آراء

صائب المختار: انحطاط الحضارة الإسلامية

أصبح موضوع انهيار الحضارة الإسلامية الشغل الشاغل لعقول معظم المفكرين والمثقفين العرب، وبات يؤرّق عقولهم ويقضّ مضاجعهم. لم يكن مصطلح انهيار الحضارة الإسلامية كافياُ لوصف تدهور الحضارة، بل إنهم ذهبوا إلى تفضيل استعمال مصطلحات الانحطاط والسقوط والتخلّف، للتعبير عن حالة الحضارة الإسلامية في واقعها الحالي، وكأن انهيار الحضارة الإسلامية هو الحدث الوحيد في تاريخ البشرية الذي سقطت فيه حضارة ولم تنهض بعد انهيارها، ولم يسبق له مثيل في التاريخ.

بحث الباحثون، وما زالوا يبحثون بإسهاب أسباب تخلّف الحضارة الاسلامية، وتفنّنوا في استعراض مسببات التدهور ومعوّقات النهضة، وما زالوا يندبون التخلّف الحضاري في مجتمعاتنا. ظهر العديد من الكتب والمؤلفات التي تدرس وتناقش موضوع تخلّف الحضارة الاسلامية، كَتَبها كتّاب ومثقفون عرب مشهورين ويشار لهم بالبنان، يدعون إلى التجديد في الفكر الثقافي العربي، يبحثون فيها عوامل التخلّف ووسائل النهوض، لكن معظم هذه المؤلفات، إن لم نَقُل كلّها، لم تأتي بفكرة واحدة تصف الواقع المرير بوصف مُقنع وحقيقي لِما حدث ويحدث للمجتمع العربي.

انهارت الحضارة الإسلامية وسقطت بغداد عام 1258م بعد أن غزاها المغول، ودُمرت كل معالمها الحضارية وكتُبها ومكتباتها، وهجَرها حكمائها وعلمائها، وكان ذلك إعلاناً بموت الحضارة الإسلامية في المشرق العربي. حدث هذا قبل أكثر من سبعة قرون وما زال حاضراً بقوة في ثقافتنا الحالية، ونعتبره سبب تخلّفنا. سقطت الاندلس عندما سقطت غرناطة عام 1492م على يد الإسبان، ويمثل هذا التاريخ إعلاناً لموت الحضارة الإسلامية في المغرب العربي، بعد أن تعرضت لتدمير ممنهج لكل ما يخص المسلمين والحضارة الإسلامية. حدث ذلك قبل أكثر من خمسة قرون وما زال حاضراً بقوة في ثقافتنا الحالية ونعتبره سبب تخلّفنا.

لا أعلم متى سنعرف أن الأحوال والأسباب تتغير بمرور الزمن، وإن دوام الحال من المحال. ولماذا نَقبل ونعتقد أن حدثاً مضى عليه سبعة قرون هو السبب المباشر والأهم في تخلّف مجتمعنا العربي؟.

