قضايا
صابر جيدوري: هل نحن بحاجة إلى التربية الجمالية؟
قد يبدو الحديث عن التربية الجمالية ضربًا من الترف الفكري إذا ما قورن بطبيعة وحجم الإشكالات التي يواجهها المجتمع العربي المعاصر، غير أن ما نعايشه من هبوط مريع في مستوى الذوق العام، وكيف أصبحنا محاطين بالقبح المتمثل: بالحقد والحسد والكره وتطاول الصغار على الكبار، والخوض في النميمة، وممارسة القسوة في أبشع صورها، فضلًا عن انسياق الإعلام عمومًا خلف تصور للجمال يقرنه بمبدأي اللذة والمنفعة، كل ذلك وأكثر منه بكثير يدفعان بهذا الحديث إلى تصدر قائمة الإشكالات.
من هنا يصبح الحديث عن الجامعة والجمال حاجة ملحة بعد أن غدت حياتنا في هذا الزمن القبيح خالية من الفرح والأمل والخير والحق والجمال، وهذا يعني أن الحديث عن الجامعة وثقافة الجمال له ما يبرره، وبخاصة إذا ما عرفنا أن التربية الجمالية لا تشمل كل ما نعمله لأنفسنا، أو ما يعمله الآخرون لنا بقصد تنشئتنا وتقريبنا من درجة الكمال ما أمكن ذلك، ولكنها فوق ذلك تشمل الآثار غير المباشرة التي تؤثر في أخلاقنا وطباعنا ومواهبنا الإنسانية، وكل ما يُساعد على صقل الشخصية الإنسانية، ويخرجها من قبحها حتى تصبح واعية لقيم الحق والخير والجمال.
وإذا كان حب الجمال قائمًا في بنية النفس الإنسانية، ويعكس صحة الذوق وسلامة الفطرة، فإنه يحتاج إلى تدريب على استدعائه لحظة التفاعل مع الموجودات، وهذا يتطلب من الجامعات ممارسة دورها في تنمية القيم الجمالية لدى طلابها، وحثّهم على تخطي عالم المادة، لأن الدخول إلى عالم الجمال أمر في غاية الأهمية، لما يعكسه هذا العالم من بهجة وفرح ومتعة.
وهكذا، فإن قيام الجامعة، من خلال أنشطتها المختلفة، ببناء خبرات جمالية لدى الطلبة يُعدّ من المسؤوليات المهمة التي يجب أن تعكسها العملية التربوية بكفاية عالية، لأن الخبرة الجمالية للطالب لا تنحصر في تأمل الطبيعة فحسب، بل هي مُصاحبة للسلوك الأخلاقي ومُجسدة في شتى مظاهر صلة الإنسان بالأشياء التي حوله.
ولهذا، نجد في البلدان المتقدمة أن التعليم يشكل موقفًا تكامليًا تجاه التربية الجمالية، ومعرفة الجميل من القبيح، وارساء دعائم وقيم جمالية فيه، ويكون دور التربية الفنية خلق أناس قادرين على ربط حياتهم بالقيم الجمالية، وهذا شيء متمايز من النشاط الفني المعتمد على الجمال في جملته، وهو النشاط الذي تعززه وتشجعه التربية الفنية عندهم.
مع ملحوظة أن اللامبالاة أو عدم الاكتراث بالقيم الجمالية قد أصبح شائعًا لدى الكثيرين، وتكفي نظرة واحدة في الأوساط والبيئات المتنوعة للخروج بهذا الانطباع، فالإنسان لن تظهر عظمته حين يكسب شيئًا ويخسر ذاته، لأن الفكر وحده لا يصنع إنسانًا عظيمًا، والعاطفة وحدها لا تصنعه أيضًا، والإنسان الحق فعلًا هو من يحقق التوازن الجميل بين القول والفعل، وبين الفكر والوجدان، وبين القلب والعقل.
من هنا نفهم، لماذا ربط "كانط" موضوع الجمال بموضوع الأخلاق، وأكد على أن الإنسان الذي يهتم بالجمال الطبيعي لابد أن يكون قد اعتاد من قبل حياة التأمل، ومن ثَمَّ فإن الخير الأخلاقي لابد أن يكون قد أصبح متأصلًا في نفسه. ومعنى هذا أن الاهتمام المباشر بجمال الطبيعة هو مظهر من مظاهر النزوع نحو الخير الأخلاقي، أو على الأصح أثر من آثار التربية الأخلاقية، وإذا كانت هناك قرابة بين الأحكام الجمالية والشعور الخلقي، فذلك لأن الطبيعة تخاطبنا بلغة رمزية عن طريق ما فيها من أشكال جميلة، وحينما يهتدي المرء إلى فك رموز هذه اللغة، فعندها سوف يعجب بمقاصد الطبيعة، ويفطن إلى ما في قوانينها من نظام، ويدرك أنها تنطوي على غائية خاصة هي في صميمها مرتبطة بغاية وجودنا، وبمصيرنا الأخلاقي.
