آراء
عبد السلام فاروق: من شنغهاي.. العالم الجديد ينهض

في دهاليز السياسة العالمية، حيث نادراً ما تكتب اللحظات الفاصلة بضوء النهار، جاءت قمة شنغهاي لتعلن عن نفسها دون ضجيج، ولكن بثقل صاعق. لم تكن لقاء عابراً، أو مناسبة بروتوكولية، بل كانت "إعلان حالة".. حالة جديدة في الجسد الدولي، حيث ينهض الجنوب العالمي من سبات طويل، ممزقاً قيود النظام الأحادي، الذي هيمن لعقود بعد سقوط جدار برلين وانفراد واشنطن بقيادة العالم.
هنا، في العاصمة الصينية، اجتمعت وجوه تحكي قصة المرحلة القادمة: بوتين القادم من معركته المصيرية في أوكرانيا ليؤسس لتحالف وجودي مع القطب الصيني الصاعد، ومودي الذي يمشي على حبل السياسة الدولية بدقة بهلوانية، بين واشنطن وموسكو وبكين، وأردوغان الذي يجسد أكثر من أي زعيم آخر معنى "اللحظة الانتقالية" بين عالم يموت وآخر يولد، ووراءهم طابور طويل من القادة العرب الذين أدركوا أن البوصلة الجيوسياسية قد انحرفت عن شمالها التقليدي نحو آفاق جديدة.
أنقاض النظام القديم
لكي نفهم ما حدث، يجب أن ننظر إلى ما تحت سطح الأحداث. النظام العالمي يشهد تحولاً "جيولوجياً" وليس تحولاً طقسياً عابراً. إنه تحول في الصفائح التكتونية للقوة، وليس في طقسها اليومي.
هذا التحول له جذوره العميقة: فشل المشروع الأميركي في الشرق الأوسط (من العراق إلى أفغانستان)، الأزمة المالية العالمية عام ٢٠٠٨ التي كشفت هشاشة النموذج الغربي، جائحة كورونا التي عرت اختلالات العولمة، وأخيراً الحرب في أوكرانيا التي مثلت "القشة التي قصمت ظهر البعير"، بمعنى أنها دفعت الكثيرين، حتى حلفاء واشنطن التقليديين، إلى إعادة حساباتهم بشكل جذري.
لم تعد المسألة مجرد تذمر من الهيمنة الأميركية، بل أصبحت مسألة بحث عن بديل استراتيجي. والصين، بقدرتها الاقتصادية الهائلة ونهجها البراغماتي الخالي من الوعظ الأخلاقي، قدمت نفسك كقطب بديل. وروسيا، بقوتها العسكرية واستعدادها لتحمل المواجهة، قدمت نفسك كحاجز أمام الغرب. والهند، بديمقراطيتها الفوضوية واقتصادها العملاق، ترفض أن تكون في معسكر واحد.
العرب على مفترق الطرق
المشهد العربي في هذه المعادلة الجديدة مثير للدراسة. لقد ظل العالم العربي لعقود "حديقة خلفية" للغرب، وميداناً لصراعاته. لكن اليوم، نرى تحولاً صامتاً لكنه عظيم الأثر.
الرياض وأبوظبي، القاعدتان التاريخيتان للولايات المتحدة في الخليج، تبحثان عن شراكات استراتيجية مع موسكو وبكين في مجال الطاقة والتكنولوجيا والأمن. مصر، الحليف التقليدي لواشنطن، تعيد توازن علاقاتها بذكاء. حتى الجزائر وسوريا والعراق، التي كانت دوماً في دائرة النفوذ غير الغربي، تجد اليوم مساحة أكبر للمناورة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل ينتقل العرب من حالة التبعية إلى حالة الفاعلية؟ هل يستطيعون تحويل هذه اللحظة الانتقالية إلى فرصة لصناعة دور إقليمي مستقل، أم أنهم ببساطة يستبدلون سيداً قديماً بآخر جديد؟
الخطر الحقيقي في استمرار التبعية ذاتها تحت أسماء مختلفة. الصين وروسيا ليستا جمعيتين خيريتين، بل هما قوتان عظمتان تبحثان عن مصالحهما. والفجوة التكنولوجية والعسكرية بين العالم العربي وهاتين القوتين لا تزال هائلة.
أردوغان و"لعبة الطائر الجريح"
زيارة الرئيس التركي للصين وهي بقلب الناتو، تحمل رمزية كبيرة. أردوغان، الذي يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة، يحتاج إلى الصين كشريك اقتصادي. ولكنه أيضاً يريد إرسال رسالة إلى الغرب مفادها أن أنقرة لديها خيارات أخرى.
هذه هي "لعبة الطائر الجريح" التي يلعبها أردوغان بمهارة: إظهار الضعف أحياناً (الاقتصاد المنكوب) والقوة أحياناً أخرى (الموقف الجيوسراتيجي والعسكري)، واللعب على كل الحبال لاستخراج أفضل الصفقات من المعسكرين المتصارعين. إنها براغماتية صرفة، قد تثير الاستياء، لكنها تعكس واقع العالم المتعدد الأقطاب حيث الولاءات أصبحت سائلة.
ملامح النظام الجديد ..
الخلاصة التي يجب أن نخرج بها من شنغهاي هي أن العالم يتجه نحو نظام متعدد الأقطاب، لكن هذا النظام لن يكون بالضرورة أكثر عدلاً أو استقراراً. التعددية القطبية قد تعني المزيد من الفوضى، والمزيد من الصراعات بالوكالة، والمزيد من عدم اليقين.
