نصوص أدبية

كريم عبد الله: أنشودة الانهيار

استيقظ “هو” في صباحٍ لا يشبه الصباحات. الضوء الذي انسرب من شقوق النافذة لم يكن ضوءًا، بل رمادًا باهتًا يسقط فوق الأشياء. جلس على طرف السرير، شعر أنّ الأرض تميد تحته ببطء، كما لو أن شيئًا في داخله يتهدم بصمت.

لم يكن يعرف منذ متى بدأ هذا الانهيار. ربما منذ اليوم الذي فقد فيه وجهه في مرآةٍ لم تعد تُعيد ملامحه كما كانت. كان يرى فيها رجلاً شاحبًا بعينين زجاجيتين، تشبهان حفرتين امتلأتا بالخوف.

خرج إلى الشارع.

المدينة كانت هادئة على نحوٍ مفزع، والوجوه تمضي كأنها أطيافٌ بلا ملامح. حاول أن يتذكر أسماء الناس الذين يحبهم، لكنه لم يجد إلا أصواتًا بعيدة تتهشم في ذاكرته. كان يشعر بأنه يسير في حلمٍ ثقيلٍ لا نهاية له، وأن كل خطوة يخطوها تُغرقه أكثر في ضبابٍ داخلي لا ينجلي.

في داخله كانت حربٌ صغيرة، لكنها أشرس من كل الحروب.

لم تكن بينه وبين العالم، بل بينه وبين نفسه. هناك جيوش من الخوف تتحرك في صدره، فرسان من الذكريات القديمة يطعنون قلبه في كل لحظة. كان يسمع صليل أفكاره المتعارضة، يرى الدخان يتصاعد من روحه، يشمّ رائحة احتراقه، ولا يستطيع أن يصرخ.

توقف عند جدارٍ رمادي وراح يحدّق في الشارع. كل المارة يبدون كأنهم يسيرون في اتجاهٍ واحد، أما هو فكان عالقًا في منتصف الطريق، لا يعرف إلى أين يذهب.

فجأة لمح وجهًا في الزحام — وجه امرأة كانت يومًا تشبه الربيع. لم يكن متأكدًا أهي هي حقًا أم أن قلبه اخترعها لينجو من وحدته.

ابتسمت له، أو ظنّ أنها ابتسمت، فتحرك نحوها، لكن كلما اقترب، تراجعت الصورة، تلاشت شيئًا فشيئًا، حتى ذابت في الهواء كالبخار.

توقف، ارتجف، أدرك أن الحب لم يكن سوى وهمٍ آخر… جرحٍ جديد يضاف إلى حربه القديمة. ذلك الوجه الذي ظنّه خلاصه لم يكن إلا مرآةً لحزنه، وهكذا عرف أنه لا يهرب من أحد، بل من نفسه.

عاد إلى بيته بعد أن أُطفئ النهار في عينيه. جلس أمام النافذة، ينظر إلى السماء. كانت رمادية كقلبه، والغيوم تسير ببطء كجنودٍ متعبين. تساءل بصوتٍ خافت: هل انتهت الحرب؟ أم أنني ما زلتُ في أولها؟

لم يأتِه جواب.

غير أن قلبه خفق فجأة كما لو أن شيئًا ما في داخله انهار نهائيًا. ابتسم ابتسامة صغيرة — كانت أشبه باعترافٍ خفيّ بالهزيمة.

في تلك اللحظة، سكن كل شيء. لم يعد يسمع الأصوات في رأسه، ولا وقع الحرب في صدره. شعر أنه يذوب ببطء، كما يذوب الجليد في يدٍ دافئة.

وعندما أطلَّ الصباح من جديد، كان كل شيء كما هو — المدينة، الجدار، السماء الرمادية — إلا هو، فقد صار ظلًّا يمشي في ضوءٍ لا يراه أحد.

***

قصة قصيرة بقلم: كريم عبد الله

بغداد - العراق

في نصوص اليوم