آراء
"جيل دولوز" والقضية الفلسطينية
بقلم: جيل دولـوز
ترجمة: عبد الوهاب البراهمي
***
1- عظمة ياسر عرفات
" ليست الفاشية القديمة ذات الراهنية والقوّة في كثير من البلدان، المشكل الجديد الحالي. إنّهم يعدّون لنا فاشيات أخرى. لقد حلّت فاشية جديدة بكليّتها، تبدو الفاشية القديمة بالنسبة إليها ضربا من الفولكلور(...) فبدل أن تكون الفاشية الجديدة سياسةً واقتصاد حرب، صارت وفاقا عالميا من أجل الأمن، ومن أجل تدبير " سلام" ما هو بأقلّ فظاعة، مع تنظيم منسّق لكلّ ضروب الخوف و القلق الصغيرين، والتي تجعل منا كثيرا من الميكروفاشيين، مكلّفين بخنق كلّ شيء، كلّ وجه وكلّ كلام مرتفع قليلا، في شارعه، وفي حيّه، و في قاعة السينما". (دولوز -نصوص ومحادثات 1953-1974).
إنّ القضية الفلسطينية هي أولا مجموع المظالم التي تعرّض لها الشعب الفلسطينيّ ولا يزال. هذه المظالم هي أعمال عنف، ولكنّها أيضا التناقضات المنطقية والتفكير الخاطئ، والضمانات الزائفة التي تزعم التعويض عن هذه المظالم أو تبريرها. ليس لعرفات سوى كلمة واحدة للحديث عن الوعود الكاذبة، ونقض العهود، لحظة جرائم صبرا وشاتيلا: عَار، عار . نقول بأنها ليست إبادة جماعية. ومع ذلك فهي حكاية تتضمن كثيرا من مجزرة الأورادور Oradour منذ البداية . لا يُمارس الإرهاب الصهيوني فحسب ضد الإنجليز، بل أيضا على قرى عربيّة يجب أن تزول؛ كانت منظمة الإريجون نشطة جدّا في هذا الباب ( دير ياسين) . يتعلّق الأمر،من طرف إلى آخر، بالتصرّف كما لو كان الشعب الفلسطينيّ، لا يجب فقط أن يزول، بل إنه لم يوجد قطّ. لقد كان المحتلّون من أولئك الذين تعرّضوا هم أيضا لأعظم إبادة في التاريخ. لقد عرف الصهيونيون كيف يجعلوا من هذه الإبادة شرّا مطلقا. غير أن تحويل أكبر إبادة في التاريخ إلى شرّ مطلق، هي رؤية دينيّة وروحية، وليست رؤية تاريخيّة.
إنها لا توقف الشرّ، بل على العكس تنشره، إنها تسلّطه على أبرياء آخرين، وهي تطالب بتعويض يعرّض هؤلاء الآخرين إلى جزء مما تعرّض له اليهود.( النفي، وضعهم في جيتووات، إزالتهم كشعب). نريد أن نصل إلى نفس النتيجة بواسطة وسائل أكثر "برودة" من الإبادة . إنّ الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا مدينة لليهود بتعويض عن الضرر الذي لحقهم. وقد جعلت من يدفع ثمن هذا التعويض،شعبا أقلّ ما يمكن أن نقول عنه أنه لم يكن أي مسؤولية، وبريئا بشكل خاص عن كلّ هولوكست ولم يسمع به حتّى. هنا تبدأ البشاعة، كما العنف . سوف تطالب الصهيونية ثم دولة إسرائيل الفلسطينيّين بأن يقرّوا لهما بالحقّ. في حين لا تكفّ دولة إسرائيل ذاتها عن إنكار حتّى واقع وجود شعب فلسطينيّ. لا نتحدّث مطلقا عن الفلسطينيين، بل عن عرب فلسطين، كما لو كانوا هناك بالصدفة أو على وجه الخطأ. وسنتصرّف فيما بعد كما لو أنّ الفلسطينيين المهجّرين قد أتوا من خارج، وسوف لن نتحدّث عن حرب المقاومة الأولى التي خاضوها لوحدهم. سنجعلهم أحفاد هتلر بما أنهم لم يعترفوا بحقّ إسرائيل. لكن إسرائيل تحتفظ بحقّ إنكار وجودهم الفعلي. هنا يولد توهّم لابدّ أن يتوسّع أكثر فأكثر، ويرمي بثقله على كل أولئك الذين يدافعون عن القضية الفلسطينيّة. يتمثّل هذا التوهّم وهذا الرهان لإسرائيل، في اعتبار أنّ كل من يعترض على الظروف الواقعية وأفعال الدولة الصهيونيّة، هو معاد للسامية . تجد هذه العملية منبعها في السياسة اللامبالية لإسرائيل تجاه الفلسطينيين.
