آراء
مسار عبد المحسن: نتائج زيارة بلينكن لبكين
"أوروبات" جديدة ونظام عالمي قديم
لم تُفلِح زهور اللوتوس؛ التي توسطت طاولة الاجتماعات، بين الرئيس الصيني، ووزير الخارجية الأمريكي، في رأب الصدع، بين واشنطن وبكين. أيضاً، لم يكُن الاختيار الرمزي لوقت الظهيرة؛ يوم الاثنين الماضي، التاسع عشر من يونيو 2023، والذي جمع بين الرئيس شي جين بينغ، والوزير بلينكن، حظ، في إعادة الذاكرة الأمريكية، إلى لقاء الظهيرة السابق، في الرابع عشر من نوفمبر السنة الماضيَّة، بين الرئيسين، شي جين بينغ وبايدن، في بالي الإندونيسيَّة.
الرمزيات التي سيطرت على لقاء بكين وبالي – هنالك المزيد - نجحت فقط، في إقناع الرئيس بايدن، بتوجيه كلمة غير مُحتشِمة دبلوماسياً، باتجاه صدر الرئيس شي جين بينغ: الدكتاتور .
الاتكاء على اللوتوس، الظهيرة، والدكتاتور، لا تصلح لتقدير درجة "فقر الدم" الدبلوماسي؛ الذي أصاب جسد العلاقة الخارجية، بين العاصمتين. الحديث كذلك عن رؤية مُتضاربة بين البلدين؛ فيما يخصُّ النظام العالمي، والتي ما يزال يُعبَّر عنها، باستخدام العلكة الإعلامية الأشهر: نظام أحادي القطُب ومتعدد الأقطاب، لا تعدو كونها رمزيَّة أُخرى، "خالية من المعنى"، على حدِّ تعبير فريدريش ميرز، أحد رؤساء أحزاب المعارضة الألمانية، والتي استخدمها لوصف العقيدة الاستراتيجية لبلاده، المُعلن عنها في الرابع عشر من يونيو 2023، والغارِقة في بحر الصين والمحيط الأطلنطي.
بروكسل، عاصمة الاتحاد الأوروبي، ربّما هي نُقطة الشروع المناسبة، لكي نُقدِّر حجم الرعب الدولي، في حال بقاء بكين وواشنطن، بعيدتين عن "المسؤولية التاريخية"، على حد تعبير الرئيس الصيني، المُلقاة على عاتقهما، في هذه اللحظة من التاريخ الإنساني. ولنبدأ السؤال بدون تأخير: لماذا تُصِّرُ واشنطن على أن تُغلِق بروكسل أبوابها بوجهِ بكين؟
أوروبا، هي الخزنة التاريخيَّة الأشهر لنظام توازن القوى العالمي. هانز. جي. مورغنثاو، العالم السياسي الأمريكي، يرى أن سبك هذه الخزينة، بدأ تأريخُه في القرن التاسع عشر: " شهد القرن الذي بدأ بعام 1815م وانتهى بنشوب الحرب العالمية الأولى، توسعاً متدرجاً للتوازن الأوروبي، متحولاً بذلك إلى نظام عالمي شامل". هكذا عندما نود تفسير المصطلحات اللغوية الجديدة؛ التي سيطرت على فم بروكسل وواشنطن، في تقييم وتحديد دور بكين عالمياً، مثل جُمُل "التخلص من المخاطر" و"فك الارتباط" مع الصين، نجِد أن تلك الجُمُل الصغيرة والبخيلة في التفسير، تُدافِع وببذخٍ مبالغٍ فيه، عن نُسخة نظام توازن القوى (النظام الدولي، أو العالمي، أو سمِّه ما شئت) كما تُريدُه واشنطن وبروكسل بالضرورة الأمريكيَّة.
توازن القوى هذا، كما افترض، دائماً ما كان مصمماً، ولكي يعمل بطريقةٍ مُثلى، على استبعاد أنظمة توازن فرعيَّة، في مناطق أخرى من العالم، كأمريكا الجنوبيَّة. لهذا لم يكُن من الغريب، أن تجاهل الرئيس زيلينسكي، مبادرة الرئيس البرازيلي، لولا دي سيلفا، لحل الأزمة الأوكرانية، على هامش قمة السبع الماضية، في هيروشيما اليابانيَّة، أواخر مايو 2023. أساساً لم يلتقِ به.
هذا النظام، بدأ يميل، منذُ خمسينيات القرن الماضي، وبحسب رؤية مورغنثاو إلى العمل بالشكل التالي: استهلاك التوازنات الداخلية للدول لصالحه، وميلان القوى الكُبرى فيه نحو استغلال الأنظمة المحلية للدول، وعدم قُدرة الدول غير الأوروبية بشكلٍ متزايد، على إصلاح اضطراب توازن القوى في أوروبا.
بكين هنا، تُمثِّلُ "ماهية" آسيا، وهذه "الماهية" باستعارة رؤية الإيديولوجية الماركسيَّة، لا يُمكن الإمساك بطبيعتها، كما نُمسِك بكرسيّ مثلاً. ولا يُمكِن تفسيرُها بـ "الحسابات الرياضيَّة" لواشنطن، في سياساتها الخارجيَّة، على حدِّ تعبير محمد حسنين هيكل، في كتابه (أحاديث في آسيا). لذلك فإنَّ ما قاله الرئيس الصيني، عن النظام الدولي، عند لقاءه الرئيس الأمريكي، في بالي، يستحق ذكرهُ هنا وباختصار: " حماية النظام الدولي الذي تُمثِّلُه الأمم المتحدة في جوهرها والمدعوم بالقانون الدولي. ولا نيَّة لدينا بتغييره".
