قضايا
التطرف والاعتدال في الخطاب الإسلامي
مدخل:
الفريضة الغائبة، والجهاد إلى يوم الدين:
من يقرأ كتاب "الفريضة الغائبة" لـ (محمد عبد السلام فرج)، يجد فيه الدعوة إلى استخدام العنف المسلح من أجل إقامة دولة الحاكمية ومحاربة الكفار الذين لا يؤمنون بهذه الدولة حتى ولو كانوا من المسلمين الذين يشهدون ان لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. متكئين في دعواهم هذه على أحاديث ضنية لا تتفق في الحقيقة، لا مع النص القرآني في مقاصده الخيرة، ولا مع أخلاق الرسول الكريم ذاته. ومن هذه الأحاديث حديث رواه لبخاري عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله»، والحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري». (1).
وأمام هذا الموقف المتصلب في تطرفه، الذي يبشر به أكثر المسلمين أصوليّة وتشدداً في فهم مسألة الجهاد. نجد الموقف المقابل له من النص القرآني ذاته الذي يفند ما تدعيه هذه القوى الأصولية الجهاديّة المتطرفة. وهو الذي يدعو إلى نشر الدين بالمحبة والإحسان: حيث جاء في نص الآية: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ). النحل. (125).
كما جاء في الحديث أيضا ما يؤكد هذا الموقف العقلاني (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). الراوي: أبو هريرة | المحدث: الألباني. انطلاقا من أن العرب كانتِ تَتخلَّقُ ببعضٍ مِن محاسنِ الأخلاقِ بما بقِيَ عندهم مِن شريعةِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ، ولكنْ كانوا قد ضلُّوا بالكُفرِ عن كثيرٍ منها؛ فبُعِثَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيُتمِّمَ محاسنَ الأخلاقِ، كما يُؤكِّدُ هذا الحديثُ؛ حيث يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "إنَّما بُعِثْتُ"، أي: أُرْسِلْتُ للخلْقِ، "لأُتَمِّمَ"، أي: أُكمِّلَ ما انتقَصَ، "مكارمَ الأخلاقِ"، أي: الأخلاقَ الحَسنةَ والأفعالَ المُستحسَنةَ الَّتي جبَلَ اللهُ عليها عِبادَه؛ مِن الوفاءِ والمُروءةِ، والحياءِ والعِفَّةِ، فيَجعَلُ حَسَنَها أحسَنَ، ويُضيِّقُ على سيِّئِها ويَمنَعُه.
على العموم نقول هنا: إن مسألتي التطرف والاعتدال من المسائل التي أخذت حيزاً كبيراً في النقاش والتداول بين الكتاب والمفكرين الإسلاميين منهم والعلمانيين أيضاً، وخاصة في المجال الدينيّ بعد ظهور تنظيم القاعدة والعديد من فصائلها كداعش والنصرة، والكثير من الفصال الجهاديّة التي راحت تؤول وتفسر النص الدين وفقاً لمصالح وأجندات لا تخدم في حقيقتها جوهر الإسلام ولا المسلمين معاً، ومن هذه الفصائل "حزب التحرير الإسلامي"، والفصيل المسلح لـ "الإخوان المسلمون). وبناءً على ذلك سنحاول في هذه الدراسة أن نشير ولو على عجالة، إلى معطيات هذه المسألة محاولين إظهار الفرق بين التطرف والاعتدال انطلاقا من الخطاب الديني ذاته.