التحدي الحقيقي للجنوب العالمي ليس فقط في بناء تحالفات مضادة للغرب، بل في تقديم "عقد اجتماعي دولي جديد". عقد قائم على احترام الخصوصيات الحضارية، والتعاون في مواجهة التحديات المشتركة (كالفقر والتغير المناخي)، وإقامة موازين قوى أكثر توازناً تمنع هيمنة قطب واحد.
الغرب يترنح، لكنه لم يسقط بعد. ولن يسقط إلا إذا قدم الآخرون بديلاً مقنعاً، ليس فقط في مجال الصواريخ والنفط، بل في مجال القيم والإنسان. قمة شنغهاي كانت خطوة أولى على طريق طويل. الطريق الذي سيكتبه الصراع بين الإرادة القديمة للهيمنة، والإرادة الجديدة للتحرر. والبشرية كلها هي التي ستدفع ثمن نتائج هذه المعركة المصيرية.
فهل يستطيع قادة الجنوب العالمي قراءة اللحظة التاريخية، أم أنهم سيقفون عند حدود تغيير التحالفات دون تغيير النظام العالمي نفسه؟
الفوضى الخلاقة أم الفوضى المدمرة؟
الغرب، وبخاصة واشنطن، يتحدث عن خطر "الفوضى" التي قد يسببها تعدد الأقطاب. لكن السؤال الذي يجب طرحه: أليست "الفوضى الخلاقة" هي التي مارسها الغرب نفسه لعقود في العراق وليبيا وسوريا؟
الفرق اليوم هو أن "الفوضى" لم تعد حكراً على طرف واحد. فالقدرة على خلق عدم الاستقرار أصبحت متاحة لأطراف متعددة. روسيا يمكنها استخدام سلاح الطاقة، الصين يمكنها استخدام سلاح السوق، تركيا يمكنها استخدام سلاج الممرات المائية، وإيران يمكنها استخدام سلاح الميليشيات.
هذه "الديمقراطية في الفوضى" هي السمة الأكثر خطورة في المرحلة القادمة. فلم يعد هناك شرطي واحد للعالم، والنتيجة هي أن يصبح العالم أشبه بـ "الغرب المتوحش" حيث يسيطر الأقوى.
هناك بعد آخر مهمل في هذه المعادلة، وهو البعد الثقافي والحضاري. الصعود الصيني والروسي والهندي ليس صعوداً اقتصادياً وسياسياً فقط، بل هو أيضاً صعود "ثقافي".
النموذج الصيني الذي يقدم تنمية اقتصادية دون ديمقراطية ليبرالية يتحدى الفلسفة الغربية في الربط الآلي بين الرأسمالية والديمقراطية. النموذج الروسي في الدفاع عن "القيم التقليدية" ضد ما يسمى "الليبرالية الغربية" يجد صدى في كثير من المجتمعات المحافظة. النموذج الهندي في الجمع بين الديمقراطية والتعددية الدينية والثقافية يقدم بديلاً مختلفاً.
هنا، يبرز سؤال صامت: هل نحن إزاء "صراع حضارات" جديد كما تنبأ هنتنجتون، أم إزاء فرصة تاريخية لحوار حقيقي بين الثقافات على أساس الاحترام المتبادل وعدم فرض النموذج الواحد؟
العرب واللعبة الكبرى
العالم العربي يقف عند مفترق طرق تاريخي. لقرون، كانت المنطقة "رقعة شطرنج" في اللعبة الكبرى بين القوى العظمى. لكن اليوم، هناك فرصة نادرة للتحول من قطع على الرقعة إلى لاعبين حولها.
مقومات اللعب موجودة: الموقع الاستراتيجي، الثروات الطبيعية، العمق الحضاري، والأسواق الضخمة. لكن المعضلة تكمن في "الإرادة السياسية" و"الرؤية الاستراتيجية".
الشراكات الجديدة مع الصين وروسيا يجب أن تكون وسيلة لتعزيز الاستقلالية وليس استبدال التبعية. يجب أن تركز على نقل التكنولوجيا، بناء القدرات الذاتية، وخلق تحالفات مرنة تحمي المصالح العربية أولاً.
في النهاية، المعركة الحقيقية هي معركة "الأفكار" و"الروايات". من يسيطر على رواية المستقبل؟ من يقدم الرؤية الأكثر إقناعاً للإنسان عن العدالة والتنمية والأمن؟
الغرب قدم رواية العولمة الليبرالية ووعد بالديمقراطية والازدهار للجميع، لكنه فشل في الوفاء بالوعد. التحدي الآن على الجنوب العالمي أن يقدم رواية بديلة. رواية لا تقوم على مجرد معاداة الغرب، بل على تقديم نموذج أكثر إنصافاً وتعددية وإنسانية.
الطريق طويل ومعقد، وقمة شنغهاي كانت مجرد البداية. البداية التي أعلنت أن عصر الهيمنة الأحادية قد ولى، وأن عصر التعددية قد أطل، سواء كان ذلك نعمة أم نقمة.
السؤال التاريخي المفتوح: هل ستنجح البشرية في اختراع نظام عالمي جديد أكثر عدلاً، أم ستعود إلى فوضى القرن التاسع عشر بأسلحة القرن الحادي والعشرين؟
الإجابة ليست في كتب السياسة، بل في إرادة الشعوب وحكمة قادتها.
***
عبد السلام فاروق