آراء
رشيد الخيّون: دزني باريس ودزني المقتدر ببغداد
بعيداً عن أنباءِ مطاردةِ ميليشيا لجيشِ الدَّولة، وإعلان القتال بين عشيرتين، مِن طائفة واحدة، دعت كلٌّ واحدة أنها العلوية والأخرى الأموية، ودعوةُ شاعرٍ للصيدليات استبدال بيع الخُرافة بالأدويّة، وفضائح سرقات القرن، وسن قوانين الهدم واحداً بعد آخر، وانتظار عودة «الدَّعوة»، عبر إتلاف جديد، إلى الوزارة لاتمام خراب 2014، هنا يكون الصّمتُ أولى. أقتبسُ مِن صاحب الدُّرر والجواهر: «وحينَ تطغَى على الحرَّان جمرتُهُ/ فالصَّمتُ أفضلُ ما يُطوَى عليهِ فمُ».
تُعد دزني باريس واحدةً مِن أكبر ملاهي الصِّبيان، لكنها جذبت الكبار أكثر، ومنذ تأسيسها (1992) صارت جزءاً مِن الخيال، بإحضار الماضي: قراصنة، وعلاء الدين وفانوسه السّحريّ، قصة «ألف ليلة وليلة» بالتماثيل، تدهش الأجداد والآباء قبل الأبناء، علاء الدين (ألادن)، الصَّبي الفقير رفعه فانوسه السحري، ليرضى به الملك زوجاً لابنته. إنها واحدة من خيالات الشَّرق، أنَّ يطير البساط بين البلدان، وقد حققها الغرب واقعاً باختراع الطائرات. مازالت «ألف ليلة وليلة» مجهولة المؤلف، وبتقدم فن التمثيل وصناعة الرسوم، صار الماضي خيالاً جميلاً.
قبل عصرنا كان للصبيان التهيأة للرجولة، لا شيء يخص الطّفولة، وإن وجدت ملاعبُ، فهي ما يخترعونه للهوهم، لا فضل للكبار به، وتُسمى «ملاعب الصّبيان»، ذِكرها أبو هلال العسكريّ(ت: 399هجريَّة)، ومنها: الزُّحلوقة، التَّزلّق على الرّمل والطِّين، والأرجوحة، والمفايلة، وغيرها مِن الملاعب(التَّلخيص في معرفة أسماء الأشياء)، تلك الملاعب لصبيان العامة، ليس لأولاد الملوك نصيبٌ فيها.
ما خص صبيان الملوك دزنيلاند، لكنَّ مِن نوع آخر، وهي ما عُرفت بـ «القرية الفضية»، شيدتها زوجة المعتضد العباسيّ(ت: 289هجرية)، لابنها المقتدر(حكم: 295- 320)، وربّما تفرد في ذِكرها القاضي والأديب المُحسّن التّنوخيّ(ت: 384هجرية)، وأخذها عنه ابن الجوزيّ(ت: 597 هجرية) في منتظمه.
«كانت القرية، على صفة قرية، فيها مثال البقر، والغنم، والجمال، والجواميس، والأشجار، والنبات، والمساحي، والنَّاس، وكلّ ما يكون في القرى»(التّنوخي، نشوار المحاضرة). فُسر إنشاؤها برغبة أمِّ المقتدر لتعريفه، وكان صبياً حين كُلف بالخلافة، بالقرى التي يحكمها، وملهاة له. لم تشغل الرُّواة القرية نفسها، والفن المبذول فيها، لم يذكروا أسماء النّحاتين، لتماثيل النّاس، والحيوانات، وأدوات الزِّراعة.
شغلهم عن ذلك قصة القَهرِمانة «نظم»- كان العهد عهد القَهرَمانات والقَهْارمة(وكلاء وأمناء)- إحدى المتنفذات، وهي الأقرب مِن السَّادة (أم المقتدر وأختها وأخوها الخال)، فلما أراد أحد المتصلين بالقَهرَمانة الاحتفال بتطهير ولده، بذلت له أمُّ الخليفة ما بذلت، وظلت في نفسه «القرية الفضية»، وهذه روضة الخليفة، فتقدمت القَهرَمانة إليه، سائلةً: «يا سيدي يلتمس أنْ تعيره القرية، فإذا رآها النَّاس عنده ارتجعت، فقال: يا ستي هذا والله ظريف، يستعير خادم لنا شيئاً، وتكونين أنت شفيعة فأعيره، ثم ارتجعه! هذا مِن عمل العوام لا الخلفاء، ولكن... وهبتُ له القرية، فامري بحملها بجميع آلاتها»(النشوار).
لم يبق مِن تماثيل القرية شيء، فما وصلنا مِن ذهب لحضارات بادت، بسبب تقاليد الدّفن، تُدفن متعلقات الملوك الشّخصية معهم، بأمل الرَّجعة بها. قُلتُ: ولا المؤرخون أفادونا بأكثر مِما تعلق بشأن يوميات دار الخلافة، وأين حلَّ الزَّمن بما أُنفق مِن فضةٍ في القرية، مع أنها كانت أعجوبة الدّهر، بهذا عبر المهداة إليه: «ويرى عندي ما لم يرَ في العالم مثله»، وهي لو كان يعمل للصبيان ملاهيَ، لكانت دزنيلاند زمانها.
بغض النّظر عمَّا حصل في الخمسة والعشرين عاماً مِن حكم «السَّادة»، في القصة تاريخ الفن الضَّائع، في الحروب والغزوات، حتَّى لم يبق لبغداد أثرٌ، والأمر أمامنا، جاء الخراب على تاريخها المدون، ليُكتب لها تاريخ آخر، و«القرية الفضية»! التي لولا تجاوز المُحْسِن التّنوخيّ، التّاريخ السِّياسي إلى الاجتماعيّ والعمرانيّ، ما عرفنا شيئاً عنها.
***
د. رشيد الخيون - كاتب عراقي