إن المشكلة في فهم الدين برأيي تعود إلى عدم التبصر في آيات القرآن الكريم الذي يعتبر المرجع الرئيس للتفسير والتأويل، ثم للحديث الذي قال به الرسول، وما دخله من وضع وتحريف وتشويه وابتعاد عن النص القرآني ذاته، ويظل القصور في القدرة على التمييز ما بين الآيات المحكمات (البينات)، والآيات المتشابهات من جهة، وهذا ما أشارت إليه الآية السابعة من آل عمران: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾. ومن جهة ثانية، أخذ الكثير ممن فسر النص الدينيّ بعموم اللفظ من القرآن وليس بخصوص السبب، وهذه مسألة إشكاليّة في الفقه، حيث راحت مسألة التفسير والتأويل تخضع لمعطيات شخصيّة وسياسيّة تعمل على ليّ عنق النص كي يخضع لسلطة المفسر والمؤول، وبالتالي فالأحكام الصادرة هنا لا تراعي خصوصيّة السبب ولا المرحلة التاريخيّة وظروفها التي نزلت فيها هذه الآية أو تلك، هذا إضافة إلى تلك الاشكاليات الكبيرة التي وقع فيها الفقهاء في مسألتي "الناسخ والمنسوخ" وما يتعلق في دلالاتهما وأهدافهما، وكيفية التعامل معهما بعيداً عن مقاصد الدين، والمحكم والمتشابه في القرآن، وأسباب النزول، والعام والخاص، والمطلق والمقيد. وكذلك الوقوع في مسألة "القضاء والقدر" التي لا تختلف من حيث إشكالاتها عن مسألتي الناسخ والمنسوخ، والخلافات والصراعات الدائرة حولها من قبل الأشاعرة والكلابيّة والمعتزلة والمتصوفة وغيرهم من الفرق الكلاميّة والمذاهب الفقهيّة. (2). فلو عدنا إلى كل الآيات القرآنيّة لوجدنا أن كل آية لها سبب نزولها وهي مرتبطة في زمانها ومكانها وأحداثها التاريخيّة إن كانت خاصة أو عامة، لذلك علينا أن نتعامل مع هذه الآيات وفقاً لخصوصيّة تنزيلها ولا نقوم كما يقوم بعض الفقهاء في تفسيرها بناءً على عموم اللفظ للنص متكئين على ما تحمله اللغة في دلالاتها ومجازها وبلاغتها. هذا مع تأكيدنا بأن هناك آيات لها طابع خاص بنزولها، يتعلق بشخصيّة الرسول أو بعض الصحابة غيرهم من الذين عاشوا عصر التنزيل، وآيات لها طابعها العام وخاصة ما يتعلق منها في الجانب القيميّ والأخلاقيّ. فما هو خاص لا يمكننا أن نطبقه على العام، وما هو عام لا يمكننا أن نتجاهل أيضاً ظرفه التاريخيّ الذي جاء فيه، ومدى قدرته على التمدد التاريخيّ لمراحل لاحقة. ففي مثل هذه الحالة من التطبيق التعسفيّ سنعمل على ليّ عنق الواقع كي ينسجم مع الخاص أو مع العام، وهنا تأتي خطورة الدخول في غمار ومغامرة التطرف، والتلاعب بالنص الديني تفسيراً وتأويلاً لخدمة مصالح أنانيّة ضيقة. هذا وهناك عوامل كثيرة تؤدي إلى عدم فهم النص وتأويله وفقاً لمصالح خاصة، أو وفقاً لجهل في الكلام والبيان العربي الذي نزل به القرآن وخاصة بعد أن اتسعت مساحة الفتوحات ودخل الكثير من الأعاجم الإسلام، فراح بعضهم يؤول النص القرآنيّ حسب معرفته ومرجعياته الثقافيّة، الأمر الذي أدى إلى تأويل النصوص كما تريد سلطة المؤول، وليس سلطة النص التي لها مرجعيتها اللغويّة العربيّة المشبعة بالتشبيه والاستعارة والكناية وتقديم الكلام في العبارة أو تأخيره، وتعدد المعنى في المفردة الواحدة . وغير ذلك، وبناءً على خضوع النص لسلطة المفسر أو المؤول ظهرت الفرق والطوائف الدينيّة، وما حملته هذه الفرق والطوائف من اختلاف في الرؤى، أدت إلى صراعات دامية بين مكوناتها أو أتباعها تاريخيّاً. (3).
نقول إذا كان الاعتدال واضحاً وبديهياً في النص الإسلاميّ المقدس إذا ما تمسكنا بمقاصد النص أولا، وابتعدنا عن مصالحنا الأنانيّة الضيقة ثانياً، فإن التطرف موقف إشكالي في الحقيقة، لذلك، دعونا نتعرف بداية على موضوعة التطرف لغة ومجازا.
