آراء
عبد السلام فاروق: أمريكـا.. حمراء أم زرقاء؟
منذ أسابيع مضت، كتبْتُ هنا عن الانتخابات الأمريكية، وتساءلت: هل يمكن أن يأتي اليوم الذي يناظر فيه ترامب كامالا هاريس؟! جاء سؤالي هذا حتى قبل أن يقرر بايدن الانسحاب من السباق الرئاسي؛ إذ كانت حالته الصحية تشير لحتمية انسحابه لمصلحة الحزب الديمقراطي..
وبعد مقالي السابق بأيام حدث الانسحاب وتمت تزكية كامالا هاريس باعتبارها المرشحة الأكثر حظاً، وظللت على يقيني بأن المناظرة قادمة بالتأكيد، حتى وإن أعلن ترامب غروراً وتكبراً أنه لن يحاور هاريس مطلقاً حتى لو ثبت ترشحها رسمياً. لكنه نزل مضطراً على حكم المسار الانتخابي، وها هي المناظرة التي وصفت بأنها تاريخية قد أجريت.
فما هي دلالات هذه المناظرة وما تبعات نتائجها؟ وهل يصير حاكم الولايات المتحدة الأمريكية القادم ديمقراطياً فتُصبغ باللون الأزرق، أم جمهورياً فيُطلي وجهها باللون الأحمر؟!
مناظرة الحسم
البعض يحلو له أن يقلل من قيمة المناظرات بين مرشحي الانتخابات الأمريكية، ويقع في ظنه أنها لا تستطيع التأثير على نتائج التصويت أو حسم أمر أحد المرشحين، غير أن الواقع يكذّب هذا الزعم؛ إذ أن المناظرة السابقة بين بايدن وترامب حسمت أمر ترشح بايدن واستبعدته من السباق الرئاسي في غضون أسابيع من المناظرة.
الأرقام والإحصائيات لها دور في تحريك الكتلة المستقلة، وجذب انتباه أولئك الذين يقفون من المرشحين في منتصف الطريق. هناك سبع ولايات متأرجحة، وتصويتها القادم سوف يكون هو الحاسم. لهذا تم اختيار أهم ولاية من الولايات المتأرجحة لتستقبل المناظرة بين كامالا وترامب، وهي ولاية بنسلفانيا، وهي من أكبر الولايات من حيث عدد أصوات المجمع الانتخابي. وفيما أظهرت استطلاعات الرأي الأولية تعادلاً بين ترامب وهاريس قبل المناظرة لدي جمهور تلك الولاية، فإن الاستطلاعات التي تلتها أكدت تفوق هاريس على ترامب.
اليوم التالي للمناظرة امتلأت فيه عناوين الأخبار في أشهر الصحف والقنوات الأمريكية معلنة فوز هاريس في أغلب استطلاعات الرأي، وفي مقدمتها استطلاع CNN الذي أكد تفوق هاريس بنحو 26 نقطة، وبنسبة 63: 37. وهو فوز أكبر من كل التوقعات.
المحللون والمراقبون قبيل المناظرة توقعوا أن خبرة ترامب الكبيرة وأسلوبه الهجومي الحاد سيضمن له هزيمة هاريس الأقل خبرة بالضربة القاضية. ثم جاء اللقاء الذي بدأ بينهما بمصافحة باردة ونظرات متحفزة من هاريس. والغريب أن الهجوم الأول في المناظرة أتي من جانب كامالا، ثم بدا واضحاً لسائر المتابعين أن هاريس استعدت لهذه المناظرة بخطة مدروسة، وأن مدربتها أجادت اصطياد ترامب بعدد من الشراك والأفخاخ، لدرجة أن الصحفيين سألوا ترامب بعد اللقاء بقولهم: كيف التقطت الطُعم الذي ألقمتك هاريس إياه؟
أكثر من هذا أن مناصري ترامب أنفسهم هاجموا ترامب بعد المناظرة، وأكدوا أن غروره أوحي له ألا يعد خطة للحوار، وأن يعتمد على العبارات المحفوظة التي يحلو له أن يكررها ويرددها في كل المؤتمرات الانتخابية واللقاءات الصحفية. تلك العبارات الجوفاء التي لا تخرج عن كونها اتهامات لأداء الحزب الديمقراطي خلال الأربعة أعوام الماضية. لهذا استطاعت كامالا أن تبادر بالهجوم ضد ترامب، ووصفته أكثر مرة بأنه كاذب وأن أداءه خلال فترة رئاسته يمثل عاراً على الرئاسة وأن الحكام والقادة يعتبرونه مهرجاً وأنه لا يتحلي بالجدية أو المسئولية في قيادة أمريكا. كما استطاعت هاريس الرد على جميع الاتهامات الجزافية التي ألقي بها ترامب في جعبتها نتيجة لاستعدادها وتدريبها المكثف بخلاف ترامب الذي اعتمد على ثقته الزائدة في ذاته.
