قضايا
كأس العالم المقدسة: كرة القدم بوصفها ديناً
إنَّه المونديال! الحدث الكوني الاستثنائي الذي يشبه حَجَّاً موسمياً لطائفة دينية كبرى، أو أكثر أعيادها قُدسيَّة. تاريخياً، كانت للأديان قدرات هائلة على حشد جموع مؤمنة، واستثارة العواطف إلى أقصى ذروتها. لكن، وفي عقود قليلة، راحت لعبة كرة القدم تثبتت - بما توفره من إمتاع مبهر- أن لها إمكانات مماثلة. لا أحد يجادل في أن التديُّن غير اللعب. الفعل التَعبُّدي منضبط، جاد، مصيري، ولا مكان فيه للارتجال. أما فعل اللعب فهو أرضي، منفلت، لاهٍ، وابن لحظته. مع ذلك، فنحن أمام مشهد لطقوسية ليتورجية في الحالتين. وفي إمكان المتتبع أن يجد أيضاً لحظات تاريخية جمعت الاثنين معاً، من غير أن تتسبب لأحدهما بالحرج. كانت الألعاب الأولمبية عند اليونان مثلاً تأخذ صفة دينية، فتقام باسم زيوس، كبير آلهة جبل الأوليمب.
مع كرة القدم لم يعد العالم مثلما عرفناه في أي وقت من أوقاته. كانت في أول أمرها لعبة بريئة ممتعة، بعيدة تماماً عن ألاعيب أهل السياسة والمال، أولئك الذين سيختطفونها لاحقاً. حتى أن بعض الكنائس شجَّعت على ممارستها، وجدت فيها نشاطاً نافعاً، يُسلِّي الصبية والشباب، ويصرفهم عن محرمات كثيرة. سرعان ما ستصبح الشغل الشاغل لفئات كبيرة من الناس. تشكَّلت فرق، ومنتخبات تمثل هويات فرعية، وأخرى وطنية. وراح محبو اللعبة يؤسِّسون روابط تشجيع تشبه الأخويات، ويتبعون فرقهم أينما حلَّت. أقيمت البطولات وفقاً لجداول ومواسم هي أشبه بروزنامة مناسبات دينية، وستعمل على نقل مجرياتها فضائيات مشفَّرة لمشتركيها فقط، فما كان مجرد لعبة غدا استثماراً يَدرُّ المليارات. أما الملاعب فقد أخذت تُبنى بأبهة معمارية باذخة، وتتزايد كفطر شيطاني لتنافس وظيفة المعبد. لنتذكر أن الدخول لفضاء أمكنة العبادة مجاني، أما حضور مباراة مهمة بكرة القدم فيتطلب شراء تذكرة بمبلغ مالي كبير، مع شيء من الحظ السعيد أحياناً.
هل ثمة دين يرقب ذروة طقوسه مليار من البشر، مثلما يحصل مع المباراة النهائية لكأس العالم؟ في الواقع، كرة القدم اليوم هي المنافس الأكثر خطورة لرأسمال الدين. لا تكتفي باللعب في ساحتها، بل تذهب في نزقها بعيداً، "تتسلل" إلى منطقته بمكر بالغ لتسرق منه أتباعاً مفترضين، مع أن مرماه مُحَصَّن بحراس عقائديين في منتهى الصلابة. مهاراتها في المراوغة تدفعهم للقلق، فلا غرابة في أن نجد بعض رجال الدين، شرقاً وغرباً، ومن مختلف الديانات والطوائف يحذرون من شرورها، من ملابس لاعبيها غير المحتشمة، من إلهائها للناس عن أوقات الصلوات (سابقاً، كان المباريات لا تُقام يومي السبت والأحد)، من المبالغة في الاحتفاء بنجومها، برغم أن فيهم من يرسم على جبهته شارة الصليب حين يحرز هدفاً، أو يؤدي سجدة شكر لله. وسيتم التركيز على تفاهة جوهرها أصلاً:" مجرد قطعة جلد مكورة تتقاذفها الأرجل". حتى أن بعضاً من أولئك ذهب بعيداً في محاربة شعبيتها الكبيرة إلى حدَّ الإفتاء بتحريمها.
