نصوص أدبية

سعاد الراعي: الانكسار

كانت مها تقف عند العتبة الأخيرة قبل مناقشة موضوع بحثها للماجستير، لحظة هادئة كنبضة تتريّث قبل الاندفاع، حين انسدل في عالمها ظلّ ذاك الشاب الذي أخذ يلاحق خطواتها منذ أيام، كطيفٍ لا يفرض نفسه، لكنه لا يغيب. لم تُعره اهتماماً يُذكر، فقد اعتادت أن تمرّ على الوجوه مرور العابر على تفاصيل الشارع:

ترى ولا تتوقّف...

تسمع ولا تنشغل...

ثم تمضي.

ومع

ذلك،

كانت تمتلك حدساً صقلته التجارب، حدساً لا يخطئ التدبر حين يتوارى شيء خلف التفاصيل الصغيرة. رصدت نظراته التي تطول أكثر مما ينبغي، أسئلته المكرّرة بلبوس جديد، محاولات تقرّبه التي يحاول أن يمنحها معنى أكبر ممّا تسمح هي به.

لم تكن راغبة في أي علاقة جديدة.

تركت خلفها تجربة مضت كجرحٍ مفتوح ثم رُدم بالحجارة السوداء. تجربة حملت ما يكفي من الانكسارات لتجعل القلب يشبه حجراً ثقيلاً لا يريد أن يُمسّ مرة أخرى. وعندما غادرت إلى تلك البلاد الأوروبية البعيدة، حدّثت نفسها بأنها تهاجر من ذاكرة لا من وطن، ومن تجربة لا من ذات... وأن عليها هناك، بين برودة الشمال وحياد المدن الجديدة، أن تقيم مصالحة صامتة بينها وبين ذاتها، وأن تتعهّد قلبها بالترميم، وبعهدٍ صارم:

لا مغامرة،

لا جرح،

لا استسلام لنبضٍ خاطف.

كان عادل قد التحق حديثاً بالبرنامج الدراسي الجديد. بدأ حضوره في حياتها بأسئلة تبدو بريئة كأوراق الخريف:

كيف يتجاوز الطالب الجديد صعوبات الدراسة؟

ما أفضل طريقة للتأقلم مع متطلبات البحث؟

كانت تجيب بثقة لا تتصنّعها، فالكفاءة بالنسبة لها ليست ترفاً، بل قناعاً يحميها من ضعف كشفته الأيام يومًا ما.

كان عادل وسيماً بوسامةٍ هادئة لا تتعالى، مهذباً بقدر يجعله قريباً دون أن يكون متطفلاً، ولذلك لم تجد حرجاً في أن تمدّه بما يحتاج إليه من مساعدة.

وعندما كان يدعوها لفنجان قهوة في مقهى الجامعة، كانت ترى الأمر مساحة استراحة، لا أكثر، نافذة صغيرة تتنفّس منها قبل أن تعود إلى خريطة يومها الدقيقة.

مع مرور الشهور، توّلد بينهما شيء يشبه الصداقة، صداقة هادئة الملامح، ينمو ظلّها بلا ضجيج. بات يسألها عن ذوقها في اختيار ملابسه، يعرض عليها لون قميص أو ربطة عنق، فتبدي رأيها بابتسامة خفيفة مقرونة بتلك المسافة التي ترسمها حول قلبها كما يرسم الرسام خطًا أوليًا حول لوحة يريد أن يحميها من عبث الفرشاة.

لم يكن عادل أول من حاول الاقتراب منها. كثيرون كانوا يرون فيها جمالاً يصعب تجاهله، جمالاً ممزوجاً بصلابة تجعلها تقول دون أن تنطق:

"أنا لست فريسة، ولا أسمح لأحد أن يتجاوز حدودي".

امتلكت بصيرة شفيفة تميّز بها من اللحظة الأولى: بين العابث والجاد، بين من يجيد اللغة ومن يعبث بها، ولذلك اتقنت المضي دون أن تلتفت، واكتسبت القدرة على صدّ محاولات الآخرين دون أن تبدو جارحة ولا مستسلمة.

عادل، على خلاف ذلك، كان يقترب ببطء محسوب، كمن يخشى أن يوقظ جرحاً نائماً.

 دعاها إلى متحف في المدينة، ثم إلى افتتاح معرض فني، وكانت في كل مرة تكتشف صدفة جديدة تربط اهتماماته باهتماماتها، حتى خيّل إليها أحياناً أنه يقرأ العالم من الزاوية ذاتها التي تقف فيها، مع ذلك، ظلت واضحة وصريحة، قالت له بنبرة صادقة، جليّة إنّها لا ترغب في علاقة عاطفية، وإنه بالنسبة لها زميل وصديق، وإنها، وهذا ما لم تخفِه، تعتقد أنه جدير بالثقة.

