مئة عام من مقولة الكواكبي السوري حول هذه العلمانيّة في كتابه (العقيدة الإسلاميّة والفكر المعاصر)، وهو كتاب مقرر لطلاب الشريعة في جامعة دمشق: حيث يقول البوطي: (أما الدين الإسلامي فيحوي في أصله إلى جانب مبادئ الاعتقاد، والأحكام التي تضبط شؤون الدولة وتتكفل بإقامة أنظمتها وقوانينها، فحجزه عن ممارسة صلاحياته ومسؤولياته، ففي ذلك تغيير لجوهره وإبطال لكثير من مضمونه... ). (5). ثم يتابع ناعتاً من يؤمنون بالعلمانيّة ضمناً، ويتقربون إلى الإسلام قولاً، قائلاً: (إن التظاهر بالخضوع له – أي الدين - بعد ذلك كذب عليه ومخادعة له ولمشرعه.) (6)، بل هو لم يتوان أمام اعتبار الإسلام بداية ونهاية كل شيء، ويدفعه هذا الاعتقاد إلى نزع الأخلاق عن العرب قبل الإسلام وعن العروبيين المعاصرين كما ذكر في إحدى حلقاته التي تبث على قنوات التلفاز السوري وهي بعنوان، (لا يغير الله بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) حيث يقول: (إن العرب ليس لديهم أخلاق قبل الإسلام، وإن القوميين العرب الذين يقولون بأن العرب كان لديهم أخلاق قبل الإسلام هم كذابون.). هذا في الوقت الذي يُعتبر فيه حزب البعث الذي احتضنه حزبا عروبيّاً، وهو المنادي بالآمّة العربيّة الواحدة ذات الرسالة الخالدة.
نقول: إن الأحزاب القوميّة العربيّة (العلمانيّة) قد اشتغلت على تثبيت سلطتها في الحكم، بالتوازي مع الاشتغال على الدين، وربط العروبة بالإسلام في سياق عملها أكثر من اشتغالها على الفكر القومي ذاته، للأسباب التي أشرنا إليها سابقاً، بل أثبتت عجزها عن تحقيق أيّة قضيّة من قضايا مشروعها القومي، هذا العجز الذي غالباً ما يزيد الطين بلّة من حيث زيادة عمق التناقضات وحدّة الصراع ذاته بين القوى الوحدويّة ذاتها والقوى المناوئة لها عند سعيها لتطبيق أي مشروع قومي، كما هو الحال على سبيل المثال لا الحصر، مشروع الوحدة بين مصر وسوريّة الذي خلق للدولتين وللأمّة العربيّة أزمات وصراعات وحسابات سياسيّة من قبل القوى التقدميّة والرجعيّة المناوئة للوحدة معاً لم تزل قائمة حتى الآن، الأمر الذي جعل القوتين تتمسك بورقة الدين أكثر، وذلك للحفاظ على السلطة من قبل القوى الوحدويّة التقدميّة أومن قبل القوى الرجعيّة المعاديّة لها.
وفي ختام عرضنا لهذه المسألة أحب أن أضيف هنا مسألة أخرى حول ربط هذه الأحزاب براغماتيّا بين العروبة والإسلام وهي: إن هذه الأحزاب تعني بالعروبة هنا المشروع القومي، والمشروع القومي في جوهره مشروع يعمل على تحقيق الوحدة العربيّة، وهذا العمل هو في المحصلة عمل سياسي، والسؤال هو: كيف تبرر هذه الأحزاب لنفسها هنا ربط السياسة بالدين، في الوقت الذي تحرم وتحارب الأحزاب السياسيّة الدينيّة التي تربط بين السياسة والدين؟!.
***
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث من سوريّة
..........................
الهوامش:
1- (د. توما - أميل - الحركات الاجتماعية في الإسلام0 دار الفارابي. بيروت- 1981.). ص154
2- (المرجع نفسه- ص154).
3-(المرجع نفسه- ص155).
4- (توفيق – زهير - أديب اسحق مثقف نهضوي مختلف- المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت -2003 – ص153).
5- د. البوطي - محمد سعيد رمضان. (العقيدة الإسلامية والفكر المعاصر). وهو كتاب مقرر لطلاب الشريعة في جامعة دمشق. ص 248
6- المرجع نفسه. 148