لا تمتلك كرة القدم ما يختزنه جوهر الديانات الكبرى، أي القدرة على تقديم إجابات تريح الإنسان من قلقه الوجودي أمام المصير المجهول. لكنها تقدم له كل ما سوى ذلك مما توفره الديانة. صارت ديناً ببلاغة أقدام أساطيرها. شيئاً فشيئاً تمكنت الساحرة المستديرة من أن تغدو ملاذاً يلجأ إليه المرء من واقعه المتردي، من مخاوفه وخساراته. ستمنحه مزاولته أو متابعته للعبة فرصة أن يعيش تجربة حياتية مختلفة، فيها قدر كبير من الحرية المفتقدة بسبب الضبط الاجتماعي. أي أن يختبر الإنسان دون خجل، وفي غضون تسعين دقيقة فقط جميع أشكال المشاعر والانفعالات المكبوتة، يضحك بصوت مُجلجِل، يرقص بمنتهى الصخب، يبكي بحرارة، يغضب بهستيريا أحياناً، ويسب ويشتم بلا شعور بالإثم.
إذن، فأقدام نجوم اللعبة لا تتلاعب بقطعة جلد مكورة في الحقيقة، بل بأعصاب ومشاعر بشر حقيقيين أسقطوا عليها رغباتهم ومخاوفهم مثلما يفعلون ذلك في المعابد. إن المريدين، أياً كانت صفتهم، سواء أكانوا في معبد أم ملعب يمكن أن يتحلوا بالغفران والمسامحة، ب"روح رياضية" في عبارة أخرى، مثلما يمكنهم انتاج العنف، ومشاعر العنصرية، والتعصب ضد الآخر. السؤال الجوهري هنا هو عن ظروف حياتهم التي يعيشونها، فهي من تدفع بهم لتبني هذا السلوك أو ذاك. سؤال الحرية أم الاستبداد، الرفاهية أم الفقر، التحضر أم التخلف. هنا تكمن المشكلة.
مارادونا: الإله البشري
إن الحلم الجميل الذي بشَّرت به أغلب الديانات، راحت تُبشِّر به الرياضة "العلمانية" أيضاً. وكثيراً ما يؤكَّد أقطاب كرة القدم أنها نجحت بجعله واقعاً، بتنوع أبطالها وجمهورها فوق المستطيل الأخضر، وعلى مدرجات الملاعب، وخلف شاشات العرض، حيث الشغف بفن الكرة يوحِّد بين الأغنياء والمُشرَّدين، والكبار والصغار، والنساء والرجال، وذوي البشرة البيضاء والملوَّنين. الكل يتلو صلواته بحماس روحي، ويقدم قربانه المُكرَّس للفوز بكأس صعبة المنال، سواء تم الظفر بها بفضل المهارة والتفاني، أم بخطايا الغش والاحتيال. ألم يصفق العالم كله - باستثناء الإنكليز - لخديعة الساحر دييغو أرماندو مارادونا حين سجل هدفاً بيده في مرمى إنكلترا، في الدور قبل النهائي لمونديال العام 1986؟ مونديال أحرزه للأرجنتين دييغو مارادونا بمفرده. كانت تلك أشهر خدعة في تاريخ اللعبة. سيقول عنها مارادونا، حين يُسأل إن كان قد سجل الهدف بيده أم لا: (لم تكن يدي، بل يد الله)! من لا يتذكر هدفه الآخر في المباراة نفسها، والذي أعتبر أجمل هدف في التاريخ؟
كان الفتى الذهبي، قصير القامة، وابن الأحياء الفقيرة شخصية محبوبة، حقق مع الناس صلة لا مثيل لها، وليست عبقرية موهبته الكروية الفذة سوى واحدة من أسباب ذلك التعاطف النادر. كان عفوياً ومتواضعاً، مرحاً بروح طفل، حتى بعد أن أصبح أسطورة، وحاصره صخب الشهرة من كل جانب. يسأله أحد الصحفيين: هل أنت معجزة؟ فيرد مبتسماً: راكيل ولش هي المعجزة. كان مارادونا يسارياً أيضاّ، كارهاً لأميركا، وصديقاً مناصراً للكوبيين والفلسطينيين. يساريته تلك ستقوده إلى انتقاد البابا يوحنا بولس الثاني نفسه، وسيدعو إلى بيع السقوف الذهبية للفاتيكان، من أجل أولئك الذين يتضورون جوعاً. باختصار، أدى الفتى الذهبي الذي لم يتنكر لأصوله المتواضعة دور من لا يملكون أي دور في الحياة، وجسَّد وعداً جميلاً بإمكانية تفوق المُهمَّشين في عالم صار أكثر تعقيداً وظلماً من ذي قبل.