لم تخف إسرائيل مطلقا هدفها منذ البداية: إخلاء الأرض الفلسطينيّة. بل أكثر من ذلك، التصرّف كما لو كانت الأرض الفلسطينية خالية، وكونها موعودة دوما للصهيونيين. يتعلّق الأمر طبعا بالاستعمار، لكن لا بالمعنى الأوروبي للقرن 19م: لا نستغلّ سكان البلد، بل نهجّرهم. ومن يتبقّى منهم، فلن نجعل منه يدا عاملة مرتبطة بالمنطقة، بل بالأحرى يد ا عاملة متنقّلة ومنفصلة، كما لو كانوا مهاجرين وضعوا في غيتو.
يتعلّق الأمر منذ البداية بشراء الأراضي وفق شرط وهو خلوّها من السكان أو قابلية إخلاءها منهم. إنها إبادة جماعية، لكن تظلّ التصفية الجسدية فيها لاحقة للإخلاء الجغرافي: يجب على الفلسطينيين باعتبارهم عربا على وجه العموم، أن ينصهروا مع العرب الآخرين. إنّ التصفية الجسدية، سواء أوكلت للمرتزقة أو لا، هي حاضرة. لكنها ليست إبادة جماعية في زعمهم، بما أنّها ليست " الهدف النهائيّ": وبالفعل فهي وسيلة من بين وسائل أخرى.
إنّ تواطؤ الولايات المتّحدة مع إسرائيل لا يعود فحسب إلى هيمنة اللوبي الصهيونيّ. فقد بيّن إلياس سانبار بوضوح كيف أن الولايات المتّحدة تجد في إسرائيل مظهرا من مظاهر تاريخها: القضاء على الهنود الحمر، الذي ليس، هنا أيضا، سوى جزء فيزيائيّ مباشر. يتعلّق الأمر بالإخلاء، وبما أنّه لم يحدث أن وجد هنود حمر في أرض فلسطين، اللهمّ في الجيتوات، حيث كثيرا من المهاجرين من الداخل. إنّ الفلسطينيين ومن نواحي كثيرة هم الهنود الحمر الجدد، الهنود الحمر لإسرائيل. يشير التحليل الماركسي إلى حركتين متكاملتين للرأسمالية: فرض حدود باستمرار، داخلها تنظّم الرأسمالية وتستغل نسقه الذاتي؛ والدفع باستمرار إلى أبعد ما يكون حدودها، وتجاوزها لإعادة بناءها الخاص على نحو أكبر أو أكثر كثافة. إنّ دفع حدودها، هو حركة الرأسمالية الأمريكية، للحلم الأمريكي، الذي استعادته إسرائيل وحلم إسرائيل الكبرى على الأرض العربيّة، وعلى كاهل العرب.
