آراء
عصمت نصار: دروب الكذب وأشكاله وغرابيل الفلاسفة الناقدة (5)

لا ريب في أن شروعنا في الحديث عن فن صناعة غرابيل الفكر سوف يثير العديد من التساؤلات، سواء كنا من دعاة النسقيّة في تحليلنا للأفكار - حيث تقديم النهج والمعيار- على البحث عما ينبغي على تلك الغرابيل القيام به حيال التصورات الوافدة على الذهن مدفوعة بحرافية الوعي التربوي أو الشعور الحدثي تجاه الفصل في قضية الحكم على قيمتي الصدق والكذب.
أو كنّا من المتحمسين للنزعة الوجوديّة المتمردة دومًا على قيود الموروث بكل دروبه، تلك النزعة التي تؤمن بأن الذهن هو الذي يضع الأفكار ثم تأتي بالغرابيل لتهذيبها وفق قناعاتها الشخصية وأمزجتها ومشاعرها الفرديّة ورؤيتها العمليّة التي تلبي حاجياتها التي لا سلطان عليها سوى رغبات الأنا القلقة دومًا والمرتابة في معظم الأحايين كذبًا كانت أو صدقًا.
أو كنا من المحافظين الذين يسلمون بأن كل ما يتلقاه الذهن من أفكار هو مخاض قوة أكبر من الاجتهاد الفردي أو الطموح المتطلع لواقع يحلم به ويسعى لتحقيقه عن طريق غرابيل تنقذه من ما يشعر به من اغتراب، وذلك بعد تيقنه بأن السير وفق العقل الجمعي والنظام السائد أيسر بكثير من الاجتراء أو الجنوح عن تلك القوة التي تبدوا أحيانًا : في صورة العرف أو التقاليد أو العادات التي يتوارثها الجمهور وصنع من أجلها الغرابيل الصلبة التي لا تسمح بأي دخيل يفسد ما ألفوه وتغذوا عليه أو تبدوا في صورة المقدس الغيبي الذي يصور نفسه على أنه القدر الذي لا فكاك من وجوده في الحياة أو الموت، وعليه ينبغي على من يطلب السلامة أن يقوم بصناعة غرابيل توافق معايير سلامة الأفكار وصحتها وهي دون غيرها تتحلى بالصدق الذي لا يهدد وجوده سوى الشرور التي يحملها الكذب في دمائه الكارهة والحاقدة على إنسانيّة الإنسان وسعادته.
وإذا كان حكماء الشرق وفلاسفة الغرب الكلاسكين قد نجحوا في صنع غرابيل توافق اعتقاداتهم بأن أنفسهم كانت تعيش في جنة الكمالات والجمالات أو في عالم المُثل وسقطت منه تلك الأنفس على أثر انحرافها عن دستور الإقامة فيه، أو أن عقولهم الساعية دومًا للوصول إلى الاعتدال والكمال ومن ثم صنعت غرابيلها لتوافق طبيعتها أو أن الموروث الأسطوري هو الذي ألقى بذوره الخيرة التي دفعت الأذهان إلى صناعة غرابيل توافق ذلك العالم الأسطوري السعيد.
وعلى الرغم من إخلاص أرباب الغرابيل في إصلاح مجتمعاتهم بوصفهم قادة الرأي وحملة مصابيح القيم والمعرفة فإنّ ثقافة العصر الوسيط الذي سوف نتحدث عنها بعد قليل قد جحدت تلك الغرابيل.
وعلة ذلك؛ ترجع إلى أن الأخلاق السائدة في المجتمعات المنحطة التي عاشتها الإنسانية في تلك الحقبة المظلمة حيث اجتهاد شياطين الإنس في إفساد كل الثوابت التي اجتهد الحكماء والفلاسفة في غرسها لتهذيب الأنفس الضالة الشاردة، وترقية المشاعر وتوعية الأذهان لم تعد غرابيلهم صالحة لأداء وظيفتها.
ومن ثم راح الجاحدون للمُثل العليا يشككون في خطاب الصدق الذي يقود الناس للمحبّة والتعاون والخير والسلام ويشيعون ويروّجون بين المتمردين (لشعار الهمجيّة) ومفاده بأن غرابيل الحكماء ما هي إلا قيود حديدية تقمع رغبات الذات واحتياجاتها ودللوا على واقعية ما يدعون بحال أصحاب السلطان من الحكام والكهنة الذين حطموا كل الغرابيل؛ بل وعاقبوا كل من يحاول إصلاحها أو تجديدها مفضلين الهمجية على الخضوع والانصياع لبائعي الأوهام المخدرة للعوام أصحاب البطون الجائعة والكرامة المنتهكة تحت وطئة قمع الأثرياء وأضاليل الكهنة المتعاليين وعنف الساسة المتجبرين.
