أقلام حرة
رافد القاضي: ميلادُ المسيحِ الميمون
ولادةُ النورِ الذي ما زال يُربكُ العالم ويُعيدُ كتابةَ معنى الإنسان
ميلادٌ يتجدّد.. وضميرٌ يُمتحَن
في عالمٍ تتسارع فيه الأخبار وتتناقص فيه المعاني يعود ميلادُ المسيح لا بوصفه حدثًا من الماضي، بل باعتباره مرآةً قاسية للحاضر ومرآة تضع الإنسان أمام ذاته وتسأله بلا مواربة: ماذا فعلتَ بكل هذا الإرث الأخلاقي؟
وأين أوصلتك قرونُ التقدم إذا كان الخوف ما زال يحكم والعنف ما زال لغة والإنسان ما زال الحلقة الأضعف؟
ليس ميلادُ المسيح مناسبةً طقسية تُختصر بعبارات التهنئة، ولا ذكرى عاطفية تُستدعى مرة في العام ثم تُطوى وإنه حدثٌ ثقيل الوطأة، لأنّه منذ لحظته الأولى كان حدثًا إشكاليًا: جاء ليقلب منطق العالم لا ليهادنه وليعيد تعريف القوة، لا ليباركها؛ وليضع الإنسان في مركز المعادلة، لا في هامشها.
لقد وُلد المسيح في زمنٍ كانت فيه الإمبراطوريات تتقاسم الأرض، وتُدار الشعوب بمنطق الغلبة، ويُقاس الإنسان بقيمته الاقتصادية أو السياسية، لا بكرامته وعالمٌ يشبه عالمنا أكثر مما نحب الاعتراف عالمٌ يُكافئ القسوة، ويبرر الظلم، ويطلب من الضعيف أن يصمت باسم الواقعية في ذلك الزمن لم يكن الميلاد وعدًا بالراحة بل إعلانًا مبكرًا للصدام الأخلاقي.
لم يولد المسيح في قصر، ولم تحفه الحراسات، ولم تُطلق المدافع احتفاءً به وقد وُلد في الهامش في مكانٍ بسيط بلا مظاهر وكان في هذا الاختيار ما يكفي لإرباك منطق القوة كله فالعالم الذي اعتاد أن يرى العظمة في الأبراج العالية، فوجئ برسالة تقول إن العظمة قد تولد في أدنى الأماكن وإن القيمة لا تحتاج إلى منصة، بل إلى معنى.
منذ اللحظة الأولى بدا هذا الميلاد غير مريح للسلطة. ليس لأنه دعا إلى العصيان المسلح، بل لأنه طرح فكرة أخطر: أن الإنسان، أيّ إنسان، يستحق الكرامة قبل الطاعة، والعدالة قبل الخضوع. وهذه فكرة لا تحبها الإمبراطوريات، ولا تطمئن لها الأنظمة، ولا يروق لها كل من بنى نفوذه على الخوف.
لم يكن المسيح ثائرًا بالسيف، لكنه كان ثائرًا على السيف ولم يأتِ ليبدّل طغاة بآخرين بل ليبدّل طريقة التفكير ذاتها وقال إن الغفران قوة، وإن الرحمة ليست ضعفًا وإن الحب حين يصبح موقفًا، قادر على هزّ أعتى البنى ففي عالمٍ كان يرى في الانتقام عدلًا وفي القسوة حزمًا، جاءت هذه الأفكار كتهديد صريح للنظام القائم.
ومن هنا، لم يكن الميلاد حدثًا دينيًا فقط بل حدثًا أخلاقيًا وسياسيًا بامتياز وقد أعاد طرح سؤال السلطة: لمن هي؟
ولماذا؟
وبأي حق؟
وأعاد تعريف العلاقة بين الإنسان والدين حين رفض أن يكون الإيمان غطاءً للظلم، أو أداةً لإقصاء المختلف والدين في جوهر هذه الرسالة، ليس راية تُرفع في الصراع، بل ضمير يُستدعى في لحظة الاختيار.