اولاً: التطرف لغة:
التطرف لغةً: هو إتيان منتهى الشيء والوصول إلى طرفه، وهو كذلك بمعنى مجاوزة التوسط والاعتدال في الأمر. (4).
ثانياً: التطرف مجازا:
وموضوعه الدين هنا. ويعني: التطرف أو الغلو في قضايا الشرع، والانحراف المتشدد في فهم قضايا الواقع أو الحياة في مسألة من المسائل الفكريّة أو الاجتماعيّة أو الاقتصاديّة أو السياسيّة.. وهو أمر مذموم في الشرع . (يا أهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق). [سورة النساء آية: 171] وتارة يعبر عنه بلفظ الطغيان كما في قوله تعالى (ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي) [سورة طه آية: 81]
ثالثا: أسباب التطرف الديني:
1- كثرة المرجعيات التقليديّة والمعاصرة في الخطاب الدينيّ. وبالتالي فالاختلاف في الرأيّ هنا يؤدي إلى العداء والتباغض بين المسلمين بدلاً من أن يكون رحمة. على اعتبار أن كل مرجع يعتبر نفسه على حق، او هو من يمثل الفرقة الناجية.
2- افتقاد المجتمع إلى المرجعيات العقلانيّة التنويريّة، وإن وجدت يتم إقصائها من قبل القوى الحاكمة ومشايخ السلطان.
3 - غياب دولة المؤسسات ودولة القانون والمواطنة. وسيادة الدولة الشموليّة التي تتجر بالدين والسياسة معا، وتحارب الرأي الآخر المختلف عن توجهاتها الدينيّة والثقافيّة والاقتصاديّة وغير ذلك.
4- سيادة وانتشار الأيديولوجيات التعصبيّة (الجهادية) التكفيريّة الالغائية، بتوجهات خارجيّة أو سياسيّة داخليّة، بعد قيام ما سمي بالصحوة الإسلامية منذ سبعينيات القرن الماضي. وقد تجلت هذه العقليّة بكل سلبياتها وانحرافاتها الدينيّة فكراً وممارسة، مع داعش ومن التف حولها مثل جماعة حزب التحرير والنصرة والإخوان.
5- انتشار البطالة والفقر والجهل. بسبب الفساد الحاصل في دول العالم العربي والإسلامي، والقائم على سرقة أموال الدولة، وتقسيم المجتمع في هذه الدول إلى طبقتين رئيسيتين بعد إقصاء الطبقة الوسطى، هما: الطبقة الحاكمة ومن يلتقي مع مصالحها من البرجوازية الطفيليّة والبيروقراطية ومشايخ السلطان، وطبقة فقيرة مسحوقة ومغربة يقع عليها الظلم الاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ والثقافيّ، التي وجدت في الدين خلاصها، وفي مضمارها ظهر التطرف الدينيّ الذي يعتبر في جوهره تطرفا مواجهاً لتطرف الدولة الشموليّة.
6- حضور الفكر الغيبيّ الامتثاليّ الجبريّ بشكل واسع في جوامع الدولة الشموليّة في عالمنا العربي والإسلاميّ، وإعلامها الرسمي وغير الرسمي، هذا الفكر الذي يلغي حرية الإنسان ويوقف عمل ونشاط العقل المنفتح على الواقع المعيوش وقضاياه على حساب النقل، واحياناً كثيرة على التواكل.
7- استغلال القوى الجهاديّة التكفيريّة من قبل قوى داخليّة أو خارجيّة كما بينا أعلاه، لتنفيذ أجندات عدائيّة بحق دول لا ترض عن سياساتها هذه القوى الداخليّة أو الخارجيّة، كما جرى مع تحريض القاعدة وداعش في بعض الأنظمة العربيّة من قبل أمريكا بشكل خاص وبعض الأنظمة العربيّة والإقليمية بشكل عام.