ومن مظاهر هذا العصر احتقار العلماء والسخرية من النَّساك واتهام الفضلاء والأتقياء بالجمود والتخلف وأضحى المرّوجون للإباحيّة يرددون أن الحق في اللذة، والحق في المنفعة، والشرف في العهر. ولعل أصدق المرايا لهذا العصر نجدها في حكاية ديوجين الكلبي (324:413 ق.م) صاحب المصباح (ذلك الفيلسوف اليوناني والحكيم الأخلاقي الذي راح يجوب الطرقات في وضح النهار ممسكاً بفانوسه فسخر منه المارة وسألوه يا أبله عن أي شيء تبحث بفانوس معتم تحت لهيب الشمس ونورها فأجابهم إنني أبحث عن إنسان فما أكثر البشر وما أندر ذلك المفقود الخلوق الذي أبحث عنه. أجل! إني أسأل عن العفة والحياء والقلوب المشتاقة للعلم والصدق والضياء. نعم! أبحث عن عباءة الحق التي سرقها الكذابون والفجرة والمحتالون وارتدوها لخداع السذج الغارقين في الشهوات، والراغبين في الهمجية، ودستور النزوات وقانون الغابة وحكمة الداعرات).
وها هو أبيقور(270:340 ق.م) ينعي الواقع المرير ويجابه المحتالين (فبينٌّ أنه لا ينفي أن اللذة هي الخير الأسمى والألم هو الشر الأعلى، غير أن اللذة التي يجب علينا اكتنازها ليست في أحضان الغواني ولا صحبة المخمورين المغيبة عقولهم، بل هي اللذة العقلية والروحيّة التي تليق بالإنسان وليست شهوة البهائم؛ فاللذة التي أقصدها هي التي تعمل على تحرر الأسوياء من دنس الغرائز المادية، وتخلصهم من أوحال الفتن الكاذبة التي سرعان ما تترك ندمائها يتجرّعون كؤوس الندم والحزن والأسى بعد فقدانهم القدرة على مواصلة طريق الانحدار والتردي الأخلاقي المهلك للعقول والأبدان، وليعلم المتشككون والكذابون أن الرذائل لن تصبح يومًا فضائل تسوس الناس، وإن علت أصواتها واخترقت الآفاق، فلن تصمد طويلًا وإن كان حديث المعلمين همسًا).
وقد بينا أثناء حديثنا عن حكمة القدماء أن كل هذه الغرابيل رغم تباين أشكالها واختلاف طبائعها إلى أن جميعها قد فضل الصدق وجعله تاج الفضائل ونظر إلى الكذب بعين الازدراء لكونه منبع الشر وأصل كل الرذائل غير أن تعاليم الرواقيين والفيثاغورين المتأخرين وفلاسفة الأفلوطونية التي سعت جميعها إلى إصلاح ما فسد من أخلاق وتثقيف ما جنح من عقول؛ فإن جميع غرابيلها لم تقوْ على مجابهة ظلمة وسفالة المناخ السائد في هذه الحقبة.
ولما كان التطور أو التدهور هو قانون النشوء والارتقاء أو الانحطاط؛ فإنّ غرابيل الفلاسفة والحكماء قد خضعت بدورها لهذا القانون فتبدلت معاييرها في صناعة الغرابيل فأضحى الفكر الغنوصي -الذي تحدثنا عنه- وكذا التصورات الأسطورية بل والعقل الراجح أيضًا ما هو إلا صورة الأنفس الحقيقية الخيرة التي فطرها الإله في الإنسان، وقد أصيبت ببعض العطب والفساد والضعف الذي جعل العقول الإنسانية تخلط بين الصدق الذي فطرت عليه والكذب الذي دسه الشيطان في الأحاسيس والمشاعر والمدركات؛ فرفق الإله بحال عباده وأرسل لهم الرسل لتنبههم وتذكيرهم بالتعاليم الربانيّة التي تقيهم من ذلك التخبط والانحراف عن ما كانوا عليه عند نشأتهم الأولى وهذا هو حال الفكر الفلسفي في العصر الوسيط الممتد الذي ترجع منابت أفكاره من القرن الثالث قبل الميلاد إلى نهاية القرن الرابع عشر الميلادي، وأعني تلك الفترة التي ساد فيها الفكر الغيبي والنصوص المقدسة على دونها؛ الأمر الذي انعكس بدوره على صناع الغرابيل فجعلوا من الأوامر الإلهية معيارًا للصدق، والخارج عنها يعبر عن وسوسة الشيطان وأكاذيبه التي ترمي إلى خداع البشر وإضلالهم وجنوحهم عن الحقيقة والصدق والخير الذي يحمله الأنبياء والرسل سواء في التوراة وأسفار العهد القديم أو في الأناجيل وما يحويه العهد الجديد من تعاليم مقدّسة.