لكنه لم يتراجع. ظلّ يتقدّم نحوها بخطوات متأنية لكنها واثقة... يحكي لها عن طفولته وعن مدينته الصغيرة في بلده البعيد، عن ذكرياته الأولى وجرحه العائلي القديم، ويصغي بحميمية لأي كلمة تقولها. كان أصدقاؤهما المشتركين يشهدون على نقاء سريرته، يطمئنونها بأنه صادق النية، كأن العالم من حولها يتواطأ، من غير قصد، على دفع قلبها خطوة نحو منطقة لم تشأ دخولها.

ومع الأيام صار حضورُه جزءاً من يوميّاتها، كظلّ يصاحبها دون أن يفرض نفسه، حتى أصبحت مشاعرها أكثر ارتباكاً، حذرة كالطائر الذي يخاف أن يضع قدميه على غصن قد ينكسر.

حلّ اليوم الذي انكسرت فيه تلك الاحتمالات جميعها، اليوم الذي انهار فيه كل شيء بعبارة واحدة.

كانوا يجلسون في مقهى صغير داخل الجامعة، يعجّ بالأحاديث والضحكات. راحت مها تصغي إلى حديث الأصدقاء بينما ذهنها شارد نحو بحثها، حين التفت إليها عادل، وكمن يعلن قراراً مصيرياً أمام الملأ، قال بصوت يسمعه الجميع:

"سأتزوجك يا مها.. رغماً عنك."

لم تكن الجملة كالصاعقة؛ كانت كإهانة تتسلل فجأة فتضرب الكرامة في الصميم. ارتجّ قلبها كوتر قُطع، وتحجّرت ملامحها بقسوة، واتّسع صمتها كأنه يستوعب المدى، بينما تلاشت في داخلها كل ذرة ثقة منحته إياها.

نظرت إليه نظرة تُشبه حدّ السيف حين يلمع قبل القطع. قالت بصوت هادئ، لكنه جارح بترو مخيف:

"ماذا قلت؟

ومن تكون أنت لتَهِب لنفسك حقّ تقرير حياتي؟

هل ظننتَ أن مشاعري تُنتزع كما تُنتزع الأشياء؟

احذر يا عادل..

فأنت لا تعرف أي امرأة تُخاطب."

نهضتَ!

خطوتها ثابتة،

وخرجت قبل أن يرى أحد تلك الدمعة التي أخفقت في منعها من أن تُفلت، دمعة غضب، لا ضعف.

لحق بها صديق مشترك لهما، محاولًا تبرير ما لا يُبرَّر. قال وهو يلهث:

" لم يقصد سوءاً يا مها.. خانه التعبير"..

لكنها قاطعته ببرودة مؤلمة:

"لن أراه مجدداً.

بلّغه ذلك."

مضت كمن يدفن علاقة لم تولد، لكنها أثقلت صدرها بما يكفي لتعرف أنّ هذا الباب قد أُغلق إلى الأبد.

مرّ أسبوع ثقيل...

صارت الجامعة واسعة كفراغٍ لا حدود له. كانت تمشي في الممرات نفسها، تتناول قهوتها من المكان نفسه، لكن غيابه كان يترك في داخلها رجفة خفية لا تعترف بها. لم تكن تريد أن تعترف بأن الألم الذي تشعر به ليس غضباً فقط، بل كسراً صغيراً لم تفهمه بعد.

ظهر صديقهما المشترك يوماً، جلس بقربها في المقهى، وقال بصوت متوتر:

"إنه مريض يا مها.. مكتئب بشدة. يندم بلا توقف. يقول إنه هدم كل شيء بلحظة طيش."

ظلت تأكل ببطء، كأنها تمنع نفسها من الاستسلام لما تسمعه، فقال:

"لقد ترك الدراسة.. يفكر بالرحيل."

رفعت رأسها. سألت بصوت هادئ يخفي اضطراباً لا يُرى:

"ولماذا؟"

قال: "لا يحتمل البقاء بعد ما حدث."

ابتسمت ابتسامة باهتة، وقالت:

"لا شيء يستحق أن يترك مستقبله لأجله. الأيام ترمّم كل شيء.. أو تتركه يختفي."

واصلت تناول وجبتها...

لم تضف شيئًا..

وحين انتهت...

غادرت بهدوء رخيّ.