انتخابات نارية
انتخابات أمريكا هذا العام هي الانتخابات الستين، وسوف تجري في الخامس من نوفمبر القادم على أن يتم تنصيب الفائز بالانتخابات في 20 يناير 2025. وهي انتخابات شاملة لمقعد الرئاسة ومقاعد مجلس الشيوخ والكونجرس وحكام الولايات. ولها طريقة معقدة في احتساب أصوات كل ولاية، تعتمد في الأساس على أصوات المَجمع الانتخابي لا الأصوات الشعبية. ويبلغ عدد أصوات المجمع الانتخابي 538 صوتاً موزعة على جميع الولايات. ويلزم المرشح الرئاسي عدداً من الأصوات يبلغ 270 صوتاً أو أكثر للفوز بالرئاسة.
فأما أصوات الجمهور رغم أنها مؤثرة، لكنها أصبحت عُرضة للتأثير الخارجي بشكل متزايد، خصوصاً وأن الأجيال الجديدة كلها صارت تتأثر في اختياراتها بمواقع التواصل الاجتماعي التي بات لها التأثير الأكبر على اختيارات الناخب الأمريكي. وربما نذكر في انتخابات 2016 كيف أن الاختراق السيبراني الذي قام به هاكر روسي للإيميل الخاص بهيلاري كلينتون تسبب لها في حرج بالغ مما أدي لفوز ترامب بمقعد الرئاسة. وقد نشر موقع إكسيوس مؤخراً خبراً عن عملية يقودها هاكر صيني يسيطر من خلالها على عدد من الحسابات المزيفة لأشخاص يزعمون أنهم أمريكيين ويبث من خلالها خطاب عدائي يؤلب الأمريكيين على بعضهم البعض.
مثل هذه الاختراقات قد تزداد بشكل أكبر خلال الشهرين القادمين، وسوف تتسبب في زيادة حالة الاستقطاب بين نسيج المجتمع الأمريكي الذي شهد خلال السنوات الماضية تغيرات ضخمة تحولت على إثرها إحدي الولايات الديمقراطية على ولاية متأرجحة بسبب تغيرات ديموجرافية واسعة النطاق، وهي ولاية نورث كارولينا.
يضاف إلى ما سبق تهديدات ترامب بأن فوز الديمقراطيين سيهدد استقرار المجتمع الأمريكي، وكأنه ينوي تكرار المشهد القديم لأنصاره باقتحام مبني الكونجرس وربما ما هو أسوأ.
قضايا شائكة
قضية غزة فرضت نفسها كأهم القضايا المؤثرة على تصويت الناخبين الأمريكيين على غير عادة القضايا الخارجية. فالمعروف أن التصويت الانتخابي يعتمد في الأساس على قضايا الداخل الأمريكي وفى مقدمتها الاقتصاد.
كلا المرشحين الديمقراطي والجمهوري أكدا دعمهما الكامل لإسرائيل من أجل استمالة اللوبي الصهيوني في أمريكا وهو من أقوي اللوبيات المسيطرة على تصويت المجمع الانتخابي سلباً أو إيجاباً. المدهش أن اليهود الأمريكيين أنفسهم يشهدون انقساماً حاداً في الرأي، البعض منهم ينحاز لرؤية نتنياهو وبن غفير في استمرار حرب الإبادة ضد غزة، والأكثرية يحضون على إبرام صفقة لإنهاء الحرب وتبادل الأسري. ما يعني أن أصوات اللوبي الصهيوني نفسها منقسمة على ذاتها ولا يمكن ضمانها.
القضية الثانية من حيث الأهمية قضية الهجرة وأمن الحدود. أما بايدن فقد قام خلال فترة رئاسته بتوفير مسارات قانونية لتوفيق أوضاع المهاجرين وتسهيل إجراءات الحصول على تأشيرة للخريجين الأجانب، لضمان عدم تكرار تدفق المهاجرين غير القانونيين. وهو ما أدي لارتفاع معدلات الهجرة القانونية خاصة من المكسيك ودول أمريكا اللاتينية.
على الناحية الأخرى توعد ترامب المهاجرين بإجراءات أكثر صرامة وأشد قسوة. وأنه سوف يستعين بالجيش الأمريكي لتأمين الحدود، وسوف يستكمل بناء الجدار العازل على الحدود الجنوبية. وقد لوحظ أن خطاب ترامب ازداد حدة ضد المهاجرين، فوصفهم بأنهم حيوانات وأنهم يسممون دماء البلاد، وزعم أن دول الجنوب يصدرون لأمريكا المجرمين والمدانين!
قضايا أخري جدلية شغلت الرأي العام باتت هي الشغل الشاغل للفريق الرئاسي لكلا المرشحين مثل الحرب الأوكرانية وقضية الإجهاض والحرائق الناجمة عن التغير المناخي وقضايا التعليم والاقتصاد والرعاية الصحية. وكلها قضايا رغم أهميتها إلا أنها غير قادرة على حسم الصراع الدائر بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لأن حالة الاستقطاب لدي الجمهور من ناحية، وحالة الهجوم المتبادل بين المرشحين من ناحية تجعلان التصويت العقلي يتقهقر أمام سطوة العاطفة والانحياز. لهذا فإن الانتخابات الأمريكية القادمة سوف تشهد أضخم حالة انقسام مجتمعي لم يسبق لها مثيل. وأتوقع ألا تهدأ تلك الحالة من الانقسام حتى بعد إجراء الانتخابات وإعلان الفائز برئاسة أمريكا. إنها انتخابات استثنائية في نتائجها ومجرياتها ولها تبعات خطيرة على كل المستويات داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها.
***
د. عبد السلام فاروق