رابعاً: ما تمتاز به السمات والخصائص النفسيّة للمتطرف مثل:
1- فقدان التوازن الفكريّ في اتخاذ القرار. بسبب غياب العقل وسيادة النقل المشبع غالباً بالمثاليّة والخرافة والأساطير، وهذا ما يبعد المتطرف في تفكيره وسلوكياته عن قيم الدين الأساسيّة التي جاء من أجلها، إن كان لجهة مجادلة المختلف (وجادلهم بالتي هي أحسن). (سورة النحل - الآية)125. أو لجهة التعامل معه من حيث رفض السيطرة عليه وإجباره على اتخاذ سلوكيات هم يريدونها من باب هدايته بالقوة والتعزير. ﴿إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين ﴾ [ القصص: 56].
2- كثرة اللجاج، والمخاصمة مع الآخر المختلف في الرأي أو العقيدة أو المذهب. لاعتقاد أصحاب كل طريقة ومذهب وطائفة بأنها هي وحدها على حق، وهي وحدها الفرقة الناجية والبقيّة في ضلال. وهذا ما يجعلهم يقومون بتصرفات تجاه المختلف مشبعة بالنزعة الفوقيّة والتعالي، إضافة لخروجها عن قيم الدين نفسه الذي يدعون انهم حملة رسالته.
3- التضييق والتشديد على النفس، وعدم قبول الانفتاح على الواقع ومتغيراته، من باب أن كل جديد بدعة، وكل مخالف لقناعاتهم يعتبر كافراً وملحداً وزنديقاً ومبتدعاً. وبالتالي هذا يعبر عن الحماقة والنزق واتباع الهوى والعجلة من أمر المتطرف، بسبب غياب المحاكمة العقليّة، وبسبب رفض الأخذ بالرأي وتكفير من يقول به كما أشرنا أعلاه.
وبناء على كل ما جئنا إليه هنا، تأتي الآيات الواردة في السور المدنيّة الداعية إلى قتال الكفار وغير المسلمين من أهل الكتاب الذين لم يدفعوا الجزّية مثلاً، من الآيات التي لم ينظر إليها تفسيراً وتأويلاً من قبل القوى المتشددة الأصولّية الجهاديّة وفقاً لأسباب نزولها، وإنما نظروا إليها وطبقوها بناءً على عموم اللفظ من جهة، أو بسبب القصور المعرفي في تفسير وتأويل النص من جهة ثانية، أو بسبب مصالح انانيّة ضيقة تقف وراء حصولها توجهات خارجية تحول هذه القوى الأصولية المتطرفة إلى أدوات لتحقيق مصالحها من جهة ثالثة. وبالتالي فإن استمراريّة العمل بها دون النظر إلى خصوصيات العصر وظروفه الذي نزلت فيه، ساهم في زيادة حدّة التطرف وظهور التنظيمات التي أساءت للإسلام والمسلمين معاً. مع تأكيدنا أن معظم هذه الآيات تدخل في نطاق الآيات المتشابهات التي حذرنا الله في القرآن أن نبتعد عن الآخذ بها. حتى لا تكون الفتنة وسفك دماء الناس دون حق. على اعتبار أن للقتال شروطه الأخلاقيّة، فمن لا يعتدي عليك لا تعتدي عليه، ويأتي العفو في الإسلام سيد الأحكام. (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ .) (سورة الممتحنة الآية. (8).
نعم...إن الآيات المتشددة التي تأمر بقتال من يسمى بالكفار وأهل الكتاب، قد جاءت موافقة لعصر نزولها، حيث أن لكل آية سبب نزول، ففي الوقت الذي نجد فيه آيات تحض المسلمين أو تدعوهم إلى القتال لها خصوصيتها، نجد أيضاً آيات أخرى اتخذت طابعاً عاماً دون تحديد السبب المباشر لها كالآية التي تقول على سبيل المثال لا الحصر: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ). (البقرة 244). فالقتال في سبيل الله مفتوح هنا على دلالات كثيرة لم يحددها النص المقدس، ولكن يظل لكل مرحلة تاريخيّة خصوصياتها التي تحدد دواعي الجهاد وأشكاله، وتحديد هذه الدواعي مرتبط بالجهات الرسميّة وليس بأشخاص أو تنظيمات محددة. فالقتال زمن الرسول كان يأتي بأمر من الله ومن الرسول ذاته، وبعد وفاة الرسول جاء بأمر من خليفة الرسول كما هو الحال في حروب الردة. (5). (نحيل القارئ إلى هوامش الدراسة لمعرفة بعض الآيات التي تدعوا إلى القتال كي يتعرف على دلالاتها ومقاصدها معاً.).