ربما لا يعلم أكثرنا أن ديناً جديداً قد تأسَّس في العام 1998. دين كرة القدم. نعم. صارت اللعبة ديانة لها أتباع يبلغ عددهم ما يقرب من مئتي ألف. وهم قد اختاروا مارادونا ليكون إلهاً لهم، برغم أن له سمعة سيئة أيضاً، لحقت به لأسباب كثيرة: إدمان المخدرات، علاقات نسائية صاخبة، أبناء غير شرعيين، صداقات مع حكام مستبدين، بدانة مفرطة...إلخ. مهما يكن، فذنوب الأبطال مغفورة عند محبيهم. هذا إن تم الاعتراف بأنها أخطاء أصلاً.
إنَّ للكنيسة المارادونية المعروفة باللغة الإسبانية ب(IglesiaMaradoniana) أعيادها، وتقويمها الخاص، ووصاياها العشر أيضاً، وجميعها مستمدة من حياة مارادونا، كالاحتفال مثلاً بيوم الثلاثين من أكتوبر، الموافق ليوم ميلاده، وباليوم الثاني والعشرين من شهر يونيو، ذكرى تسجيله للهدفين في مرمى إنجلترا.
حتى إن كانت هذه الديانة مجرد "باروديا"، ديانة تهكُّميَّة تقلب الوصايا العشر الشهيرة (لا تدنس الكرة. أحبب كرة القدم قبل كل شيء. أعلن عن حب غير مشروط لدييغو. انشر أخبار معجزات دييغو في جميع أنحاء العالم....) فإن الكثيرين من محبي مارادونا في الأرجنتين، كما في مدينة نابولي الإيطالية التي لعب لفريقها المحلي وجدوا في ذلك الفوضوي المشاغب قديساً أنجز شيئاً خارقاً. نحن نعرف أن الدين الشعبي بطبيعته يبحث عن معجزات، عن بطل يشبه عامة الناس، لكن في مقدوره أيضاّ أن يحقق لأتباعه ما هو فوق الممكن (الإعجازي) في الحسابات الواقعية. هذا بالضبط ما منحهم إياه أعظم من داعبت قدماه/ يداه كرة القدم. أمتعهم مارادونا بفنونه، أهدى لهم الفوز بكؤوس أغلى الألقاب الكروية، فقابلوه بتبجيل رفعه لرتبة القديسين. صار مسيحهم المُخلص. وبحسب الكاتب الأورغواياني إدواردو غاليانو – وهو أفضل وأروع من كتب تاريخاُ للمونديال، ولكرة القدم عموماً - فإن مارادونا هو "أكثر الآلهة بشرية". يعود السر في ذلك لما ذكرناه قبل قليل عن طبيعة تَمثًّلات صورة البطل المُعبِّر عن الهوية في المتخيل الشعبي. هكذا. وبرغم الهالة النورانية، وتَجلِّيه مبتسماً بسلام روحاني سماوي، كما تُظهر ذلك بعض اللوحات الشعبية التي تنتج صورة مسيحها وقديسيها بطريقتها الخاصة، يبقى مارادونا مرتدياً تحت عباءة القديس ما يذكر بالهوية، قميص منتخب بلاده.
