آراء
كاظم الموسوي: حركةُ التحرّر الوطني العربيّة واتفاقيّة أوسلو الفلسطينيّة
مرّت ثلاثةُ عقودٍ من الزمن العربي المثقل والمرتبك عموديًّا وأفقيًّا على احتفال توقيع اتفاق "إعلان المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي" المعروف بـ"اتفاقية أوسلو"(ايلول/ سبتمبر 1993) لتشهد منظّمة التحرير الفلسطينية تحوّلًا أو انعطافة تاريخيّة في مشهد سياسي تتحكم فيه موازين قوى أكبر من طاقة أو قدرة قوى المنظمة، أو المهيمنين عليها، على مواجهتها، مما وضع المنظمة والقضية الفلسطينية أمام تحديات وإرباكات أضعفت الحلم الفلسطيني، المكاسب أو التوقعات وعقّدت النتائج والنهايات وأُبعدت الأهداف المطلوبة من أي حراك أو كفاح وطني عام أو خاص، أو وضعتها في أزمات متتالية ليست في صالحها وتطوير نضالها واستحقاق تاريخها السياسي والقانوني، كما قدمت أسئلة متوالدة ومتوالية في حاجة إلى إجابات واضحة ومراجعة مسؤولة وموضوعية عنها.
استطاع كيان الاحتلال الإسرائيلي من استغلال الاتفاقية لصالحه ومارس دوره المعروف في الخداع والتضليل وتهميش جوهر القضية الوطنية الفلسطينية، مواصلًا تحقيق مشروعه الاحتلالي الاستيطاني واضطهاد الشعب الفلسطيني وتهجيره وإخراجه من أرض وطنه وفتح المجال واسعًا أمام إقرار وجوده والخضوع لبرامجه ونهجه في العدوان، وفرض أمر واقع بالتعاون والتنسيق مع الدول الرأسمالية الداعمة له وغيرها من المتخادمة معه ومع رعاته ومشروع وخطط إقامته ووجوده.
حصلت بعض المكتسبات من الاتفاقية، بدهيًّا، أو حسب تقدير المندفعين لها، ولكنها توقفت عند صفحتها الأولى وتراجعت بعدها من خلال ما استثمره الكيان الصهيوني من تنازل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عن 77% من أرض فلسطين، والوقوع في طامة كبرى، قانونيًّا وسياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وأخلاقيًّا أيضًا، كون هذا التنازل تفريطًا بحقٍّ مشروعٍ من جهة، وتنازلًا دون توافقٍ وطني من جهةٍ أخرى، وتجاوزًا تاريخيًّا لثابتٍ وطني من جهةٍ ثالثة والقبول بالاختراق الصهيو - غربي لتفتيت القضية الفلسطينية ولقيادات صعدت إلى الواجهة السياسية في ظروفٍ لم تعد سريّة أو مخفيّة من جهةٍ رابعة والقبول في تحول البرنامج الوطني من "التحرير" إلى "تسوية وسلطة سياسية" تلغي دور المنظمة وبرنامج التحرر الوطني الذي تأسست عليه، عمليًّا، من جهة أساسية؛ الأمر الذي يعني أن توابعه وتداعياته أخطر من عدمه، أو أنّه أمر مدروس لما يليه ويحصل بعده، وهو ما تم بغفلة أو بوعي، وما جرى يفضح جوهر الاتفاقية وأهدافها.
لم تتعظ قيادة منظمة التحرير من دروس الاتفاقات العربية مع الكيان فضلًا عن دروسها وحركة التحرر الوطني ولم تؤمن وضعها أمام الاتفاقية ورعاتها ولم تتقدم إليها بوحدة وطنية شعبية وإصرارًا على استمرار النضال بكل الأساليب من أجل إكمال التحرر الوطني والالتزام ببرنامجه المتوافق عليه، وعدم التخلي عنه أو عن حقوق الشعب المشروعة في الحرية والاستقلال وتقرير المصير؛ الأمرُ الذي أضعف القضية والمنظمة وقزّمهما دون آفاق واضحة لحلول ممكنة ونهايات لمصلحة الشعب الفلسطيني والوطن العربي، وكان من بين أبرز التحولات أو الانعطافة، تحول الحركة الوطنية الفلسطينية من حركة تحرر وطني إلى البحث عن تسوية سياسية وقيام سلطة لفظية على جزء من شعبها، في جزء من أرضه، وفي الواقع سلطة اسمية على شعبها فقط، وليس على أرضه وموارده، وفعليًّا "سلطة" تحت سلطة الاحتلال، وشروطها السياسية والاقتصادية والأمنية والإدارية، وإبعاد المنظمة إطارًا سياسيًّا بمشروع وطني، وتهميشها سياسيًّا وشعبيًّا، والبحث عن مسار تسوية سياسية، واختزال الأرض والوطن واللاجئين وقرارات الأمم المتحدة ببنود الاتفاقية التي رسمتها العقلية الصهيونية المتنفذة في إنجاز الاتفاقية وما تلاها.