إن ما يطلبه العقل والمنطق والموقف الفقهي من هذه الآيات، هو العودة إلى تحديد مسالتين أساسيتين في هذه النصوص هما: الأولى: معرفة الظروف التاريخيّة التي نزلت فيها هذه الآيات، وهل الظروف التاريخيّة التي نعيشها اليوم، تتطابق تماماً مع الظروف التاريخيّة التي نزلت فيها هذه الآيات من حيث طبيعة الكفر وموقف الكفار من الدعوة.؟. وثانيا: النظر في آيات القتال التي تقبل التجاوز الزمني أو التاريخيّ لأسباب نزولها من حيث اتخاذها دليلاً شرعيّاً على قتال المخالف لمقاصد الدين الأساسيّة، وشكل هذا القتال ودرجة عنفه. بيد أن الاقرار في اعتماد هذه الآيات لا يعني من حيث المبدأ أن يقوم أي إنسان أو حزب أو تنظيم بممارسة القتل باسمها، فقضية تطبيق الجزاءات أو العقوبات وشكلها ودرجاتها هو أمر من اختصاص مؤسسات الدولة المعنيّة فقط كما أشرنا في موقع سابق. أما اتخاذ بعض الأحاديث الظنيّة ذريعة أو دليلاً على مشروعيّة منح القتال لمن يدعي بأنه حامي الدين من مبدأ (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)، كالحديث الذي يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، وإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وهو أضعف الإيمان.). فهذا أمر أو تصرف لم يعد يتفق مع وجود الدولة ومؤسساتها المعنية، وإلا ستتحول طبيعة علاقات المجتمع إلى شريعة غاب.
دعونا أخيراً في هذا الاتجاه أن ننظر في دلالات هذه الآية المتعلقة بأهل الكتاب، فلها شأن آخر يتطلب منا الوقوف عندها كثيراً.
تقول الآية: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة 29).
ما يلفت الانتباه في هذه الآية، هو أن (دفع الجزية) من أهل الكتاب تجب أو تعفوا عن أسباب قتالهم، وأن أساب قتالهم تتعلق بما ذكرته الآية وهو: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ). فالجزية إذن هي البديل عن قتال الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ. والسؤال المشروع هنا هو: كيف يكون التفريق في التعامل بين الكفار وفقاً لدينهم، إذا كان الدين عند الله هو الإسلام، والإسلام هنا ليس الدين الذي بشر به محمد (ص) فحسب، بل هو كل الديانات التي نزلت من السماء كما تذكر بعض آيات القرآن.؟.
بعد هذا العرض الذي يشير إلى أسباب التطرف الفكريّة والماديّة، وإلى مظاهره وكيفية توظيف دعاته للنص الدينيّ، نأتي الآن لنبين كيف أن الدين وعبر نصه المقدس ذاته يبين لنا بأنه دين تسامح ومحبة، وأن دعوته قائمة على اللين والحسنى والمجادلة بالتي هي أحسن.
الإسلام دين المحبة والتسامح:
إن مشكلتنا ليست مع الدين كعقيدة وشريعة... أي ليست مع الكتاب المقدس (القرآن) في آياته البينات الواضحات في دلالاتها، والقائمة على المقاصد الخيرة للناس، أي على قيمه النبيلة. ولا مع (الحديث) الذي يتفق في نصه أو متنه مع مقاصد النص القرآني الأساسيّة الداعية إلى المحبة والتسامح كما ورد معنا في النصوص التي جئنا عليها في موقع سابق من هذه الدراسة، وإنما مشكلتنا مع المتنطعين ذوي العقول المغلقة والمتعالية على الواقع ومصالح الناس من الذين اعتبروا أنفسهم حماة الدين وحصنه المنيع، وفقاً لما فهموه هم من هذا الدين، وكذلك مشكلتنا مع من راح يوظف النص المقدس ممن في قلوبهم زيغ لإصدار أحكام لمصالحه أو مصالح أسياده في السلطة ممن يبحثون عن شرعنة ما يمارسونه من فساد في الأرض، وكذلك مع الذين فقدوا بصيرتهم في القراءة العقلانيّة التنويريّة للنص الديني، وأخذوا يفسرونه ويؤولونه خارج الواقع التاريخيّ الذي يعشون فيه، أي ممن تمسك بما فسره وأوله السلف في القرون الهجرية الثلاثة الأولى، دون مراعاة لاختلاف الزمان والمكان، الأمر الذي جعلهم يعملون على ليّ عنق الواقع كي ينسجم مع النص وليس العكس، وهم بذلك أساؤوا ويسيؤون للنص الديني المقدس والواقع مع.