بعد أسبوع آخر عاد للظهور. أولاً من بعيد، ثم من قريب. كان يأتي مع صديقه، كجسر أمان بينهما.

 شيئاً فشيئاً تلاشى الجليد، وبدأت تتبادل معه أحاديث خفيفة، ثم دعوات قصيرة. وحين اجتازت أصعب امتحاناتها وحققت نجاحاً مشرفًا، لاحظت ان قلبها بدأ يتفتّح من جديد.

قالت في سرّها:

"أخطأ.. لكنه لم يقصد. والرجل الذي يجرؤ على مواجهة خطئه إلى حد الانهيار ربما يستحق فرصة أخرى."

ومع ازدياد تقاربهما عادت الهمسات بين الزملاء، لكنها لم تعبأ، فقد تعلّمت ألا تحيا بتفسير الآخرين.

وفي يوم عيد العمال، قررا أن يقضيا نهاراً هادئاً عند البحيرة. كان المطر ينثر قطراته الخفيفة على السطح الهادئ، وحين وضع عادل يده على كتفها برفق يشبه اعترافاً بلا كلام، التقت نظراتهما، وفهم كل منهما الآخر. شعرت مها بأن جدار خوفها يلين، وأن هشاشتها ليست ضعفاً بل جزءاً من إنسانيتها المكبوتة.

ومنذ ذلك اليوم، بدأت العلاقة تنمو كشتلة صغيرة تُروى بالصفاء، علاقة فيها مودة خجولة ورغبة محتشمة ونظرات لا تريد أن تقول أكثر مما يجب.

مرت الشهور، لكن شيئاً غريباً بدأ ينساب كخيط بارد في قلبها. عادل لم يعد يتحدث عن مستقبل العلاقة، لمّح إليها مرة واحدة ثم صمت، حتى بدا وكأن رغبة الارتباط قد انطفأت فيه. وعلى العكس، كانت مها تشعر باحتياج يتنامى، بتوقٍ يتشكّل في صدرها كغيمة ثقيلة تبحث عن غواية اهراقها. كانت تنتظر منه كلمة،

إشارة،

وعداً بسيطاً.

لكن صمته كان يوجعها أكثر من أي جرح سابق.

وفي مساء هادئ، بينما كانت المدينة تخفت أضواؤها كشموع تُطوى، جمعَت شجاعتها، وقلبها يرتجف خلف هدوء صوتها، وقالت له:

"لقد حان وقت الارتباط يا عادل. أكملتُ ما يجب أن أُكمله، وأعرف أن متابعة الدكتوراه قد تواجه عقبات كثيرة. الآن هو الوقت الأنسب..

الوقت الأبلغ الذي أحتاج فيه إلى وضوحك."

صمتت، تراقب إرتجافة شفتيه،

تنصت إلى الثواني وهي تهوي بينهما كحجارة في هاوية.

رفع رأسه ببطء، كمن يخرج من غفلة طويلة، وفي عينيه لمعة غريبة لم تألفها من قبل، لمعة باردة لا تُشبه ذلك الحنان الذي اعتادته منه. ثم أطلق عبارته.. تلك العبارة التي لم تكن صدمة بقدر ما كانت نصل سيف انغرس في عمق روحها:

"أنا لا أنوي الزواج.. أفضّل أن تبقى علاقتنا بلا ارتباط، بلا قيود."

تجمّدت الكلمات في حلقها، كأنها اصطدمت بحجرة صماء داخل صدرها.

"ماذا تعني؟!"

خرج السؤال منها متكسّراً، لكنه لا يزال يحمل بقايا كبريائها.

أجاب ببرودٍ صادم:

"أقصد.. أن نبقي العلاقة حرّة."

عندها شعرت بأن الأرض قد تشققت تحت قدميها، وان ضفتا الأرض قد انطبقتا... لم يكن وقع الجملة مجرد خذلان، بل كصفعة مزّقت كل ما بنتْه من أحلام مؤجلة، وأوهام آمنت بها حين ظنت أن قلبها قد وجد أخيراً من يعرف قدره.

نهضت بغريزة من يبحث عن النجاة من حريق شبّ فجأة في صدره، واستدارت مبتعدة عنه...

خطواتها

طويلة

كأنها

تهرول

هرباً من نفسها

قبل أن تهرب منه.