كيف أمكن للشعب الفلسطينيّ معرفة كيف يصمد ويقاوم. كيف انتقل من شعب ذا نسب إلى امّة مسلّحة. كيف آمكن له أن يكوّن منظّمة لا تمثله فحسب بل، تجسّد هويته، خارج المنطقة ودون دولة: كان لابد من شخصيّة عظيمة تاريخّية نقول عنها، من منظور غربيّ، أنها نبعت تقريبا من شكسبير، فكان عرفات. لم تكن المرّة الأولى في التاريخ ( يمكن للفرنسيين أن يفكّروا في فرنسا الحرّة، مع اختلاف طفيف أنّ لها قاعدة شعبية أقلّ).وليس للمرّة الأولى أيضا في التاريخ، بل في كل الفرص حيث يكون ممكنا الحلّ، وعنصرا للحلّ، كان الإسرائيليون قصدا وعمدا يفرّطون في هذه الفرص. ويتمسكّون بموقفهم الديني بنفي لا فقط الحقّ بل الواقع الفلسطينيّ. ويتطهّرون من إرهابهم الخاص بالتعامل مع الفلسطينيين كإرهابيين قادمين من خارج. ولأنّ الفلسطينيين بالتحديد لم يكونوا كذلك، بل كانوا شعبا مسالما جدّ مختلف عن العرب الآخرين بقدر ما يختلف الأوروبيون فيما بينهم، فهم لا يستطيعون الانتظار من الدول العربيّة ذاتها سوى مساعدة ملتبسة، تتحوّل أحيانا إلى عداوة وإبادة، حينما يصبح النموذج الفلسطينيّ خطرا عليهم. لقد قطع الفلسطينيون كلّ هذه الدورات الرّهيبة: فشل حلول كلما كانت ممكنة، نقض المعاهدات التي دفعوا ثمنها، والوعود التي لم يقع الوفاء بها. لقد تغذّت مقاومتهم من هذا كله. وقد يكون أحد أهداف مجزرة صبرا وشاتيلا هو تشويه ياسر عرفات . فهو لم يوافق على رحيل المحاربين، الذين ظلت قوتهم سليمة، إلاّ بشرط بأن تؤمن سلامة عائلاتهم من الولايات المتحدة وحتى من إسرائيل. وبعد المجازر، لم يكن هناك من كلمة سوى كلمة " العار". shame". وإذا ما كان لأزمة منظمة التحرير، التي انجرت عن المجازر من نتيجة، تقريبا طويلة المدى، وهي إمّا الاندماج في دولة عربية، أو الانحلال في أصولية إسلامية، أمكن لنا حينئذ أن نقول بأنّ الشعب الفلسطينيّ قد زال فعلا. لكن في مثل هذه الظروف، سيستمرّ العالم والولايات المتحدة الأمريكية وحتى إسرائيل عن التحسّر على الفرص الضائعة، بما فيها تلك التي تظلّ قائمة إلى اليوم. وفي مقابل صيغة صلف إسرائيل:" لسنا شعبا كسائر الشعوب"، لم يكفّ صدى صراخ الفلسطينيين، الذي تصدح به العدد الأول من مجلة دراسات فلسطينية: لسنا سوى شعب كسائر الشعوب، ولا نريد أن نكون غير ذلك... لقد اعتقدت إسرائيل بخوضها معركة إرهابية في لبنان، أنها أزالت منظمة التحرير وسحبت سندها الشعبي الفلسطيني، المحروم من أرضه بعد. وربما تكون قد نجحت في هذه المعركة، بما أنه لم يكن في طرابلس لبنان المحاصرة سوى الحضور الجسدي لعرفات بين ذويه، جميعهم في ضرب من العظمة المنفردة. لكن الشعب الفلسطيني لن يفقد هويته دون أن يستعاض عنها بإرهاب مزدوج، إرهاب الدولة والدين، الذي يستفيد من غيابه ويجعل كلّ تسوية سلمية مع إسرائيل مستحيلة. لم تخرج إسرائيل ذاتها من حرب لبنان، مفكّكة أخلاقيا فحسب، ومختلة اقتصاديا، بل ستجد نفسها أمام الصورة العكسية لتعصّبها الخاص. لا يكون الحلّ السياسي ولا التسوية السلمية ممكنا إلاّ مع منظمة تحرير فلسطينية مستقلّة، لن تختفي في دولة موجودة بعدُ، ولن تضيع في مختلف الحركات الإسلامية. إنّ اختفاء منظمة التحرير لن يكون سوى انتصارَ القوى العمياء للحرب غير المكترثة ببقاء الشعب الفلسطينيّ.(1938)