سقوط الحضارة الإسلامية

انهارت الحضارة الإسلامية قبل عدة قرون، شأنها في ذلك شأن كل الحضارات السابقة، لا اختلاف بينهم. شبّه ابن خلدون تطوّر الحضارات بنمو الانسان، فكما يولد الانسان طفلا صغيراً، ثم ينمو ويترعرع ليصل إلى أشُدّه، بعدها تبدأ مرحلة الكبر والشيخوخة والانهيار. تولد الحضارة وهي صغيرة وضعيفة ثم تنموا وتكبر لتصل إلى قمة عطائها ومجدها، وبعدها تظهر فيها عوامل الانهيار والانحطاط فتنتهي وتموت. وهذه سنة التطور في التاريخ وسنة تاريخ البشرية، مرّت بها كل الحضارات، ولم تختلف الحضارة الإسلامية عن باقي الحضارات من حيث التطور والانهيار. فأين أصبحت الحضارات السابقة!! ألم تنهار جميعها وتنقرض بدون استثناء، ولَمْ تنهض من كبوتها أيّ حضارة من الحضارات السابقة. فلماذا تسيطر على عقولنا مأساة انهيار الحضارة الإسلامية. لنأخذ الحضارة الفرعونية كمثال، كونها من أقدم الحضارات، دامت أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وتعتبر من الحضارات الراقية في تاريخ البشرية، ونتساءل: ألم يدب فيها الضعف والفساد والانحطاط ثم سقطت وماتت واندثرت بدون رجعة.  ومثلُها كانت حضارات وادي الرافدين (السومرية والأكدية والبابلية والآشورية)، اتسمت بالقوة والعظمة، ثم الانحطاط والانقراض. ولا تُستثني من هذه القاعدة الحضارات الفارسية واليونانية والرومانية، فكلها انقرضت بعد نهضة عامة شاملة مبهرة. فلماذا نلوم أنفسنا على انحطاط وسقوط حضارتنا الإسلامية؟ وكلّنا يعلم أن سقوط الحضارات أمر حتمي لا بد منه.

من المعلوم ايضاً أن كل الحضارات السابقة انهارت بسبب عوامل داخلية، وتتمثل هذه العوامل الداخلية بتفشي الفساد وانهيار الاخلاق. يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:

(وتلك الأيام نداولها بين الناس. آل عمران 140).

ويقول الشاعر الكبير أحمد شوقي:

إنما الأخلاق ما بقيت

فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

بعد أن تصل الحضارة إلى أوج عظمتها، تكون مفعمة بالنِعم والترف والبذخ والمُغالات في كل شيء، ثم يأتي جيل الحكّام الضعفاء الذين ترَبَوا وترعرعوا في نعيم الملك، ولم يواجهوا الظروف الصعبة لتدعيم الحكم، فتضعف إدارة الدولة، وتزداد الضرائب على الشعب، وينتشر الفقر والتذمر بين الناس. ويواصل الانهيار الحضاري مسيرته حسب نظام التاريخ، إلى أن تأتي القشة التي تقصم ظهر البعير، فيحدث هذا الانقلاب الحضاري عندما تظهر حضارة جديدة مُهَيأة وقادرة على قيادة العالم فتقضي على الحضارة المنهارة، وتؤدي دورها الحضاري في سلم الحضارات البشرية، فتبدأ صفحة جديدة مشرقة في تاريخ البشرية. هذا ما جرى لكل الحضارات البائدة، ولا تُستثنى الحضارة الإسلامية من هذا النظام العالمي.

والعبرة التاريخية التي يجب أن نفهمها من هذا السياق التاريخي هي؛ لماذا لا نعتبر انهيار الحضارة الاسلامية نتيجة طبيعية لتطور قانون الحضارات، ونتجاوز هذا المأزق الذي دمّر عقولنا وثقافتنا، ونبحث عما هو فعلا يمثل عيباً في تفكيرنا وواقعنا. هكذا تتعاقب الحضارات، وهكذا ترتقي، وهكذا تموت. وقد قيل أيضاً " لو دامت لغيرك ما وصلت اليك " فليكن معلوماً عندنا، إن انهيار الحضارة الإسلامية ضرورة حتمية واجبة وقانون من قوانين البشرية، وليس عيباً أو نقصاً فيها أو في دينها أو عقيدتها أو ناسها. فكفانا بكاءً على سقوطها ولنفخر بها كونها سَطعت في تاريخ البشرية وأضاء نورها طريقاً من طرق التقدم الحضاري البشري. ويشهد التاريخ على ذلك.