كانت تعرف، وهي تمشي في الممر الفارغ، أن شيئاً ما، في أعماقها، هذه المرّة، قد انكسر.. انكساراً لا يجبره الوقت ولا تلملمه الأعذار. لم تكن لتبالي بما قد يقوله الآخرون عن تشظيها المفاجئ، ولا ما قد يتداوله الزملاء من همسات، الألم كان أكبر من كل ذلك، أعمق من سخرية الناس ومن شماتة من ينتظر سقوطها. كانت تبحث عن ذاتها التي خانتها.. حين ارتضت أن تمنح قلبها فرصة جديدة، فإذا بهذه الفرصة تنقلب عليها خنجراً لا تعرف كيف انغرز بينها وبين أضلاعها.

تلك الليلة، جلست ساعات طويلة على حافة سريرها، كمن يسهر فوق جرح مفتوح ينزف بكيد وقور. كانت تُحصي نبضاتها، وكل نبضة كأنها جلدٌ جديد تُنزله على نفسها عقاباً. همست في أعماقها:

"أنا السبب.. نعم، أنا الملامة. تركتُ له مساحة أكبر مما يستحق، فاجترأ حتى على قلبي."

لم يغمض لها جفن. ومع بزوغ الفجر، كانت قد اتخذت قراراً لم تتخيّله يوماً. وقفت أمام المرآة طويلاً. لم ترَ امرأة محطمة كما توقعت، بل رأتها.. رأت نفسها تطالبها باستعادة كرامتها من بين أنقاض هذا الألم.

قبل الظهيرة بقليل، قصدت غرفته. كان غارقاً في نوم ثقيل لا يشي بأن قلباً آخر غير قلبها قد نزف ليلة كاملة. هزّته بقوة حتى فتح عينيه مذعوراً، ثم قال وهو يحاول التخفّي خلف حنانٍ مفتعل:

"ماذا هناك يا حبيبتي؟!"

ردّت بصوت حاد وحاسم، لا يشبه نبرتها المعتادة:

"انهض. سنذهب الآن لعقد زواجنا. بعد ساعة سيكون كل شيء جاهزاً، وبعض الأصدقاء سيكونون شهوداً."

لم يبدِ اعتراضاً. بدا وكأنه يسلّم للأمر لا عن قناعة، بل عن لا مبالاة. تمتم بكلمات فاترة:

"كنت أريد زفافاً حقيقياً.. مثل أي عريس... كـ..."

لكنها لم تعطه فرصة لإكمال حديثه. قالت بحزم:

"نلتقي بعد ساعة!"

القت اليه بالعنوان...

وغادرت.

مضى كل شيء كما أرادت.. أو كما ظنت أنها تريد.

بقي الشرخ في داخلها عميقاً، غائراً، كصدع في جدار لا يجدي معه الطلاء مهما بدا متماسكاً.

في المساء، ازدانت القاعة بالأضواء، وتعالت الضحكات، وارتفعت الكؤوس احتفاءً بما ظنّه الجميع ليلة بهيجة.

كان «العريس» منتشيًا، يوزع ابتساماته يميناً ويساراً، كأن الكون قد وُضع بين يديه. أما هي فجلست صامتة، كأنها معزولة داخل قبة زجاجية لا يصلها من العالم سوى صدى جرحها الداخلي.

نهضت ببطء وهي ترفع كأسها كمن يحمل حملاً ثقيلاً. طلب منها أن تسمح له بمرافقتها حين همّت بالمغادرة، لكنها اكتفت بابتسامة باهتة وقالت:

"أنا بخير.. عدْ إليهم، إنهم ينتظرونك."

تركت يده...

انسحبت بخطى سريعة، تسبقها دموعها قبل أن تصل إلى باب الغرفة. كانت قد رتّبت كل شيء مسبقاً. جلست إلى الطاولة، وكتبت رسالة قصيرة بخط ثابت.. إلا أن ارتجاف قلبها كان يَفضَح بين السطور:

عزيزي عادل،

ورقة الزواج لم تُصدّق بعد، فهي لم تصبح رسمية،

أي في حكم الباطلة.

وعليه، فأنت في حِلّ من أي ارتباط.

أتمنى لك كل الخير.

"مها"

*

وضعت الرسالة على المكتب، حملت حقيبتها، ثم سحبت حقيبة السفر الصغيرة التي أعدّتها بصمت.

تركت باب الغرفة مواربًا، كأنها تُخرج أخيراً كل ما أثقل روحها.

وقفت أمام المصعد لحظة...

سحبت نفساً عميقاً بدا كأنه يطرد آخر ذرة وجع.

دخلت..

انغلق الباب خلفها.

وبانغلاقه، كانت حياةٌ كاملة تُطوى،

لتولد أخرى..

ولو من رماد قلبٍ مكسور.

***

سعاد الراعي

في نصوص اليوم