ولعلّ من تداعيات الاتفاق المباشرة، بعد كل ما جرى، الانقسام الواسع في الرأي والرؤية الفلسطينية ورفض قوى وفصائل سياسية للاتفاقية وإعلان معارضتها لها واستفراد الكيان بمن وقّع معه الاتفاق واعتبار الانقسام وسيلةً للكيان في تمزيق الصف الفلسطيني وتدمير المشروع الوطني الجامع والإرادة الشعبيّة له من جهة، وتعميق الانقسام والاختلاف على الثوابت الوطنية والبرنامج التحرري والإجماع الشعبي من جهةٍ أخرى، والتخلّي عمليًّا عن المرجعيات القانونية، سواءً ما صدر من الأمم المتحدة أو القرارات الدولية الملزمة للكيان الإسرائيلي، وطبيعة الالتزام بها وتطبيقها وعدم التهرب منها، كما هي طريقته في التسويف والتشويه والتهميش والتملص من كل ما هو قانوني وملزم لسلطة احتلال، واستغلت سلطة الاحتلال كل ذلك في التحكم بدور السلطة الفلسطينية وتحويلها إلى ما يخدم مصالح الاحتلال أكثر من مصالح الشعب الفلسطيني، لا سيما في إدارة الحياة اليومية والتواصل الاجتماعي الجغرافي وحماية الشعب من العسف والقمع والاعتقالات. ومارس الكيان عمليًّا ليس تقسيم الفلسطينيين سياسيًّا وحسب، بل وجغرافيًّا، عبر الانقسام الحاصل حاليًّا بين المحافظات الشماليّة (الضفة الغربيّة)، والجنوبيّة (قطاع غزة)، فضلًا عن تنصّل الاحتلال الإسرائيلي من الحقوق الفلسطينيّة كافةً وتهميشها على أرض الواقع والمسار التاريخي.
في الأساس نجحت اتفاقية أوسلو في تهميش منظمة التحرير الفلسطينية أو إخراجها من مكانتها ودورها وعزلتها رسميًّا وأبعدتها شعبيًّا عبر الضغوط السياسيّة أو الاختراقات التنفيذية، بدءًا من التوقيع على الاتفاقية دون أخذ رأي الشعب واستشارته، ما رسم فجوة بين قيادتها والشعب الفلسطيني، لا سيّما باعترافها بالكيان الإسرائيلي وحقه بالوجود بلا تبادل رسمي وعلني أو ما يقابله قانونيًّا، ما قلّل من مكانتها وفقدان الثقة في تلبية البرنامج الوطني الفلسطيني بأركانه في عودة اللاجئين والدولة المستقلة وعاصمتها القدس ومقاومة الاحتلال بكلّ أشكال الكفاح وتقرير المصير، في الوقت الذي مرر الكيان هدفه وسياسته العدوانية في عدم الاعتراف بالشعب الفلسطيني وحقه في الوجود، كما اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية به، فقد اعترف الكيان بالمنظمة فقط "ممثّلًا "حتى ليس "ممثلًا شرعيًّا ووحيدًا" للشعب الفلسطيني، وهذا يفسر بأن المنظمة لم تعد كما هي أو كما تأسست عليه، وقد تهمشت إلى درجة رفعها إلى رفوف السلطة واستحضارها حين اللزوم، باسم السلطة وفريق أوسلو وليس الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة.
ومن خلال ذلك أو عبره وهدف الكيان ورعاته من اتفاقية أوسلو هو اعتبارها مدخلًا "لشرعنة" الكيان الإسرائيلي رسميًّا وقانونيًّا دوليًّا، وتقديمه باسم الاعتراف الفلسطيني إلى الدول والحكومات العربية والأجنبية إلى إقامة علاقاتٍ رسميّةٍ علنيةٍ معه، واستدعى هذا تشويه مواقف الفصائل الفلسطينية المعارضة للاتفاقية، والتخلي عن برنامج التحرر الوطني الفلسطيني بأهدافه وخطواته ومستقبله، وصولًا إلى إضعاف القضية الفلسطينية وعزلها عن بيئتها العربية والإسلامية وقوى التحرر الوطني العالمية، وضمن إطار الخطط الصهيونية في إنهاء الحقوق الوطنية وحرف بوصلة الصراع ضد الكيان إلى الصراعات الإقليمية والدينية الطائفية في المنطقة والمحيط بها، وتجريد قوى المقاومة الوطنية والكفاح التحرري من الحاضنة الشعبية والتضامن الدولي ومحاصرتها بقرارات دولية وإجراءات داخلية وخارجية تضعف من امتدادها الشعبي وحقوقها الوطنية وسرديتها التاريخية، وتقدم للكيان فرص التحول إلى كيان "طبيعي" في المنطقة والاعتراف بوجوده، عربيًّا وإسلاميًّا، رسميًّا وعلنًا، والتخلي عمليًّا عن شعار مركزية القضية الفلسطينية للأمة والنضال التحرري العربي، دون التفات إلى معاناة الشعب الفلسطيني على أرضه وحقوقه الوطنية الفلسطينية المشروعة.