ما وراء الكؤوس: مونديال قطر
تحلم جميع دول العالم بالترشح لنهائيات المونديال. تريد الظفر بكأسها، أو بشرف تنظيم البطولة على أراضيها، وتفعل في سبيل ذلك كل شيء. حرصها هذا يذكرني بحمى البحث عن الكأس المقدسة (Holy grail)، تلك التي سعت للحصول عليها شخصيات نافذة، وأخويات شهيرة على مدار قرون: فرسان الهيكل، وفرسان الطاولة المستديرة، عدد من بابوات الفاتيكان، وأباطرة أسطوريون مثل الملك آرثر. لقد ألقت بسحرها لا على الملك فرديناند الأول فحسب، بل على آخر من يمكنه الإيمان ب"ملك اليهود"، هاينريش هملر، اليد اليمنى لهتلر، وقائد أجهزته الأمنية المرعبة. كان هملر قد ذهب سراً للبحث عن الكأس المقدسة في أقبية دير مونتسيرات قرب برشلونة. لم لا؟ ما دامت الكأس المقدسة هي "الإكسير"، حجر الفلاسفة الذي يهب الشباب الأبدي، ويمنح من يلمسه قدرات خارقة، لأن المسيح استخدمها في العشاء الأخير، ثم جُمِع بها دمه المقدس من قبل يوسف الرامي. فما أسهل أن تجلب النصر لألمانيا في الحرب العالمية الثانية. بعدها، بالتأكيد، لن يصعب الادعاء بأن المسيح كان نبياً آرياً بشعر أشقر.
لكن ما لا يمكن للدول أن تكسبه بكأس أسطورية لم يعثر عليها أحد منذ ألفي عام يمكن أن تحصل عليه بكأس ذهبية حقيقية ولدت في العام 1930 على يد الفرنسي جول ريميه. كأس لا تتعدى تكلفتها المادية العشرة أو العشرين مليون دولار. مع ذلك، أنفقت دولة قطر من أجل استضافة بطولتها مليارات مهولة من الدولارات. تلك الدولة الثرية، ذات المساحة الصغيرة، وعدد السكان القليل تعرف جيداً – مثل غيرها – القوة الرمزية لكرة قدم. لم يكن يهمها أن يخرج فريقها الوطني من الدور الأول خاسراً مبارياته الثلاث، مع أنه يلعب فوق أرضه، ولا يعنيها نقد يلح على التذكير بالدولارات المتساقطة من جيوب جوزيف بلاتر، (ربما كان مبعث بعض من ذلك النقد هو الحسد، لا غير) يمكنها أن تمتص أيضاً كل ما يثار عن ملف استغلال فقراء العمالة الرخيصة، أولئك الذين مات منهم المئات، وهم يبنون تحت ظروف صعبة ملاعب عملاقة لن يعود لبعض منها وجود بعد انتهاء المونديال الأغلى في التاريخ. في عالم السياسة يتوقف كل شيء على ما تمليه المصلحة، ويتم قياس جميع الأمور بالنتائج لا الوسائل. الأكثر أهمية بالنسبة لقطر هو أن تحافظ على وجودها ضمن محيط جغرافي غير آمن بالمرة، وبين جيران أقوى وأكبر منها بكثير.
كانت قناة الجزيرة بما أثارته من جدل كبير خطوة قطر المبكرة لترسيخ أقدامها في عالم تعيد تشكليه هيمنة الإعلام بتقنياته الجديدة. وها هي اليوم ترسم بالقوة الناعمة، ببركات كأس المونديال وشماً في ذاكرة العالم، تاريخاً سيبقى يُذكِّر بها على الدوام (مونديال قطر)، لأنه سيعني في الوقت نفسه أشياء كثيرة لمئات الملايين من محبي كرة القدم في شتى أرجاء العالم، وسيجعل جيرانها الكبار يراجعون حساباتهم ملياً قبل التفكير بأيِّ تحرك ضدها. خطة قطر خطة قديمة، برغم كونها ناجحة. كل ما في الأمر أن السياسة وظَّفت هذه المرة ديناً جديداً.
**
عباس عبيد
أكاديمي وباحث من العراق