2- الأحجـــار
(عن الانتفاضة الأولى)
"الأحجار المقذوفة تأتي من الداخل، تأتي من الشعب الفلسطينيّ لتذكّر، بأنه في مكان من العالم جدّ صغير، صار جبر الضرر مقلوبا. إنّ ما يرميه الفلسطينيون هي أحجارهم الخاصّة، أحجار بلدهم الحيّة." (جيل دولوز)
لم تبدآ أوروبا في جبر الضرر اللامتناه الذي عليها تجاه اليهود، بل جعلت شعبا بريئا يقضيه وهم الفلسطينيون. لقد بنا الصهيونيون دولة إسرائيل بماضي قريب من عذابهم، الرعب الأوروبي الذي لا ينسى - لكن أيضا على آلام هذا الشعب الآخر، بأحجار هذا الشعب الآخر. فقد سميت منظمة الإيرجون إرهابية، لا لأنها فجرت المقرّ العام الانجليزي فحسب، بل لأنها دمّرت القرى، وأبادت (سكّانا) . لقد جعل منها الأمريكيون إنتاجا هوليوديا عاليا ذي أرباح طائلة. كان من المفترض على دولة إسرائيل أن تستقرّ على أرض خالية تنتظر طويلا الشعب الإسرائيلي القديم، مع بعض العرب الأشباح قادمين من مكان آخر، حرّاس الأحجار النائمة. لقد قذف بالفلسطينيين إلى النسيان. وكان يفرض عليهم الاعتراف بحقّ دولة إسرائيل، في حين لا يكفّ الإسرائيليون عن نفي واقع شعب فلسطيني. لقد خاض هذا الشعب لوحده حربا لم تنته من أجل الدفاع عن أرضه الخاصّة، عن أحجاره الخاصة وحياته الخاصّة: هذه الحرب الأولى التي لا نتحدّث عنها طالما نحمل على الاعتقاد بأنّ الفلسطينيين عرب جاءوا من مكان آخر وبإمكانهم العودة إليه. من سيفكّك هذه الضفة الغربية ؟ من سيقول بأنّه بين فلسطينيّ وعربيّ آخر رابط قد يكون قويّا، لكن ليس أكثر مما قد يكون بين بلدين أوروبيين؟ وأيّ فلسطينيّ سينسى ما فعله به عرب آخرون مما يضاهي ما فعله الإسرائيليون؟ ما هي عقدة هذا الدين الجديد؟ استقرّ الفلسطينيون، وقد طردوا من أراضيهم، حيثما استطاعوا، وحيث يقدرون أيضا على رؤيتها على الأقلّ، والحفاظ على رؤيتهم بوصفها التحاما أقصى بوجودهم المُهووس. لن يستطيع الإسرائيليون دفعهم إلى أبعد من ذلك، وقبْرَهم في الليل وفي النسيان.
تدمير قرى وتفجير بيوت وطرد واغتيال أشخاص، تاريخ فظيع يعود على كاهل أبرياء جدد. ثمّ يقال بأنّ الأجهزة السرية فازت بإعجاب العالم. لكن أيّ ديمقراطية تختلط فيها السياسة بشدّة مع أعمال الأجهزة السرية؟ "كل هؤلاء الناس يسمّون أبو"، قال ضابط إسرائيليّ بعد اغتيال أبو جهاد. وهل يتذكّرون الصوت الفظيع لمن يقول: جميع هؤلاء الناس يسمّون ليفي...؟
كيف ستجد إسرائيل لنفسها مخرجا، من الأراضي التي وقع ضمّها والأراضي المحتلّة، والمستوطنات والمستعمرات ومن هؤلاء الأحبار المجانين؟ احتلال، واحتلال لا نهائي: الأحجار المقذوفة تأتي من الداخل، تأتي من الشعب الفلسطينيّ لتذكّر، بأنه في مكان من العالم جدّ صغير، صار الدين مقلوبا. إنّ ما يرميه الفلسطينيون هي أحجارهم الخاصّة، أحجار بلدهم الحيّة. لا أحد يستطيع قضاء دين بقتل، واحد، اثنان، ثلاثة، ستّة وعشرة كلّ يوم، ولا أن يتفاهم مع طرف ثالث. الطرف الثالث يتنصّل، وكلّ ميّت يدعو الحياء، والفلسطينيون ينفذون إلى روح إسرائيل، يفعلون فيها فعل من يسبغ أغوارها كل يوم ويثقبها. "
***
.................
* ج. دولوز " نظامان للمجانين" دار مينوي 1983