نصوص أدبية

مجيدة محمدي: حياة بين فكي الموت

كان الليلُ يُطبِقُ على الجهاتِ كلِّها كجدارٍ بلا أبواب،

والأرضُ ممدودةٌ مثل صفحةٍ من غبارٍ قديمٍ، لا يَجرؤ أحدٌ على الكتابة عليها .

غير أنّ في العظمِ صوتاً خفياً بدأ يَرتجُّ،

كأنه سحابة مرعدة لم تجد ارضها بعد،

صوتٌ يريدُ أن يتجسَّد،

أن يصيرَ خطواتٍ على الحصى،

أن يُثبت أنّ الحكايةَ تبدأ حين يُصرُّ إنسانٌ على أن يَصنعَ مقامَهُ بنفسه.

*

مشى… والظلالُ تَطوفُ حوله كذئابٍ من دخان،

والأحجارُ ترتفعُ أمامهُ كسؤالٍ يتجدّد عند كلِّ خطوة.

لم يحملْ خريطةً، لم يسألِ الغيمَ عن وجهة،

يريد إسترجاع الطريقِ القديم ،

وتطويعَ الأرضِ لتُقرَّ بوجوده.

*

وفي العراء، لمحَ كائناً صغيراً،

طفلاً يتيمَ الملامح،

يجلسُ على هامشِ الريحِ كأنّهُ ينتظرُ من يعترفُ به.

اقتربَ، فرآهُ مكسوراً، مطعوناً ،

طفلاً اغتيل إسمه بالصمت .

فعلم أنّهُ الشرف،

ذلك اليتيمُ الذي أهملهُ الجميع،

المطروحُ على العتبات،

الذي لا يُرفَعُ إلا بيدٍ تؤمنُ أنّ الاحتضانَ امتحانٌ للنار،

وأنّ النارَ لا تُحرقُ مَن وُلدَ ليصيرَ وقودَها.

*

مدّ ذراعيه وحملهُ إلى صدره،

فاشتعلَ الدمُ في عروقهِ،

صار أثقلَ، لكنّهُ أكثرُ امتلاءً،

وصارَ الجسدُ حجراً جديداً

وانقلبَ الطريقُ إلى ملحمة،

صارَ كلُّ حجرٍ كلمة،

كلُّ غبارٍ جملة،

كلُّ ارتطامٍ بياناً يكتبهُ بصوتٍ لا يَعرفُ التردّد.

*

لم يعدْ يسيرُ وحده،

كان يجرُّ خلفهُ ذاكرةً بأكملها،

ذاكرةَ السقوطِ والصعود،

ذاكرةَ الذين انحنوا،

والذين قاوموا،

والذين ناموا على أرصفةِ الانتظار.

كلُّ ارتعاشةٍ في جسده كانت صفحةً جديدةً

في كتابٍ لا يريدُ أن يُغلق،

وكلُّ صمتٍ حوله كان يشهدُ أنّ المكانَ يُولدُ الآن،

من خطى إنسانٍ يرفضُ أن يكونَ ظلّاً لغيره.

*

وفي الليل، حين تخلّت النجومُ عن الحراسة،

ظلَّ يسمعُ في داخلهِ صوتاً يُذكّرهُ ،

أنّ المكانَ ليس حدوداً مرسومةً بالحبر،

بل قَدَرٌ يُنتزعُ بالدمّ،

أنّ الشرفَ ليس وشاحاً يُعلَّقُ على كتفٍ،

بل جمرةٌ تُحتضنُ حتى لو أحرقتِ الجلد،

أنّ الكرامةَ ليست امتيازاً،

بل هواءً يساومُ عليه.

*

ومضى،

لا يتوكّأُ على وعودٍ،

ولا يستظلُّ بذاكرةٍ واهنة،

بل يصنعُ بنفسه سُلّماً من صوتهِ،

ويصعدُ بهِ نحوَ فجرٍ لا يُشبهُ ما عرفناه.

وعند الحافة،

حين ابتلعت السماءُ سوادَها وبدأت تُخرجُ لوناً جديداً،

وقفَ هناكَ كمن صارَ المكانَ نفسَه،

لا ضيفاً، ولا عابراً،

بل جذراً يُمسكُ الأرضَ،

وقصيدةً مفتوحةً على الدوام.

*

لقد أدركَ أنّ المسألةَ لم تكن رحلةً في الطريق،

بل رحلةً في ذاته،

أنّ كلَّ جدارٍ في الخارجِ ما هو إلّا صدى لجدارٍ في الداخل،

وأنّ الكرامةَ لا تُكتشفُ في الساحات،

بل في غرفةٍ سرّيةٍ بين الضلوع.

وأنّ من يحتضنُ الشرفَ لا يعودُ إنساناً فرداً،

بل يُصبحُ أمّةً تمشي على قدمين،

وفكرةً تتنفّس،

وأغنيةً لا تسكتُ حتى لو صمتَتْ الأرض.

*

و حين فتحَ الفجرُ نوافذَهُ،

كان واقفاً على العتبة،

ممتلئاً بالمعنى،

مُحتضناً ذلك الطفلَ الذي صارَ قلبَه،

مُمسكاً بمكانٍ لم يمنحهُ أحد،

بل انتزعهُ كما تُنتزعُ الحياةُ من بين فكّي الموت.

***

مجيدة محمدي – شاعرة تونسية

في نصوص اليوم