من هنا يظهر الخطر الصهيوني في خططه ومشاريعه الواسعة، بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو خصوصًا، ليس على تهميش القضية الفلسطينية ومنظمة التحرير والدعم العربي والإسلامي والدولي وحسب، إنما في خطره الأوسع على المنطقة أيضًا، انطلاقًا من ارتباطاته ورهاناته التي تأسّس عليها في المشاريع الإمبرياليّة للهيمنة على المنطقة ونهب خيراتها وتفتيت قواها الوطنية وتهديدها بالتقسيم والتجزئة وفرض التخادم والاعتراف وهدر الثروات وإنهاك الشعوب بالصراعات الداخلية والحروب والانقسامات التي لا تخدم مصالحها الوطنية وأهداف التحرر الوطني التي تناضل من أجلها.
كتب الكثير عن الاتفاقية ومن كل الأطراف، سواء تلك التي تورطت فيها أو التي عارضتها، أو التي قرأتها باستقلالية، ويكاد الجميع متفقًا على أن اتفاقية أوسلو كارثة حلّت بالقضية الفلسطينية، لم تجلب للفلسطينيين سوى الويلات، وأصبحت مؤشّرًا على فشل قيادة منظمة التحرير في أدائها السياسي والمؤسسي، والانحراف عن الأهداف التي تأسست على أساسها المنظمة، مما يتطلب الآن من الجميع مراجعة وتقييمًا نقديًّا، بعد كل هذه الفترة الزمنية، والتوقف المعلن من الالتزام بهذه الاتفاقية وما تولد منها، مع طرح خيارات واقعية للحلول المنشودة، تبدأ من إعادة الاعتبار للحقوق الفلسطينية المشروعة ومركزية القضية الفلسطينية وحضنها العربي والإسلامي وقوى التحرر العالمية، ولعل ما أعلنته قوى أيدت الاتفاقية بداية وعادت الآن معارضة استمرار آلياتها، حيث رأت، حسب تصريح قيادات لها "حالة الانحدار التدريجي لإبقاء العملية السياسية مستمرة، ويتواصل معها الاستيطان والاحتلال، وهو ما أفضى لآليات خاطئة في التنفيذ"، مشيرة إلى أنّ اتفاق أوسلو لم يعد قائمًا من الناحية الواقعية والعملية، وهو ما يفرض ضرورة التحلل منه بالعمل على إيجاد بدائل واقعية ومنطقية تُخرج الحالة الفلسطينية السياسية من المشهد القائم بعيدًا عن التنازع على السلطة.
وبالتأكيد يصبح العمل على إنهاء الانقسام الفلسطيني، والعودة إلى آليات العمل الوطني ببرنامج التحرر الوطني ومهماته المعروفة في مشاركة كل القوى والفصائل الفلسطينية والتنسيق والتضامن مع الحاضنة الشعبية وقوى التحرر الوطني العربية والإسلامية والعالمية أمرًا ملزمًا وأساسيًّا؛ إذ لم يكن الصراع في إطار فلسطيني – إسرائيلي، فقط، بل هو صراع عربي- صهيوني، تمثل القضية الفلسطينية محوره الرئيسي، وتتحمل الشعوب العربية والإسلامية أيضًا مسؤولية الدفاع عن قضاياها المهددة من الأخطار الإسرائيلية والإمبريالية الموجهة ضدها، من خلال هذا الصراع وما يلتحق به من خطط ومشاريع استعمارية، فكانت اتفاقية أوسلو، في إطارها وبنودها وعملية التوقيع عليها والاحتفال بها والسجن داخل أسوارها ضربة غير منتظرة وسببًا لنكبة أخرى أو معبرًا لها، أسهمت في تأخير قضايا التحرر الوطني، فلسطينيًّا وعربيًّا في الأساس؛ إذ من المعلوم أن الكيان الإسرائيلي والحركة الصهيونية والغرب الاستعماري، هذا التحالف العدواني، يشكّل تهديدًا دائمًا للحريّة والاستقلال الوطني لكلّ الشعوب، بما فيها العربية والإسلامية، وعقبة في طريق نضالها إلى التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي والوحدة الوطنية والقومية، ويُعدّ تحدّيًا مباشرًا لكلّ حركة تحرّر وطني، ولمنع هذا التحالف من إنجاز خططه ومشاريعه يتطلب تحشيد كل القوى الوطنية بكل فصائلها وطاقاتها والتصدي الكفاحي له، من خلال استكمال مهمات التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي الديمقراطي ووحدة الساحات والمواقف الأساسية، ليكون مقدّمةً لانتصار الشعوب وفي مقدمها الشعب الفلسطيني، وأن يكون فصيلًا رئيسيًّا من فصائل حركة التحرر الوطني والتقدم والديمقراطية في المنطقة والعالم.
***
كاظم الموسوي