لذا سوف نكتفي بإيراد النصوص ذات الصلة بقضية الحكم على الصدق والكذب التي اتخذ منها الحكماء والفلاسفة معاييرهم في صناعة غرابيلهم لوقاية الأذهان وحمايته من شرور الكذب وإعادتها ثانيةً إلى عالم المصارحة والصدق في التواصل بين بعضهم البعض (في الحديث، وفي العهود والضمائر والمشاعر)، بل وفي إخلاصهم في العبادة أيضًا.
فقد جاء في الكتاب المقدّس أوامر صريحة بالتزام الصدق في الحديث والوعود والعهود واجتناب الكذب باعتباره من الآثام المولدة لعشرات الشرور؛ فممّا جاء في سفر يشوع (لا تفتر الكذب على أخيك، ولا تختلقه على صديقك) وفي سفر الأمثال (الشاهد الأمين لن يكذب، والشاهد الزور يتفوه بالأكاذيب). وفي سفر المزامير (صن لسانك عن الشر، وشفتيك عن التكلم بالغش) وممّا جاء في العهد الجديد؛ في سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي: (طوبى للذين يصنعون وصاياه لكي يكون سلطانهم على شجرة الحياة، ويدخلوا من الأبواب إلى المدينة، لأن خارجًا الكلاب والسحرة والزناة والقتلة وعبدة الأوثان، وكل من يحب ويصنع كذبًا).
وعلى الرغم من وضوح تلك التعاليم وتأكيدها على وجوب السير وفق ما تحمله من فضائل وربطها بجوهر العقيدة والإيمان بها قولًا وعملًا وحث الراغبين في السعادة الدنيوية والأخروية على اتباعها حتى يتم خلاصهم وتطهرهم من دنس الخطايا أضف إلى ذلك اجتهاد فلاسفة المسيحية في شرح فوائد الصدق والفضائل المولدة عنه -وعلى رأسها فضيلتي الحب والعفة، وتبيان رذائل الكذب والشرور التي يحملها في كل أشكاله بداية من إفساد الضمائر وإلحاق الدنس بالروح والمشاعر ودفع الأجساد لإرتكاب الفحش والسرقة والقتل وانتهاك المقدسات والتجديف على الرب وكلماته، ناهيك عن إخلاص الكنيسة في صناعة الغرابيل المناسبة لإصلاح ما فسد من قيم وعوائد وسلوكيات في طباع الفرد والمجتمع وذلك كله على يد المعلمين والحكماء الأوائل الذين عمدوا إلى التوفيق بين النصوص المقدّسة والفضائل النافعة التي تدركها الحواس والعقول من خلال رسائلهم وخطبهم ودروسهم وتعاليمهم ومواعظهم ونصائحهم – من أمثال بولس السميساطي (277:230م) وأبوليناريوس الأبن (390:310م) أكليمدوس السكندرى (215:150م) أوريجانوس ومدرسته (254:185م) الذين عرفوا بالمدرسيين الأوائل ثم على يد القديس أوغسطين (430:354 م) والقديس أنسلم الكانتربرى (1033:1109م) والمعلم توماس الإكويني (1274:1225 م) والواعظ بونافنتورا (1274:1221م) وجميعهم قد اتخذ من غرابيل فلاسفة اليونان منهاجًا لتطهير السرائر وتوجيه العقول وجهة إيمانية تجعل من تعاليم الرب مقدسة على دونها من فلسفات ونزاعات وأعراف وتقاليد موروثة.
وللحديث بقيّة عن تلك الغرابيل الفلسفيّة، وما آلت إليه في هذا العصر الشاغل بالفتن والأكاذيب والخيانات والحروب والزيف والتجديف التي تبرأ منها الكنيسة والتعاليم المقدّسة.
***
بقلم: د. عصمت نصار