نصوص أدبية

سعد غلام: نَذيرُ رسائِلِ الحُدودِ

ا- [بوَّابةٌ لا تُفْتح]

وصَلْتُ إِلَى الْحُدودِ، فَوجدْتُ الجِدارَ أَعْلى مِنْ صَوْتي،

والسِّلاحَ يُسمُّونهُ هُنا "أَمْنًا"، والكَلامَ يُسمُّونهُ "جُرْمًا"

قَالُوا: "لا تَدْخُلْ، هَذا ليْسَ مَكانَكَ"،

فَقُلْتُ: "لكِنَّ الْأَرْضَ تَحْتي تَحْمِلُ تُرَابي ،

فَأَغْلقُوا البَوَّابةَ، وتَركُوني أُنَادي فِي فَراغٍ لا يُعيدُ الصَّدى

أُنَادي: "أَنا مِنْ هُنا... أَنا مِنْ هُنا"،

فَيرْتدُّ صَوْتي كَطرْقةٍ عَلى جَدارٍ لا يَموتُ،

وأَعْرِفُ أَنَّ الحدَّ ليْسَ خَطًّا عَلَى الرَّمْلِ،

بَلْ جُرْحٌ فِي الحَشائِشِ يَنْزِفُ صَمْتًا

فَأَكْتُبُ اسْمي عَلَى الجِدارِ بِدمي... فَيَمْحوهُ المَطرُ،

وأَعودُ فَأَكْتُبُهُ أَيْضًا... حَتَّى يَعْرِفَ الجَدَرُ أَنَّني لَمْ أَرْحَلْ

**

ب- [الحَقيقَةُ المُتَحرِّكَة]

لَا تَسْأَلُوني عَنْ حَقِّ الحَقيقةِ،

الحَقيقةُ هُنا سِجْنٌ مُتَحرِّكٌ يَتْبَطعُ خُطايَ

كُلُّ مَنْ يَنْطِقُ بِها يُسْجنُ، وَكُلُّ مَنْ يَسْكُتُ عَنْها يُدانُ،

أَنا مَا زِلْتُ أَكْتُبُ، رَغْمَ ذَلِكَ، لِأَنَّ الصَّمْتَ نَفْسهُ أَصْبحَ شَهَادةً

أَكْتُبُ عَلَى الجَدَارِ: "الحَقُّ أَنَا... أَنَا... أَنَا..."

فَيَنْشَقُّ الجِدَارُ... وَيَنْشَقُّ صَدْري... وَيَنْشَقُّ الزَّمَانُ

وَأَعْرِفُ أَنَّني لَا أَكْتُبُ لِأُحَرِّرَ الْحَقَّ،

بَلْ لِأُحَرِّرَ القَلَمَ مِنْ خَوْفِهِ،

فَإِذَا كَتَبْتُ... صِرْتُ أَنَا الْحَقَّ... وَصِرْتُ أَنَا السِّجْنَ... وَصِرْتُ أَنَا الْحُرِّيَّةَ

**

ج- [نَذِيرٌ لَا يُرَى]

أَنَا نَذِيرُ رِسَائِلِ الحُدُودِ، أَحْمِلُ الكَلِمَةَ عَلَى كَتِفي كَصَليبٍ،

أَمْشي بَيْنَ الأَشْوَاكِ، أَحْمي الوَرْقةَ مِنَ الرِّصاصِ،

أُخْبِرُهُمْ أَنَّ الأَرْضَ تَحْتنا واحِدةٌ،

وأَنَّ التُّرابَ الَّذي نَمْشي عَليْهِ لا يَعْرِفُ الحُدودَ،

وأَنَّ اسْمي الَّذي كَتَبْتُهُ عَلَى الجِدارِ لَيْسَ اسْمي...

بَلْ اسْمُ الأَرْضِ... اسْمُ التُّرابِ... اسْمُ الكَلِمةِ

فَإِذَا أَغْلَقُوا البَوَّابةَ، أَكْتُبُ عَلَى الجِدَارِ: "افْتَحُوا قُلُوبَكُمْ"،

وَإِذَا مَحَوُوا الكَلِمَةَ، أَكْتُبُهَا فِي دَمِي،

وَإِذَا سَجَنُوني... أَكْتُبُهَا فِي صَمْتي...