لم تكن رسالة المسيح معلّقة في السماء بل نازلة إلى الأرض، إلى بؤس الناس اليومي وانحاز للفقراء لا بوصفهم موضوع شفقة بل بوصفهم معيارًا للعدالة وواجه نفاق المتدينين حين تحالفوا مع السلطة ضد الإنسان ولهذا فإن أي احتفال بميلاده يتجاهل الفقر ويصمت عن الظلم ويبرر الإقصاء هو احتفال أجوف، بلا روح.
لهذا أيضًا تجاوز الميلاد حدوده الدينية ودخل الوجدان الإنساني العام. وجد فيه الفلاسفة سؤالًا أخلاقيًا مفتوحًا، ووجد فيه الفنانون رمزًا للنور في العتمة، ووجد فيه الأدباء مادةً لا تنضب للتأمل في معنى الخير والشر. لقد أصبح الميلاد، عبر القرون، لغة مشتركة لمن يبحث عن إنسانية أوسع.
وفي عالمنا المعاصر، حيث يتجدد العنف بأشكال أكثر تعقيدًا، وحيث تُرتكب الجرائم باسم الله، وباسم الهوية، وباسم الأمن يبدو ميلاد المسيح أشبه بمحاكمة أخلاقية مفتوحة. محاكمة لا تستثني أحدًا فالمسيح لم يدعُ يومًا إلى قتل المختلف، ولا إلى إلغائه، ولا إلى تحويل الإيمان إلى أداة فرز وعداء بل دعا إلى الإنسان، أولًا وأخيرًا.
في الشرق الأوسط حيث وُلد المسيح يصبح الميلاد أكثر من مجرد ذكرى ويصبح سؤال بقاء في أرضٍ أنهكتها الحروب، ومزقتها الطائفية، وأُنهك فيها المعنى قبل العمران يعود الميلاد ليذكّر بأن التعدد ليس تهديدًا بل فرصة؛ وأن الإيمان، حين يتحول إلى خندق، يفقد روحه.
في العراق، في فلسطين، في كل جغرافيا مثقلة بالذاكرة والدم، لا يعود السؤال: هل نحتفل؟
بل: هل نفهم؟
هل نفهم أن هذا الميلاد يدعونا إلى إعادة بناء علاقتنا ببعضنا، وإلى حماية الإنسان من الهويات القاتلة، وإلى تحويل الاختلاف من لعنة إلى قيمة؟
لماذا نكتب عن الميلاد اليوم؟
لأن العالم، رغم كل ما حقق، ما زال عاجزًا عن حماية الإنسان لأن التكنولوجيا سبقت الأخلاق، والسلاح سبق الحكمة، والخطاب سبق الفعل ولأن الميلاد، في جوهره، ليس حدثًا من الماضي بل بوصلة للمستقبل.
ميلادُ المسيحِ الميمون ليس مناسبةً بروتوكولية، ولا زينة شوارع، ولا خطاب تهنئة موسمي إنه مسؤولية عامة، واختبار أخلاقي متجدد واختبار للأفراد وللمجتمعات وللدول.
يسألنا الميلاد، كل عام، لا كيف نحتفل، بل كيف نعيش؟
يسألنا إن كنا نملك شجاعة الرحمة في عالمٍ يعلّمنا القسوة وإن كنا نملك جرأة أن نختار الإنسان، حين يكون اختياره مكلفًا سياسيًا أو اجتماعيًا وإن كنا نؤمن حقًا بأن القوة ليست في البطش، بل في حماية الحياة.
إن الميلاد الحقيقي لا يحدث في التقويم بل في الضمير ولا يحدث حين تُضاء الشوارع بل حين تُضاء القلوب بالعقل والمسؤولية
وحين يصبح الإنسان غاية، لا وسيلة وحين تُقاس السياسات بميزان الكرامة لا بميزان الربح والخسارة.
عندها فقط لا نكون قد كتبنا افتتاحية عن ميلاد المسيح بل شاركنا – ولو قليلًا – في إنقاذ معناه من التآكل وجعلنا من النور موقفًا… لا مجرد ذكرى.
***
د. رافد حميد فرج القاضي