الحضارة الإسلامية والفكر العربي

يبدو أن هناك خلط واضح في المصطلحات والمفاهيم التي يستعملها الكتّاب والمؤلفون في ابحاثهم عن النهضة الفكرية في المجتمع العربي، وبالتالي فإن هذا الخلط انعكس في ثقافة الناس أيضاً. كثيراً ما تستعمل مصطلحات الحضارة الإسلامية والإسلام والنهضة الفكرية، وكأنها مترادفات يَجزي أحدها الآخر، وتحديداً مفهومَيّ انهيار الحضارة الإسلامية وتخلّف الفكر أو الثقافة العربية. فمصطلح الحضارة الإسلامية غير مصطلح الإسلام وكلاهما يختلفان عن مفهوم النهضة الفكرية، لذا لا يجوز الخلط بينهم.

الملاحظ إن معظم الباحثين يميلون إلى استخدام مصطلح انهيار أو تخلّف الحضارة الإسلامية للتعبير عن واقع الأمة المتخلّف. فالمثقفون العرب، على سبيل المثال، يحبذون استعمال مصطلح التخلّف الإسلامي وانهيار الإسلام وسقوط الإسلام وما شابَه ذلك للتعبير عن تخلّف الامة العربية الفكري والثقافي، وكأن الإسلام هو السبب الحقيقي والمباشر لِما تعيشه الامة العربية من انحطاط وتأخر فكري وثقافي وحضاري. والواقع إن ما تعانيه مجتمعاتنا العربية هو تخلّف وانحطاط واضح في الفكر العربي حصراّ، لا علاقة له بانحطاط الحضارة الإسلامية التي انهارت قبل أكثر من سبعة قرون.

إن المجتمع الإسلامي أعم وأشمل من المجتمع العربي، الذي هو جزء من المجتمع الإسلامي. يتميّز المجتمع العربي الخاص عن المجتمع الإسلامي العام بالتدهور والانحطاط. فتركيا والبانيا واندونيسيا وإيران وكازاخستان وأذربيجان، دولاً إسلامية غير عربية، تشكل تكتل اسلامي أكبر بكثير من البلدان العربية الإسلامية، وهذه الدول الإسلامية لا تعاني من تخلف فكري أو ثقافي كما هو الحال في المجتمعات العربية، ولا تعاني من التدهور والانحطاط الذي يبحث عنه مثقفونا المجدِدون للدين والثقافة والفكر. ولا تعتبر هذه الدول متخلفة بمقاييس عصرنا الراهن، لكن المجتمع العربي هو مجتمع متخلف بمقاييس العصر الراهن. ولذلك يجب علينا أن نركّز على تخلّف فكر وثقافة العقل العربي تحديداً، لكونه يمثل المشكلة الأساسية قيد البحث، ولدراسة أسباب التخلف وعوامل ومسببات النهضة، والابتعاد عن التركيز على الحضارة الإسلامية أو الفكر الإسلامي، كسبب مباشر لانحطاط العقل العربي، لأن العالم الإسلامي كما أوضحت، أعم وأشمل من العالم العربي. ولو كان الإسلام أو انهيار الحضارة الإسلامية هو السبب وراء تخلّف المجتمعات، لتخلّفت المجتمعات الإسلامية غير العربية أيضاً، مثل تركيا والبوسنة والهرسك والبانيا وإيران وغيرها.

وختاماً، فإن هذه دعوة للتفكير خارج الصندوق (Thinking outside the box)، وهي دعوة لكل من يبحث في أسباب وعوامل انحطاط ونهضة الفكر العربي، للتوقف عن الدوران في حلقة مفرغة اسمها انحطاط الحضارة الإسلامية، ذلك أن هذا العامل لم يحقق أي نتائج إيجابية منذ اعتباره السبب المباشر والاهم في تخلّف مجتمعنا، أيّ منذ بدء النهضة العربية في منتصف القرن التاسع عشر إلى الآن، وأعطى تأثيرات سلبية كثيرة زعزعة ثقة المتابعين لمثل هذا الطرح العقيم. فلنبحث عن حلول أخرى موضوعية وحقيقية للتخلف والنهضة.

***

د. صائب المختار

 

في المثقف اليوم