حَتَّى يَعْرِفَ الصَّمْتُ أَنَّهُ لَيْسَ صَمْتًا... بَلْ صَوْتًا أَخِيرًا.

**

د- [رِسَالَةٌ إِلَى مَنْ بَعْدي]

إِذَا وَقَفْتَ هُنَا يَوْمًا، فَأَعْلَمْ أَنَّ الجِدَارَ لَيْسَ نِهَايةً،

بَلْ بَوَّابَةٌ إِلَى مَا بَعْدَ الجِدَارِ... إِلَى مَا بَعْدَ الصَّوْتِ... إِلَى مَا بَعْدَ الحُدُودِ

وَأَعْلِمْ أَنَّ اسْمي الَّذِي كَتَبْتُهُ لَيْسَ اسْمي...

بَلْ اسْمُكَ أَنْتَ... فَاكْتُبْهُ... وَلَا تَخَفْ

فَإِذَا مَحَوُوا اسْمَكَ، فَاكْتُبْهُ فِي دَمِكَ،

وَإِذَا سَجَنُوكَ، فَاكْتُبْهُ فِي صَمْتِكَ،

وَإِذَا قَتَلُوكَ... فَاكْتُبْهُ فِي التُّرَابِ...

فَالتُّرَابُ لَا يَعْرِفُ الحُدُودَ... وَلَا يَعْرِفُ الْمَوْتَ...

وَالتُّرَابُ هُوَ الكَلِمَةُ الأَخِيرَةُ... وَهُوَ الْحَقُّ الْأَوَّلُ

**

هـ - [العَوْدَةُ دُونَ جَوَاز]

أَعُودُ إِلَى الحُدُودِ، لَا جَوَازَ فِي جَيْبِي... لَا اسْمَ فِي كَشْفِ الْعَدَدِ،

فَأَقِفُ أَمَامَ الجِدَارِ... أُقَبِّلُهُ... أُعَانِقُهُ... أُبْكِيهِ...

وَأَقُولُ لَهُ: "أَنَا لَسْتُ عَابِرًا... أَنَا مِنْكَ... أَنَا مِنْكَ"،

فَيَنْشَقُّ الجِدَارُ... وَأَمْشِي...

وَأَعْرِفُ أَنَّني لَمْ أَعْبُرْ الْحَدَّ... بَلْ عَبَرْتُ خَوْفي...

وَأَصْبَحُ أَنَا الحَدَّ... وَأَصْبَحُ أَنَا الجِدَارَ... وَأَصْبَحُ أَنَا الكَلِمَةَ

**

و- كُودَا

[نَبْضُ الجِدَارِ الأَخِير]

هُنَاكَ

-عِنْدَ آخِرِ الحَدِّ-

يَنْبُضُ الجِدَارُ كَأَنَّهُ صَدْرٌ يَبْتَلِعُ صَوْتِي،

وَيَرْفَعُنِي فِي هَوَاءِ اللَّيْلِ كَكَلِمَةٍ

تَخْرُجُ مِنْ جُرْحٍ وَتَعُودُ نُورًا

*

كُلَّمَا سَقَطْتُ، رَفَعَنِي تُرَابٌ يَعْرِفُ قُدُومِي،

وَكُلَّمَا انْطَفَأْتُ، أَضَاءَتْ فِيهِ نُقْطَةٌ

كَأَنَّهَا أَوَّلُ أَسْمَائِي

*

وَحِينَ أَمْتَدُّ فَوْقَ الظِّلِّ،

أَرَى أَنَّ الجِدَارَ الَّذِي كُنْتُ أَخْشَاهُ

هُوَ الَّذِي يَكْتُبُنِي الآنَ،

وَيَفْتَحُ فِي صَدْرِهِ بَابًا لَا يَغْلِقُ

*

فَأَدْخُلُ...

وَأَتْرُكُ وَرَائِي الخَوْفَ،

وَأَحْمِلُ أَمَامِي كَلِمَتِي

*

وَأَعْرِفُ-أَخِيرًا-

أَنَّ الحَدَّ لَمْ يَكُنْ سِوَى خُطُوطِ صَوْتٍ،

وَأَنَّ مَنْ يَعْبُرُ كَلِمَتَهُ

لَا يَعْرِفُ جِدَارًا...

بَلْ يَصِيرُ هُوَ البَوَّابَةَ

***

د. سعد غلام

 

في نصوص اليوم