إن من يتابع النص الديني الإسلاميّ في مقاصده الإنسانيّة يراه دينا يدعو إلى اليسر وليس إلى اليسر كما تريده القوى الأصوليّة التكفيريّة وخاصة الجهاديّة منهم. حيث جاء في نص الآيات التالية وغيرها الكثير مما يشير إلى بساطة الدين وانفتاحه على المحبة والخير الإنسانيّ، وتذكير الرسول أن يدعو الناس للدين بالحسنى كما هو وارد في الآيات التالية:
(فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر) الغاشية 22.
و(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ.). (125) النحل. و﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159]. و﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]. و﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]. و(فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ). ﴿١٤٧ الأنعام﴾
وهناك الكثير من الأحاديث التي تدل أيضاً على التسامح نشير إلى بعضها هنا مثل:
1- (الدين يسر). الإمام أحمد في مسند المكيين، حديث رقم 15593.
2- (يسّروا ولا تعسّروا) . صحيح البخاري، كتاب الإيمان، باب الدين يسر، ج1، ص17.
هذا وهناك الكثير من الآيات البينات والأحاديث التي تبين أن هذا الدين ليس دين قتل وتدمير وتكفير للمختلف في الدين أو الرؤية في العقيدة والشريعة.. وهو ليس الدين الذين يقوم بعض دعاته بنسخ الآيات من عندهم كالتي تختلف مع فهمهم للدين أو لا تلتقي مع مصالهم، كما قال بعضهم بأن الآية الخامسة من صورة التوبة الدالة على مقاتلة الكفار في كل زمان ومكان – أي آية السيف - قد نسخت (500) آية من السور المكيّة الداعية إلى التعامل بالحسنى مع الناس، وهي الآية التي جئنا إليها في موقع سابق: (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (التوبة ٥﴾.
هذه الآية التي أسيئ فهمها، قد ساهم من نسخها وسلخها عن خصوصية تنزيلها، بغية تحويل الدين الإسلامي على يد القوى السياسية السلفية الجهادية منذ الخوارج حتى اليوم، إلى دين قتل وإرهاب، أو حولوه إلى سرير بروكست، فكل من لا يتفق مع فهمهم للدين هو كافر وزنديق وملحد ويجب أن يقتل.
***
د. عدنان عويّد
كاتب وباحث من ديرالزور - سورية
...................
الهوامش:
1- راجع حول مسألة التطرف والجهاد في الإسلام كتاب (الجهاد -الفريضة الغائبة – محمد عبد السلام فرج) مكتب فلسطين للكتب المصورة. دون تاريخ نشر.
2- راجع كتاب حديث مسقط – رسالة في مفهوم الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم – رسالة في مفهوم القضاء والقدر – منذر محمد سعيد أبو شعر – دار ابن الكثير – دمشق –بيروت.
3- (تأويل القرآن سلطة القارئ أم سلطة النص - أ.م.د. حمزة فاضل يوسف - جامعة القادسية / كلية التربية).
4- (أحمد مختار عمر، معجم اللغة العربيّة المعاصرة، صفحة 1396.).
5- بعض آيات القتال التي وردت في النص القرآني مثل:
(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ). (البقرة 191).
(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ). (البقرة 193).
(الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا). (النساء 76).
(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ). (المائدة 33).
(قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ). (التوبة 14).
(فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ). (محمد 14).
(فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ). (محمد 35).