ولأن الأمر كذلك، يصبح من الضروري أن تُعزز الجامعات الخبرات الجمالية في سلوك طلابها، بعد أن تُزودهم بالمعرفة اللازمة بهذه الخبرات، لأن مثل هذه الخبرات هي التي تضفي على أفعال الطلبة وأحاسيسهم وأفكارهم المبعثرة الوحدة والاتساق، مما يجعلهم أكثر قدرة على مواجهة ظاهرة التطرف الفكري، والسلوكيات السلبية، من خلال البحث عن الأسباب الداعية لها، ووضع حلول مناسبة لتلافي أخطارها.
وعليه، فإن الجامعات العربية عمومًا بحاجة إلى فلسفة تربوية تكون فيها غاية الغايات بناء الطالب في إطار خبرات مجتمعه الجمالية، وتكون التربية الجمالية وسيلة يتحقق من خلالها أسلوب حياة جميلة على أسس تربوية مخططة، وذلك لإكساب الطالب خبرات جمالية مربية في إطاره اجتماعي. وهذا يقتضي أن يكتسب الطالب الجامعي الخبرة الجمالية من خلال مراعاة ميوله واتجاهاته.
بالإضافة إلى ايمان الجامعات بالإيقاع المتسارع للتغيير، وأن تكون الوظيفة الخاصة لكليات الفنون فيها تسهيل الاتصال بالعالم الجديد الذي يشكله الخيال الخلاق، لا أن يكون الفن مجرد تقليد لعالم الأشياء الواقعية. ولذلك يجب ألاّ يكون الفن تكرارًا للأشياء كما هي، وإنما النظرة المتغيرة لعالم متغير، ومن هنا يكون هدف الفلسفة الجمالية تنمية قدرات الخلق والإبداع عند الطلبة.
هذه الفلسفة الجمالية للجامعات تقتضي أيضًا أن يتم تحرير التعليم، لأن غرس القيم الجمالية وتنميتها يتناقض مع الشمولية والأحادية، فضلاً عن أنه لا يمكن أن يتميز التعليم بطابع جمالي، إلاّ إذا تم تحرير المعرفة المقدمة إلى الطلاب، وتحرير القائمين عليها "المعلمين" من كل أشكال القهر والتسلط، سواء أكان قهرًا معنويًا أم رمزيًا أم ماديًا، ومن ثَمّ تحرير الخبرة الجمالية بوصفها منتجًا اجتماعيًا يُعبّر عن تطور الواقع في لحظة ما. ومن هنا يمكن القول: إن التربية الجمالية تستطيع أن تؤدي دورًا تنويريًا، وتعمل على ترسيخ القيم الجمالية، وبخاصة إذا ما انطلقت من فلسفة جمالية تؤمن إيمانًا مطلقًا بقدرة الإنسان على الخلق والإبداع.
ولهذا، لا بد من الانفتاح على الفكر التربوي العالمي من أجل إطلاق حوار تربوي ثقافي هدفه معرفة العلاقة بين الثقافات الإنسانية بوصفها قضية محورية يدور حولها النسق الثقافي الإنساني من جهة، والتعرف على الأفكار التربوية التي طرحتها المذاهب الفلسفية المختلفة، والاستفادة منها في التربية العربية ما أمكن ذلك، وبخاصة ما يتصل منها بالتربية الجمالية التي من خلالها تتاح الفرص الإبداعية، وتُكتسب المهارات، وتنمو المعرفة، ويتسع الإدراك، وتُعمق الرؤية، ومن خلالها أيضًا يمكن للفرد أن يكتسب الخصائص التي تنميه جماليًا.
ومن ثم، فإن الجامعات العربية اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى بالنظر إلى مجالات الفنون بصورها التعبيرية المختلفة (الفنون التشكيلية، والغنائية، والحركية، والموسيقية)، كمصدر من مصادر المعرفة التي تُحرك وجدان الطلبة، ومشاعرهم الإنسانية، وتُهذب نفوسهم، عملاً بقول الإمام الغزالي: "من لم يهذبه الربيع وأزهاره، والعود وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج".
***
د صابر جيدوري