التفاوت التفسيري لكلام الرئيس الصيني، حتمي، حالما نضعه في سياقات السياسة الدوليَّة، إلَّا إنَّهُ لا يقترح، بحسب المُعطيات المتوفرة، تغيير التوازنات العالميَّة، أو على الأقل، المُساهمة في تسريع عملية التغيير. لكن درهم الوقاية التاريخي، يُعلِّمُنا: إنَّ القوى الصاعِدة دائماً ما تعِدُنا بعدم سقوطِها الحُر، أمام جاذبيَّة مصالحِها!؟
بات علينا إذاً أن نسأل: ما هو الدور الذي تلعبهُ بكين حقيقةً في السياسات الدولية الآن؟
الإجابة المقترحة، تخرجُ من أوروبا أيضاً، برلين تحديداً. كان لافتاً إنَّ الألمان، اختاروا قبل أربعة أيام تقريباً، من زيارة الوزير بلينكن، للعاصمة بكين، وبأربعة أيَّام تقريباً، الإعلان ولأول مرَّة، عن امتلاك عقيدة استراتيجية، ذهبت، إلى أنهم سيركزون أكثر، من الآن فصاعداً، على السياسة الخارجية.
لم تكُن هناك أي رمزيَّة، في اختيار هذا التوقيت، بل شعور ضرورة، مُرتبط بتغيُّر المشهد العالمي، ومصيريَّة الاتفاق مع كُل اللاعبين المؤثرين في المشهد العالمي. بكين التقطت الكرة بسرعة، وقام رئيس وزرائها بزيارة برلين، بالتزامن مع وجود الوزير بلينكن.
المستشار الألماني اولاف شولتز، لم يتواضع مُطلقاً ولم يكُن متقشِفاً في التوضيح، كسياسات بلاده الاقتصادية، في عهد المستشارة السابقة، انجيلا ميركل؛ بل بيَّن وبكامل الأبهة، إنَّ العقيدة الاستراتيجية لبلاده، غيَّرت أوروبا القديمة: "تصميم الأمن الأوروبي قد تغيَّر بشكلٍ جذري". المستشار شولتز، أكَّد أيضاً إنَّ أوروبا المُتغيَّرة هذه، لن تُخرِج رأسها من خيمة الشراكة مع واشنطن. وهكذا يبدو إننا بتنا أمام "أوروبات" بدل أوروبا واحدة!
أعود هنا للاستعانة بمورغنثاو، وإشارته إلى إنَّ توازن القوى الأوروبي، والذي أصبح يمثل نظام توازن القوى في العالم، كان يحتاج أحياناً، إلى توازنات فرعية داخله، عبَّر عنها بـ "أوروبا صغرى داخل أوروبا الكبيرة".
واشنطن وكمثال، تحاول في صراعها مع موسكو بواسطة كييف، أن تخلق أوروبا أمريكية، مكوَّنة من أوروبا الشرقيَّة. هيكل أوروبا الأمريكية هذه، كُنت قد كتبت عنه مقالاً، بعنوان (مصير أوكرانيا بين الانتصار الروسي وولادة "مثلث فايمار" أمريكي)، يُغيَّر الطبيعة الجوهرية للسياسة الألمانية، المُتعلِّقة بروسيا وشرق أوروبا عموماً، وبالتالي كامل التوازنات الأوروبية، الكبيرة منها والصغيرة.
الصين، تحاول حقن النظام العالمي، بمزيد من أنظمة توازن القوى اللاأوروبية، بشكلٍ أساس، والمهجورة من قبل التصميم الأساس لتوازن القوى العالمي. مِثالُ ذلك، ما فعلته بكين دبلوماسياً، في إعادة العلاقات، بين الرياض وطهران. للطرافة التاريخية؛ فإن الانفراج بين البلدين اليوم، كان في الأمس، عقيدة أمريكية، رأت إنَّ قلب التوازن في الشرق الأوسط، يعتمد على الرياض وطهران، لتُستبدل الرياض فيما بعد، في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، بـ "إسرائيل".
رؤية بكين العريضة، إنَّ النظام العالمي، ولكي يعمل توازنُه، بشكلٍ صحيح، بات مُحتاجاً لأنظمة ثانويَّة، سواء أكانت إقليمية، أم توازنات صغرى داخل كُل أكبر. ولهذا تُعلن بكين مراراً وتكراراً، بأن أسلوب سياساتها الخارجيَّة، غير معني بالتحالفات والمحاور، إنّما بالشراكات مع الدول، وقد وضعت تَدَرُّجاً لهذه الشراكات، يبدأ من "علاقة استراتيجية" إلى "علاقة استراتيجية شاملة"، ليخرج الجميع فائزاً، بدون الفوز بكل شيء.
الصدام بين واشنطن وبكين، قد يكون حتمياً، بحسب عالم السياسة، جون ميرشايمر، وهو أمريكي الجنسية أيضاً. الغير حتمي إذا لطَّفنا مفردة الجنون، أن تدعم دول العالم صراعاً، لاختيار شكلٍ قديم من السياسات العالمية!
***
مسار عبد المحسن راضي - كاتب، صحافي وباحث عراقي